كتاب ، التكريس .. قصة رئيس ، الحلقة الثالثة، تأليف: نيكولا دوميناك وموريس سازان، عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 30 محرم 1424 هـ الموافق 2 ابريل 2003 قبل فترة تعدّ بالأشهر، وليس بالسنوات، كانت أغلبية المحللين والمراقبين السياسيين الفرنسيين ترى ان المغامرة السياسية لجاك شيراك على وشك ان تصل الى نهايتها، لكنه ها هو يبدو اليوم أحد أكثر رؤساء الجمهورية الفرنسيين قوة وسلطة، إذ منذ عهد الجنرال شارل ديغول لم يلعب أحد دوراً حاسماً مثل الدور الذي لعبه على المسرح الدولي، بل لقد بدا بمثابة الرئيس الوحيد في العالم الذي استطاع أن يحتج ويعارض بالقوة والحزم ذاتهما إرادة القوة الأميركية الجبارة. لقد عرف جاك شيراك كيف ينتفض باستمرار من «رماده» ويعود أكثر قوة وأشد بأساً في وجه خصومه. هنا نلقي نظرة على محاولة المؤلفين الكشف عن الطبيعة الحقيقية للرئيس الفرنسي وأسرارها. من ميزات الرئيس جاك شيراك اصغاؤه لاصدقائه، واستماعه للمحيطين به، لكنه بالمقابل لا يحب لعبة تبادل الاسرار. وذات يوم، وكان يعاني فيه من ارهاق كبير، اعترف لصديقه منذ سنوات المراهقة، المصرفي ميشيل فرانسوا بونسيه بأنه ينتظر اوقاتا دقيقة بالنسبة للانتخابات الرئاسية لعام 2002 وقال: «الانتخابات الرئاسية لعام 2002؟ لكنها ليست المرة الاولى التي يبدي اصدقائي السياسيون بعض الشكوك». ويؤكد بعض المقربين منه ايضا وممن يعتبرون بمثابة الاوفياء الذين لا يمكن ان يغيروا موقفهم حياله من امثال جان لويس دوبريه، ابن ميشيل دوبريه، الذي كان في عداد الاكثر قربا من الجنرال شارل ديغول، وبيير مازو، النائب الديغولي المعروف، بأنه ـ اي الرئيس شيراك ـ كان قلقا بشأن تلك الانتخابات، اذ كان يريد ان يثبت قبل كل شيء ان القرار الذي اتخذه بحل الجمعية الوطنية الفرنسية في منتصف عام 1997، والذي جلب اغلبية يسارية للحكم، لم يكن قرارا خاطئا وان الفرنسيين لا يزالون يولونه ثقتهم، يقول جان لويس دوبريه، الذي يتولى حاليا رئاسة الجمعية الوطنية الفرنسية بهذا الصدد: «لقد قال لي مرات انه يمكن ان لا يفوز ـ في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 ـ وكان هناك في الواقع مصدران لقلقه، فمن جهة كان يخشى ان لا يعاد انتخابه، ومن جهة اخرى وخاصة ان يتم النظر له كرئيس اخفق في رئاسته عندما قام بحل الجمعية الوطنية كما ستذكر كتب التاريخ، والرئيس شيراك يولي قبل كل شيء اهتمامه للصورة التي سيتركها للسلف .. انه كرجل سياسة كبير كان يحرص على ان لا يمنعه اي تيار مندفع من الفوز». رجل المهام الصعبة لم يكن المنافس البارز آنذاك في الصورة، اي رئيس الحكومة ليونيل جوسبان يسهل مهمة الرئيس شيراك .. فقد بدا منافسا شديد البأس نجح في ان يعطي لنفسه قامة رجل الدولة في ظل التعايش مع الرئيس الفرنسي وكان هناك عدد من قادة اليمين نفسه يتساءلون عما اذا كان شيراك لا يزال يمتلك الحماس نفسه والقدرة ذاتها المعهودة لديه على المواجهة، هل كان شيراك لا يزال نفسه شيراك؟ اي ذلك الذي بدأ حملته للانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 1995 فنسبة مؤيديه حوالي الـ 7% من اصوات الناخبين ووصل مع ذلك الى المركز الاول في السباق الرئاسي، ويروي جان كلود جودان عضو مجلس الشيوخ الفرنسي ورئيس بلدية مدينة مرسيليا، ان الرئيس شيراك قال له ذات مرة: «ان اليمين سوف ينتصر في الانتخابات التشريعية، هذا امر مؤكد، اما بالنسبة للانتخابات الرئاسية فانني لست واثقا من ذلك، لقد كان يحس اذن ببعض الخشية، وكان انصاره المقربون، الشيراكيون، في الحالة نفسها. وضمن مثل هذا السياق قال نيكولا سركوزي وزير الداخلية الفرنسي الحالي: «احس احيانا بأن الرئيس شيراك متعب، وهذا يطرح مشكلة حقيقية بالنسبة للانتخابات الرئاسية» وذهب دومينيك بوسرو، صديق رئيس الحكومة الحالي والوزير في حكومته الى ابعد من ذلك عندما قال: «مبدئيا، يفترض ان يفوز جوسبان، وسوف يجد الرئيس من دون شك بعض الصعوبة للانطلاق من جديد في حملة انتخابية فالديناميكية غائبة لدى اليمين وشهية رئيس الوزراء ـ جوسبان ـ للفوز كبيرة، لكنني مع ذلك لست فاقدا للامل في عام 1974 كا من المفترض ان ينتصر ميتران بينما فاليري جسكار دميستان هو الذي فاز» لكن بالمقابل لم يكن يختلف قادة اليمين جميعهم بأن المرشح الافضل لمعسكرهم انما هو جاك شيراك، وبشكل عام كانت حالة القلق قد وصلت الى درجة ان الذين كانوا الاكثر قناعة بالفوز قد افصحوا عن القول بأن «نتائج المعركة الانتخابية طبعا ـ ليست محسومة» .. وهذا ما كان قد عبر عنه «ستيفان فوكس» الذي كان يعمل في اطار الدعاية في معسكر جوسبان، بالقول: «ان شيراك لا يستطيع الفوز .. لكن يمكن مع ذلك ان يخسر ليونيل ـ ليونيل جوسبان»، وهذا تقريبا ما كان يقوله انصار شيراك. لكن في السياسة تتحدد الامور دائما في اللحظات الاخيرة وعند الهجوم النهائي الذي ينبغي بالطبع تحضيره بدقة كبيرة مع اخذ عنصر الزمن بالحسبان والمعروف ايضا ان «الاحوال الجوية السياسية» متقلبة غالبا والرياح تهب دائما ونجدة اولئك الذين يعرفون كيف يستفيدون جيدا منها. تلك هي بالتحديد كانت قناعة ثلاثة اشخاص جعلوا من الاستراتيجية الانتخابية مركز اهتمامهم الرئيسي، هؤلاء الثلاثة هم جاك شيراك وابنته كلود شيراك ودومينيك دو فيلبان ـ الامين العام لقصر الاليزيه آنذاك. كانت الورقة الرابحة الاكثر مضاء بالنسبة لانصار جاك شيراك، تتمثل في صلابة الرئيس نفسه وقد قال بيير مازو ما مفاده: «لا تقلقوا من اجله، فان شيراك رجل قوي الشكيمة، ولا يخاف من الهجمات ضده، انه اكثر صلابة من جوسبان ان شيراك ملاكم من الوزن الثقيل وهو يلاكم بأفضل ما يكون عندما يتم حصره عند الشباك» لكن كلود شيراك اكدت باستمرار بأنها لم تكن قلقة وانه لا ينبغي تركيز الاهتمام باستمرار على خصم يتصوره الفرنسيون محاسبا ، ولا يتصورونه ابدا كرئيس للجمهورية، وقد اكدت في الوقت نفسه ان رئيس الدولة قد تبنى خطة استراتيجية واضحة ومحددة الاهداف وانه ينفذ هذه الخطة بحذافيرها، وهذا كل شيء.وبالتالي عارضت بقوة اي دخول مبكر في الحملة الانتخابية الرئاسية، ان مثل هذا الموقف اغضب كثيرا نيكولا سركوزي، وزير الداخلية الفرنسي الحالي، الذي يمثل البورجوازية اليمينية وذلك على قاعدة اعتقاده بأن الانتظار اكثر قد يكون بمثابة كارثة .. وهذا ما عبر عنه بالقول: «في شهر يناير من عام 2002 قمت بكسر الايقاع السائد حول الرئيس شيراك، وقلت يومها بأنه اذا لم يتم تغيير في اسلوب العمل فان شهر فبراير سيكون اسوأ من يناير وهكذا دواليك وانتهيت الى القول بأنه لابد من الدخول في حملة انتخابية حقيقية وتقديم مشروع للناخبين والافاضة في الوعود، يوم ذاك نظروا لي شذرا». حديث الاستطلاعات في بداية الحملة الانتخابية الرئاسية اعطت جميع استطلاعات الرأي العام احتمال الفوز لليونيل جوسبان، خصم شيراك المحتمل آنذاك، اذ لم يكن وصول جان ماري لوبن، زعيم اليمين الفرنسي المتطرف، للدورة الانتخابية الثانية واردا في ذهن احد آنذاك، ودلت تلك الاستطلاعات على امكانية حصول جاك شيراك على 48% من اصوات الناخبين مقابل 52% لخصمه اليساري جوسبان، كانت غبطة معسكر اليسار والمحيطين برئيس الحكومة في قصر ماتينيون كبيرة آنذاك لكن ذلك مثل في واقع الامر، «ظاهرة كلاسيكية» معروفة بالنسبة للمرآة «السياسية ـ الاعلامية» والتي تضخم الواقف امامها بحيث يمكن ان يبدو «لوريل» النحيف في جلد «هاردي» الضخم هكذا اعتبر اغلبية المسئولين السياسيين بأن شيراك قد «انتهى». الجميع باستثناء قلة قليلة من بينهم جان بيير رافاران رئيس الحكومة الفرنسي الحالي الذي قال: «اصحاب العقول الضعيفة هم وحدهم القلقون» وبالتالي طالب بعدم الانسياق مع الرياح المعادية، وقد اعرب عن ثقته الكبيرة بشخصية شيراك واعتبر انه بمقدار ما يصعد الاشتراكيون من هجومهم عليه يكون الامر في صالحه .. وبنفس الوقت اعتبر بأن جوسبان مهدد بالكثير من المشاكل «الخارجية والداخلية»، لقد كان «جان بيير رافاران» من بين الاشخاص النادرين الذين ينجرفو مع الموجة التي اكدت على «موت معلن» وبالتالي رفض المراهنة على فترة «ما بعد شيراك»؟ لقد حاول انصار جوسبان الاختصاصيون حوله في ميدان الدعاية والاعلام تقديمه على انه الشخص المثالي الفاضل الى آخر ما هناك من مرادفات: على الرغم مما كان يبدو هذا متناقضا مع جوسبان التروتسكي، وجوسبان المناضل السياسي، وجوسبان صاحب التكتيكات وفي الحقيقة كان قد تم بناء مشهد خيالي يحتل فيه جوسبان «مكانة مركزية محددة بدقة» بحيث يبدو بمثابة «الامير في روايات الاطفال» والذي يأتي كي يخلص «الاميرة» من قوى الشر، لكن ليونيل جوسبان انتهى بأن اعتقد هو نفسه بهذه «الصورة الخيالية» و«اقنع نفسه بأن اليسار هو بطبيعته اكثر استقامة واكثر اخلاقية من اليمين وانه هو ـ اي جوسبان ـ الاكثر اخلاقية والاكثر استقامة في صفوف معسكر اليسار». كانت تلك هي طريقته في القطيعة مع ماضيه حيث عرف بأنه كان بمثابة عنصر تروتسكي مخبوء في وسط الحزب الاشتراكي الفرنسي، ولذلك ربما اعتقد انه كان مطلوبا منه ان يعطي لنفسه قيمة اكبر من اجل أن يمحو «خطيئته الاصلية» ولذلك ايضا اراد ان يحذف شيراك من المشهد الوطني الفرنسي كي يأخذ هو قامته الحقيقية ويبدو كـ «منقذ للجمهورية وللديمقراطية». ان مثل هذا السعي دعا باتريك دفادجيان «المقرب من الرئيس شيراك الى وصف جوسبان بأنه «نصب تذكاري للغطرسة». الامر الذي رد عليه «بيير موسكو فتشي، القريب من جوسبان بالقول: «ان ليونيل جوسبان يرى بأن شيراك لا يسمو الى مقامة وانه لم يعط السدة الرئاسية ما تستحقه من رفعة». وامام ما كان يبدو بمثابة صعود اكيد لجوسبان كان الرئيس جاك شيراك صامتا يراقب ويستمع، واكتفى بالقول لانصاره كي يطمئنهم اتركوه يغرق وحده .. فاذا تدخلت حول المسألة الكورستيكية مثلا، فانني اقدم له دفة انقاذ في الوقت الذي ينبغي ان لا يستطيع التعلق بأي شيء يأتي من عندنا، اتركوه يقاتل نفسه بنفسه». وفي الوقت نفسه ان لا يفصح ابدا عما يفكر به حيال جوسبان لكنه كان يدرك تماما مدى اعجابه بذاته، فقرر ان يواجهه بالصمت وان لا يتحدث عما يجول في داخله الا لحفنة قليلة من الخاصة. لقد بدت براعة جاك شيراك في قدرته على السيطرة على نفسه، وان يتعامل بهدوء كبير حيال علاقة مع ليونيل جوسبان بحيث لا تشكل أهواؤه مصدرا لارباك حركته، لكن هذا لا يعني ابدا انه لم يكن يراقب بدقة كل تصرفاته هذا ما عبر عنه باتريك ديفادجيان بالقول: عندما يستعد الاسد للانقضاض على الوعل، فانه ينظر اليه اولا دون ان يبدي اي انفعال ثم يقيس موقعه وعمره وسرعته والمسار الذي سيأخذه». ويؤكد المقربون من الرئيس شيراك بأنهم لم يسمعوا ابداً من فمه أي رأي جارح حيال ليونيل جوسبان آنذاك. إن الرئيس جاك شيراك يرى ان السياسة لا تتطلب خلق النزاعات بشكل دائم، بل يؤكد على ضرورة حل جميع القضايا وحتى التي لا تتفق حولها الآراء عبر الحوار غير المتشدد، وبحيث يمكن دائماً المحافظة على مظاهر الود، مثل الانتقال لتناول الطعام حول مائدة بعد جولة من الحوار، مهما كانت حدتها. أما رئيس الحكومة آنذاك ليونيل جوسبان فإنه يرى السياسة معركة لا تتوقف ولا تهمد من أجل القيم والافكار. وكل ما عدا ذلك فليس سوى «مساحيق» لتجميل العمل السياسي والسياسيين. انه يؤكد مقته الشديد لاظهار السياسيين عكس ما يضمرون. من هنا بدا وكأنه في نظرته للرئيس شيراك مثل مارتن لوثر وهو ينظر الى بابا الفاتيكان. وهذا كله باسم الصفاء السياسي، أي بتعبير آخر أراد ليونيل جوسبان ان يظهر بمظهر «المثال الأخلاقي» في مواجهة السياسي المكيافيللي الذي يرى بأن الغاية تبرر كل الوسائل لتحقيقها. لكن أسلوب جاك شيراك ومدى ما أبداه من كياسة ولطف حيال رئيس الحكومة دفع بهذا الأخير الى أن يقول في يونيو 1999، وبعد عقد القمة الأوروبية في برلين لوزير الشئون الاوروبية في حكومته بيير موسكوفتشي ما معناه «من الصعب جداً أن يتم النظر لجاك شيراك كشخص يمكن ان ينفر منه الآخرون». وفي الواقع كان شيراك يؤكد بذلك على انسانيته، الأمر الذي يتماشى تماماً مع الصورة التي رسمها في توجهه الاستراتيجي، بينما حرص ليونيل جوسبان على التمترس خلف ما اعتقد انه ينبغي أن تكون عليه صورة رجل الدولة. لكن مثل هذا الموقف أعماه كما أعمى الذين كانوا يحيطون به عند رؤيته الرابطة القوية بين شيراك، كما يقدم نفسه كرجل متواضع وعادي، وبين الفرنسيين، لذلك عملوا على ان تستمر الحرب بلا هوادة. كما أصر جوسبان على ان يتصرف كمعلم المدرسة الذي يطالب تلاميذه، أي الوزراء في اطار الحكم بأن يحترموا دائماً قواعد المواجهة. هكذا مثلاً يتذكر بيير موسكوفتشي وزير الشئون الأوروبية في حكومة جوسبان قوله «عشية عيد ميلاد جاك شيراك، سألني أحد الصحافيين ان أصف بكلمة واحدة شخصية الرئيس، فقلت من دون أي تفكير ما يمكن ان يردده جميع الناس، وهو انه لطيف». وكان هذا سبباً كي يوجه لي ليونيل جوسبان نقداً عنيفاً، على أساس انني قد قلت ذلك من أجل أن أغيظه. انني لم أره في أي يوم من الأيام بمثل تلك الحالة وذلك الى درجة انني وجهت له رسالة قلت له فيها بأنني لا أريد ان يعاملني بمثل هذه الطريقة. بعد يومين فقط وجه جوسبان ملاحظات شبيهة لوزيرين من حكومته، كان شيراك يظهر حيالهما رقة «مقصودة»، وهما كلود اليفر صديق جوسبان منذ سن الشباب ووزير التربية في حكومته والوزير الشيوعي جان كلود غيسو، قال جوسبان «كلا، شيراك ليس لطيفاً، لكن المسألة الأساسية ليست هنا، إذ عندما يبدي وزير ما بعض التواطؤ مع الرئيس فإنه يرتكب في الوقت نفسه خطأ سياسياً ويبدي قلة انضباط، ولا ينبغي أن يتعامل أي منا بأخوّة مع الخصم». ان السياسة تم اختزالها بهذا المعنى إلى مجرد «مجابهة قاتلة» بعيداً عن أية عاطفة أو عن أي ضعف انساني فالموجود في المعسكر الآخر يغدو «عدواً» وليس مجرد خصم. يروي دومينيك دو فيلبان بأنه استشف منذ اليوم الذي تم فيه تعيين ليونيل جوسبان رئيساً للحكومة نقطة الضعف لديه. يقول: «لقد أراد جوسبان أن يعلن هو نفسه عند مدخل قصر الاليزيه تعيينه كرئيس للوزراء. كان ذلك بمثابة تحد للرئيس وللمؤسسات وطريقة طفولية في التعبير على انه الأقوى. ويؤكد دو فيلبان بأنه منذ تلك اللحظة أدرك بأن ليونيل جوسبان، وبسبب تضخم الأنا لديه، لا يتحمل أن يعارضه أحد في آرائه، وبالتالي لا يقبل بأي تراجع وان «هذا الرجل يفقد أعصابه بسهولة». بالاعتماد على هذا بدأت ترتسم استراتيجية دو فيلبان التي تحددت اللبنة الأساسية فيها في «اثارة الخصم بشكل دائم». ولكن في الوقت نفسه عدم الذهاب أبداً الى حد الاساءة فعلاً وحقيقة الى «التعايش» القائم بين رئيس الجمهورية اليميني ورئيس الوزراء اليساري، لأن مثل هذه الاساءة لن تكون مقبولة من قبل الفرنسيين الذين لن يتأخروا عن معاقبة «مثيري الشغب». ويعترف بيير موسكوفتشي الاشتراكي بهذا الصدد بأن شيراك ودو فيلبان قد كانا فاعلين الى حد كبير. لقد هاجما جوسبان ـ قليلاً ـ عندما سنحت لهما الفرصة بذلك. لكنهما تركا له امكانية ممارسة صلاحيات الحكم. ولم يستطع جوسبان أمام مثل هذا التناقض الظاهري أن يفهم حقيقة موقف شيراك. التعايش يتداعى في 24 فبراير 2000 تعرض «التعايش» بين شيراك وجوسبان لأول حادث جدي، ففي ذلك اليوم سافر رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان الى فلسطين وعقد مؤتمراً صحافياً في القدس. وقال انه يرى «حزب الله» اللبناني كحركة ارهابية، بما في ذلك عندما تتصدى للجيش الاسرائيلي. هذه نقطة مركزية وعنصر للقطيعة. ومهما يكن الدافع وراء مثل هذا التصريح فإنه يتناقض دون شك مع الدبلوماسية التقليدية لفرنسا والتي تقول بأن النضال ضد قوات الاحتلال لا يمكن خلطه مع الارهاب. لقد رفض جوسبان الفكرة القائلة بأن السياسة الخارجية الفرنسية هي ميدان يتعلق حصرياً برئيس الجمهورية، فمثل هذه الفكرة غير موجودة أبداً في الدستور. ولكن كان هناك اتفاق حول ان تتحدث فرنسا بصوت واحد هو عامة صوت رئيس الجمهورية. بعد يومين، وفي 26 فبراير هرب رئيس الوزراء الفرنسي من جامعة بيرزيت بسبب وابل الحجارة الذي تعرض له. ان الطلبة الفلسطينيين لن يغفروا له جملته حول حزب الله. كذلك لم يتردد الرئيس جاك شيراك في ان «يستدعي» ليونيل جوسبان لمقابلته منذ عودته الى باريس. لكن جوسبان رد ايضاً بصورة استعراضية، مشيراً بأنه سوف يصل متأخراً الى العاصمة وبأنه سوف يتوجه مباشرة نحو أحد المطاعم حيث كانت تنتظره العدسات التلفزيونية. اكتفى قصر الاليزيه بالاشارة الى «وقاحة» رئيس الوزراء واعتبر ان الحدث قد انتهى و«أغلق الملف». لكن بدا بوضوح مدى حالة التوتر التي يمر بها جوسبان، الأمر الذي كان يصب فيما أراده الرئيس شيراك وأمين عام الرئاسة دومينيك دو فيلبان الذي قال حول رحلة جوسبان الى اسرائيل بالقول: «لقد أراد ليونيل جوسبان ان يستخدم تلك الرحلة الى اسرائيل كي يؤكد على انه يتبنى موقفاً متمايزاً، ان ارادة التمايز هذه تسكنه تماماً مما يدفعه الى ارتكاب الهفوات، وليس هناك أي فرنسي يعتقد بأن شيراك قد تلطخ من أجل موقفه المناويء لاسرائيل، وان جوسبان نظيف لأنه يدافع عن خط متوازن بين الاسرائيليين والفلسطينيين. هذا ما أكدنا عليه لدى الرأي العام». بالمقابل حاول جوسبان عند عودته من القدس ان يبدي لامبالاته بما تعرّض له في بيرزيت، لكنه كان في الواقع شديد التوتر بسبب تلك الصدمة، لاسيما وان الصحافة التي كانت تكيل له المديح عامة قد اعتبرت بأنه تصرف بشكل غبي، وانه كان يريد أن يثبت موقفه على الصعيد الدولي لكنه فشل. لقد كان يجتر بصمت الاذلال الذي تعرض له، وكان مصاباً بسبب ذلك بالاكتئاب، كما أكد صديقه ووزير التربية في حكومته كلود اليفر. وقال بتريك ديفدجيان بأن حادثة بيرزيت قدمت برهاناً جديداً على تفكيره الانطوائي. وقد كانت تلك الحادثة بمثابة نقطة انطلاق مهمة في مسيرة الفوز بأغلبية الناخبين الفرنسيين. وتمثلت النقطة المهمة الثانية في قرار الرئيس جاك شيراك اتخاذ اجراءات رسمية ضد استيراد العلف الحيواني واجراء فحوص مخبرية حول سلامة الابقار المخصصة للذبح من مرض جنون البقر، ولم يتردد في القول «وجدت انه ينبغي اتخاذ مبادرة بسرعة كبيرة بينما كانوا ـ أي أعضاء الحكومة ـ يتمهّلون. أنا متأسف بأن هذا ازعج رئيس الوزراء. وقد اعتبر بأنني اردت بذلك ان ألوي ذراعه.. وكان ذلك هو قصدي قليلاً. لم يغفر جوسبان أبداً للرئيس تجاوزه بينما أصبح جاك شيراك يسميه منذئذ بـ «الآخر». من هنا بدأت القطيعة الفعلية. الجملة القاتلة لقد أشار أولئك الذين كانوا يراقبون سلوك جوسبان بأنه على وشك ان يضيع بوصلة التوجه. كما أكد العديدون بأن الرئيس شيراك لم يكن يولي أية أهمية حقيقية لرئيس الوزراء. تقول روزلين باشلو الوزيرة الحالية: «ان جوسبان لم يثر أبداً اهتمام الرئيس، وذات مرة كان رئيس الوزراء يجيب عن أسئلة الصحفيين في أول بث تلفزيوني له في اطار الحملة الانتخابية، كان ذلك على القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، لقد كنت الى جانب الرئيس عندما كنا نحتسي كأساً من العصير قام بتغيير المحطة التلفزيونية ليشاهد على القناة التلفزيونية الأولى مقابلة مع ارييل شارون، لقد أعلنت احتجاجي على ذلك ـ كانت عندها مسئولة الحملة الانتخابية ـ إذ كان عليّ أن أحضر اجابة لوسائل الإعلام، لكن عبثاً فالرئيس شيراك كان مهتماً أكثر بما يجري في الشرق الأوسط». وأثناء رحلة في الطائرة أثناء الحملة الانتخابية تلفظ جوسبان بالجملة القاتلة «لقد شاخ شيراك واستهلك...». وكانت «قاتلة» بالفعل، إنما لجوسبان نفسه إذ لم يغفر له الكثير من الفرنسيين ذلك الاعتداء الذي لا علاقة له بالسياسة.

Email