كتاب ، قلعة القاهرة، قلعة الجبل تشق طريقها للنور بسرعة فائقة لتصمد طويلاً في وجه المحن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس غرة صفر 1424 هـ الموافق 3 ابريل 2003 حينما نتحدث عن التاريخ، فإننا لا يمكن أبدا ان نكون دقيقين في تصويره، طالما أننا غائبون عن صورة الحدث وما تحيط به. من هنا لجأ الانسان منذ القديم، الى تصوير تاريخه بشتى الوسائل ما أمكنه ذلك، فكانت الرسومات والتاريخ المدون وحتى الشعر من أهم وأقدم الأدوات التي أتاحت له تصوير التاريخ. بيد ان الأغلب، ان لم يكن الجميع، متفقون على ان الآثار هي أفضل الوسائل التي تصور التاريخ على أكمل وأفضل شكل. فمن جانب هي صورة نابضة بالحياة على مر العصور على تلك الأحداث، وتكشف ما كان يجول في عقل وتفكير وخيال مجتمع كامل وليس في أذهان أشخاص محددين بالضرورة. من هنا نرى ان كبرى الآثار في العالم: الاهرام وأبي الهول في مصر، الحدائق المعلقة في العراق، سور الصين العظيم، وغيرها من الأمثال الكثيرة، ما هي سوى خير دليل على عظمة العقل البشري، الذي استطاع ان يوجد بأدوات بسيطة للغاية بنايات وهياكل نقلت الانسان قرونا الى الأمام، وباتت قبلة للألوف من الزوار والسياح والباحثين الذين يقصدونها من كل حدب وصوب. والكتاب الذي نناقشه هنا يسلط الضوء على أحد أكبر المعالم التاريخية العربية والاسلامية على حد سواء. فقلعة القاهرة تتمتع بالكثير من المعالم والفن والتصميم الفريد الذي جعلها تحظى باعجاب الكثيرين وتستقطب قلوب وعقول الكثير من المهتمين بالفن المعماري والآثار الاسلامية على مر العصور. وينقسم الكتاب الى ثمانية فصول تتعلق بالمراحل التاريخية التي مرت بها قلعة القاهرة، من نشأتها وحتى عصر المماليك، على ان الفصل الثاني يتعلق بالعصور التالية، كالعصر العثماني وحكم محمد علي باشا والعصر الحديث. ومن خلال معالجة موضوع الكتاب من الجانب التاريخي، بالتطرق الى الأحداث والارهاصات السياسية التي رافقت فترة الحكم الأيوبي وعهد المماليك وغيرها، وكذلك الجانب المعماري المتمثل بعشرات المخططات والخرائط التاريخية للقلعة، يمكن القول ان هذا الكتاب يعد من أهم الكتب التي تعالج موضوعا مهماً يعد من أبرز معالم التاريخ المعماري الاسلامي. البداية المذهلة ينطلق المؤلف بالقول ان قلعة الجبل في القاهرة هي القلعة الوحيدة في مصر وآخر سلسلة القلاع التي تم بناؤها في الأناضول، وسوريا، والجزيرة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وتعد من أهم القلاع وأكثرها فخامة لكونها مقراً لحكم الأيوبيين، ومن ثم المماليك الذين هيمنوا على المشهد السياسي في المنطقة ما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر. وشرع القائد صلاح الدين الأيوبي ببناء القلعة في عام 1176 لتكون موقعا حصينا ضمن خطة دفاعية طموحة وهائلة تطوق مدينتين ـ القاهرة، العاصمة الفاطمية آنذاك، والفسطاط، المركز الاقتصادي، في جدار واحد. وبعد شرح موجز للأحداث التاريخية التي مرت بمصر في تلك الفترة، والتي قادت الى القضاء على الحكم الفاطمي وظهور الحكم الأيوبي، يقول الكاتب ان القلعة بنيت على قمة جبلية بأرتفاع 75 مترا امتدت غربا من المنحدرات الصخرية لتلال المقطم صوب نهر النيل في منتصف الطريق تقريبا فيما بين مدينتي القاهرة والفسطاط. ووقع الاختيار على ذلك المكان عندما علق صلاح الدين قطعا من اللحم في أماكن مختلفة من القاهرة ليقرر المكان الذي ظل فيه اللحم صالحا فترة أطول. وكان هذا الموقع يشرف ويهيمن على مدينة القاهرة في الشمال الغربي ومدينة الفسطاط في الجنوب، والأرض التي كانت شبه مهجورة فيما بين المدينتين. وفضلا عن ذلك وفر اختيار تلك البقعة ميزة أخرى تمثلت بمراقبة الطرق المؤدية الى المدينة، وللتحكم بشكل فعال في الممر الشمالي الجنوبي بين المدينة وتلال المقطم. والأهم من ذلك كله، ومن الناحية العسكرية والسياسية المحضة، كانت القلعة على مقربة كبيرة من المدينة بحيث لا يمكن عزلها عن المدينة في حال الحصار، في الوقت ذاته تتميز ببعض العزلة التي توفر للحاكم ملاذا في حالة الفوضى المدنية. وتم تنفيذ المرحلة الأولى من عملية التشييد بسرعة مذهلة، اذ تم بناء الجدران وقطع الأحجار الخاصة بالخنادق المحيطة بالجدران وجرى حفر خندق مائي عميق حول القلعة، بالاضافة الى طريق ضيق في ما وراء القلعة. وأستغرق هذا العمل، كما يشير المؤلف من خلال المصادر التاريخية، الكثير من الموارد المالية والقوة البشرية. وشغلت تلك القلعة مساحة كبيرة من الأرض وضمت بعض القصور والممرات والمطوقات والجدران الكبيرة والأبواب الكبيرة. مع الظاهر بيبرس في عهد المماليك الأول، (1260 ـ 1276)، يقول المؤلف ان الملك الظاهر بيبرس كان سلطان مصر الثالث الذي يترك بصماته الدائمة على مراحل تطور جبل القلعة. وفي عهده حصلت القلعة على مكانة بارزة تمثل في كونها مركز السلطان الذي شمل حكمه مصر وسوريا. وفي الوقت الذي كان فيه صلاح الدين أول من بدأ عملية البناء فانه لم يكملها أبدا في فترة حياته، والملك الكامل جعل منها مركزا للحكومة الأيوبية، وقرر الملك الظاهر، وبعد فترة من التردد، توسيعها واعادة تزيينها وترتيب التصميم الداخلي لتلائم هيكلية دولة وجيش المماليك الجديدة. وقام أيضا بتعزيز بعض الدفاعات وتوفير امدادات المياه وصمم خطط التوسيع تجاه المدينة. وقرر الظاهر أيضا انشاء ثكنات مركزية لجنود كبار الامراء في روضة القلعة، التي كانت منعزلة عن الجنود الملكيين الموجودين في أماكن أخرى من القلعة. وفضلا عن ذلك، قام الظاهر ببناء أماكن اقامة الى الأشخاص المقربين من الأمراء، وتشييد العديد من القصور الى الأمراء وشجع الآخرين على بناء القصور أسفل القلعة وحول الميدان لتعزيز قوة المماليك من جانب، ولكون هؤلاء الأمراء يشكلون أهمية كبيرة للحاكم . وأفضى هذا الأمر بدوره الى توسيع مدينة القاهرة من الجنوب، وباتت المناطق المحيطة بجامع ابن طولون وبركة الفيل وشارع العظم مناطق مأهولة بالسكان. ومن بين أبرز التغيرات التي أدخلها الملك الظاهر بيبرس على القلعة هي تقسيمها الى حصنين منفصلين بسور القلعة، فكان الجزء الشمالي هو القسم الاداري والعسكري، والجنوبي هو الخاص بالسلطان وحاشيته، والذي كان مقسما الى مناطق صغيرة وخاصة. وضم القسم الشمالي ساحة القلعة التي تؤدي الى باب المدرج. وفي القسم الغربي والجنوبي من المحوطة الجنوبية، داخل الجزء الملكي من القلعة، قام الملك الظاهر ببناء الكثير من الأنصاب والبنايات المعنية بتوفير الخدمات. وكان من بينها دار الذهب، التي كانت قاعة الاستقبال الخاصة به، بالاضافة الى ثكنتين تطلان على البلاط خارج جامع القلعة، وتفضيان الى منطقة الايوان. وقام أيضا بترميم البرج الأحمر وباب الزاوية بالقرب من باب السر. أما أبراج قلعة القاهرة فقد تم تصميمها لتكون مناطق دفاعية قوية. وفي المراحل الأولى جرى استخدامها كمناطق سكنية محصنة أو كسجون للأمراء وكبار المسئولين الآخرين. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر، باتت القلعة، كما يوضح المؤلف، مكتظة بالكثيرين بسبب الزيادة السريعة في شراء المماليك من جانب الأمراء، فقام الصالح نجم الدين أيوب راعي المماليك البحرية والذي انطلقت من تحت عباءته جماعات المماليك السلاطين فيما بعد، بشراء أكثر من ألف من المماليك خلال فترة حكمه. وقام الظاهر بدوره بشراء أكثر من أربعة آلاف من المماليك، على ما يبدو ليحافظ على نفوذه القوي. أما السلطان قلاوون فقد أدخل الكثير من التعديلات والتحديثات على القلعة، اذ شيد دار النيابة في عام 1288 التي شملت قاعة أرضية فيها نافذة للتهوية وكان مقرا للاجراءات القانونية. أما برج المنصوري الكبير فقد تم تشييده في عام 1283 الى جانب باب السر الكبير وكانت تنتصب فوقه الكثير من غرف المشاهدة التي صنعت جدرانها من الرخام. ويرى المؤلف ان قبة المنصورية من أهم الاضافات التي تم ادخالها، لتكون بديلا عن قبة الزهرية، التي دمرت في عام 1286. وكانت قبة الأشرفية من السمات المميزة التي قام ببنائها الحاكم الأشرف خليل 1290 ـ 1293 والتي كانت بمثابة قاعة استقبال كبيرة. وكانت تتألف من ايوانين تبلغ مساحة الايوان الشمالي الغربي 5,10 أمتار والجنوبي الشرقي 65,9 أمتار. وتم تصميم أرضية الايوانين بالرخام على شكل مخططات هندسية ما زالت آثارها موجودة حتى الآن. ولا يغفل المؤلف عن التحدث عن التصاميم الداخلية لقاعة الاشرفية. فهي، على عكس المشاهد التي تحفل بها قبة الاشرفية والتي تمثل تقاليد فسيفساء الحكم الأموي، ذات تمثيل مختلف تماما وتمت بالقليل من الصلة الى تقاليد وأنماط الفسيفساء المعروفة. فقد كانت مليئة بالصور ذات التصاميم الهندسية الجميلة والأشكال الرائعة والتي نالت حقا اعجاب الكثيرين من الباحثين. ويخلص المؤلف الى القول ان جميع البنايات التي تم ذكرها تقع ضمن حدود المطوقة الجنوبية التي قامت الأيوبيون بتصميمها. وعلى مدى الفترة التاريخية التي سبقت الناصر محمد، التزم السلاطين بتطوير القلعة ضمن أسوارها وتوفير المباني المطلوبة لتحويلها لمركز يؤدي أعمال السلطان. وعمد الظاهر وقلاوون، والخليل الى تشييد بعض الأقسام ذات الأنصاب: دار الذهب، ومجموعة من الايوانات والقباب، قاعة الأشرفية. ولم تكن أي من البنايات الجديدة واقعة في جناح الحريم، الذي بقي تصميمه كما شاء له الحاكم الكامل عندما تم تصميم دار السلطانية. وسعى السلاطين الثلاثة من المماليك ان يكون الجزء الفاصل بين جزئي القلعة أوضح وأشد بروزا من حيث دور وظيفة هذين الجزءين والهيكلية المعمارية، من خلال بناء قاعات استقبال جديدة. وتم استخدام مصطلح باب الستارة لأول مرة مع نهاية حكم الظاهر والذي كان يمثل أماكن وردهات السلطان الخاصة التي كانت توجد به الحريم بمعزل عن الآخرين من خلال الستارة، التي لم تكن بالضرورة موجودة. وكانت البوابة الحقيقية الموجودة في تلك المنطقة هي بوابة الساعات. وفي الحقيقة أعيد تنظيم وبناء منطقة الجزء الخاص وبقية القلعة في عهد الحاكم الناصر محمد، الذي أضاف الكثير من القاعات الى موقع الحريم وقام بتوسيعه الى أبعد من مجمع الحاكم الكامل. في عهد الناصر محمد يمكن تقسيم عمل الناصر محمد في القلعة الى مرحلتين: الأولى من السنوات الأولى لمرحلة حكمه الثالثة الى المرحلة التي أحكم فيها على موقعه (1310 ـ 1325)، والمرحلة الثانية التي تشتمل على السنين الثماني الأخيرة من حكمه، (1333 ـ 1341). وتظهر البرامج التي قام بها في المرحلتين الكثير من الاختلافات من حيث الحجم والتصميم والأسلوب والنصب التي تم تشييدها. وفي المرحلة الأولى كانت بعض المشروعات، سواء التي كانت تنطوي على عمليات ترميمية أو تشييد بنايات جديدة بالكامل، تقوم على خطة تطوير مستقلة كلية. وأسهم أحد برامج الناصر التطويرية في تحويل القلعة الى مدينة ملكية تضم ادارة المماليك والجيش، الذي أعيد تنظيمه. وفي عام 1331 أطلق مشروعا طموحا للغاية، لم يكتمل بسبب وفاة الناصر في عام 1341. ويشير المؤلف الى ان الميدان، الذي أمر بتشييده الناصر محمد في عام 1312 تحت القلعة، هو أهم المشروعات التي شكلت موجة من اعادة البناء على القلعة، لأنه ينطوي على ايجاد منطقة عازلة بين المجمع الملكي والمدينة الى الغرب ويكون في الوقت ذاته فاصلا بين الاسطبلات الملكية وسوق الخيل الى الشمال. أما القناة المائية التي كانت تسمح بجلب الماء من النيل الى القلعة فهو المشروع الذي ظل من الصعب تحديد هوية الحاكم الذي قام بتنفيذه، على الرغم من ان الكثيرين يعزونه الى الناصر محمد. وكانت هذه القناة قيد الاستخدام حتى بداية القرن السادس عشر، عندما قام السلطان الغوري ببناء قناة جديدة على قناة النيل ذات ست ساقيات. ومن جانب آخر يعتبر قصر الأبلق، الذي تم تشييده في الفترة ما بين (1313 ـ 1314)، من أشهر البنايات التي نفذها الناصر محمد. ويستمد هذا القصر اسمه من لون الحجر السوداء والمَغري الأصفر المستخدمة في الجدران. وفي الحقيقة كان دور هذا القصر في تأدية المراسيم اليومية والاجتماعات الخاصة، ليحل بذلك محل قاعة الأشرفية التي كانت هي الأخرى بديلا عن الصالحية. ويتطرق المؤلف في الفصول الأخيرة الى دور الناصر محمد في اعادة بناء جامع القلعة في عام 1318. فقد أمر الناصر بتدمير الجامع القديم وبعض البنايات المحيطة به، بما فيها بعض منازل الأمراء التي كانت تقف قبالة الحائط الجنوبي الشرقي، لايجاد مكان لجامع جديد. وهكذا تم بناء جامع أصغر في مواجهة باب القلعة الذي كان يفصل بين المطوقتين، من دون أي أسم يذكر. وتم اضافة العديد من المنارات وتوسيع الأروقة. ويخلص المؤلف الى القول ان المشروعات التي قام بتنفيذها الناصر محمد في ما بين الأعوام 1310 ـ 1320 وما بعدها، والتي تشتمل على دار العدل وبناء مسجد الناصر محمد، قد اعتمدت على خطة واضحة المعالم، وتعبر عن تفكير الناصر محمد الذكي. فأولا لم يتم القيام بأي مشروع جديد ما لم يتم الانتهاء من المشروع السابق، من هنا نرى ان الناصر قد شرع باصلاح ايوان الأشرفي بعد ان تبوأ على العرش في عام 1310. وثانيا قام بتوفير المياه الى الميدان والقصور التي كان ينوي بناءها، وحددت عملية احاطة الديوان بالجدران حدود منطقة السلطان وأرست حدود القصور التي تم بناؤها في ما بعد في مواجهة قصر السلطان في المطوقة الجنوبية. وثالثا، تم اختيار موقع قصر الأبلق للاستفادة من المنظر الجميل الذي يتيحه قبالة الأرض الخضراء للميدان. أما سلسلة القصور الملكية التي بدأت بدار الذهب التي بناها الظاهر على النتوء الشمالي للمطوقة الجنوبية وتلته قاعة الأشرفية التي توفر منظرا مطلا على المدينة. القلعة اليوم يقول الكاتب ان القلعة التي نالت جملة من المسميات، مثل قلعة الجبل، وقلعة صلاح الدين، أو قلعة محمد علي، أو قلعة القاهرة، قد شهدت الكثير من التغيرات الكبيرة منذ تأسيسها في عهد صلاح الدين. فقد قام الأمراء والمماليك في المرحلة اللاحقة بتوسيعها وتقسيمها الى مطوقتين شمالية وجنوبية، وأعيد تنظيم البناء الداخلي، فضلا عن تشييد الكثير من القصور والهياكل واحاطتها بالبنايات، فيما عدا الجانب الشرقي، اذ ان تلال المقطم قد حالت دون ارساء أي أبنية. وفي العهد العثماني، (1517 ـ 1798)، تم تقسيم القلعة الى ثلاثة أقسام شبه مستقلة: ضم القسم الشمالي ثكنات الفيالق الجيش العثماني، والمناطق المنخفضة في الغرب التي كانت محل اقامة الجنود المتطوعين، في حين كان القسم الجنوبي من المطوقة الجنوبية محل اقامة الباشا الذي تم ارساله من اسطنبول وجنوده. أما البناء الداخلي فقد اعيد تنظيمه مرات عديدة بالرغم من دعم توسيع مساحته. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر قام محمد علي باشا بتحديث بعض الهياكل التي كانت قائمة، وأعاد بناء أغلب الجدران، وغير تنظيم البناء الداخلي، وأضاف جامعا

Email