كتاب ، التكريس .. قصة رئيس، الحلقة الثانية، تأليف: نيكولا دوميناك وموريس سازان، عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثلاثاء 29 محرم 1424 هـ الموافق 1 ابريل 2003 قبل فترة تعدّ بالأشهر، وليس بالسنوات، كانت أغلبية المحللين والمراقبين السياسيين الفرنسيين ترى ان المغامرة السياسية لجاك شيراك على وشك ان تصل الى نهايتها، لكنه ها هو يبدو اليوم أحد أكثر رؤساء الجمهورية الفرنسيين قوة وسلطة، إذ منذ عهد الجنرال شارل ديغول لم يلعب أحد دوراً حاسماً مثل الدور الذي لعبه على المسرح الدولي، بل لقد بدا بمثابة الرئيس الوحيد في العالم الذي استطاع أن يحتج ويعارض بالقوة والحزم ذاتهما إرادة القوة الأميركية الجبارة. لقد عرف جاك شيراك كيف ينتفض باستمرار من «رماده» ويعود أكثر قوة وأشد بأساً في وجه خصومه. هنا نلقي نظرة على محاولة المؤلفين الكشف عن الطبيعة الحقيقية للرئيس الفرنسي وأسرارها. في 21 سبتمبر 2001 نشرت صحفية «لوموند» الباريسية الشهيرة وثيقة تتمثل في محتويات شريط تسجيلي مصور ـ فيديو ـ كان قد تم تسجيله عام 1996 من قبل المدعو جان كلود ميري، الذي توفي بمرض عضال بعد ثلاث سنوات، كان ميري هذا احد الكوادر العليا في حزب «التجمع من اجل الجمهورية»، اي حزب الرئيس شيراك، حيث كان قد اسسه عام 1984 ليصبح القوة السياسية التي اوصلته الى رئاسة الجمهورية الفرنسية فيما بعد، وقد كشف عن ان نشاطه الرئيسي كان جمع الاموال لصالح هذا الحزب بل واكد انه كان يعمل «تنفيذا لاوامره» وانه كان قد قدم مبالغ طائلة من الاموال عام 1986 ـ كان جاك شيراك آنذاك رئيسا لوزراء فرنسا في ظل رئاسة فرانسوا ميتران ـ بحضوره، وان رئيس مكتبه ميشيل روسان هو الذي تسلمها كانت تلك الاموال نقدا، اي باختصار كان هناك نوع من التشكيك بنزاهة جاك شيراك. طرح عندها سؤال كبير يقول: هل ستؤدي قنبلة ميري الى القضاء سياسيا على الرئيس جاك شيراك؟ لا شك بأن الامر بدا خطيرا، فالغاية كانت واضحة، يقول جان بيير رافاران، رئيس الحكومة الفرنسية الحالي: «لم يكن الرئيس شيراك يحس بأي خلل في سلوكه، ذلك ان جميع الاحزاب السياسية تتلقى اموالا بالطريقة نفسها لكن كان يراد التخلص منه، هذا كل شيء». وقبل شهرين من نشر صحيفة «لوموند» لمضمون الشريط المسجل لـ «جان كلود ميري» كانت مجلة «باري ماتش» واسعة الانتشار قد كرست عددا من صفحاتها لتحقيق مصور عن «العطلة الصيفية المرفهة» التي قضاها الرئيس شيراك في جزيرة موريس وكانت الكلفة باهظة، وهذه هي الرسالة التي ارادت المجلة ايصالها للفرنسيين. لم يهتز للرئيس جاك شيراك جفن امام المحاولات الاعلامية للاساءة له، وعشية نشر صحيفة «لوموند» لما اسمته «وثيقة ميري» جمع الرئيس الفرنسي المقربين منه ومستشاريه الذين كانوا سيصطحبوه في اليوم التالي الى منطقة شارنت بوسط فرنسا، وقد جاء على لسان جان بيير بيران، رئيس الحكومة الفرنسية السابق قوله عن تلك الرحلة: «لقد رافقته الى شارنت (..) وكنت شديد القلق، اما هو فقد كان منشرحا وكأن لم يحصل اي شيء. بل وقبل المشاركة في بث تلفزيوني عند الساعة السابعة مساء كي يتعرض للمرة الاولى الى الشريط المسجل ـ شريط «ميري» ـ وعند الساعة السادسة وخمس واربعين دقيقة كان لا يزال يصافح البعض، في ذلك اليوم اجتاحني اعجاب كبير امام تلك القدرة على المقاومة، ولاحظت ان الخوف غير موجود بالنسبه له، وفهمت ان جوسبان لن يكون قادرا عند المواجهة الانتخابية على مقاومة الصدمة في مواجهة مثل هذه القوة، القوة الفريدة». في قصر الاليزيه فهم المحيطون بالرئيس جاك شيراك في قصر الاليزيه، وخاصة ابنته كلود شيراك ان المعركة هي قبل كل شيء «معركة اعلامية» وكان ذلك على خلفية الادراك بأن «لا غبار» على نزاهة الرئيس وبأن الملفات التي يراد نسجها انما هي ملفات فارغة، لذلك بدا ان الرد مطلوب تحديدا على الصعيد الصحافي وكان دومينيك دو فيلبان وزير الخارجية الفرنسي الحالي، والمقرب من شيراك قد فهم من خلال عمله في السفارة الفرنسية بواشنطن آليات عمل الحرب الاعلامية الحديثة، وخاصة القاعدة القائلة انه سينبغي زرع البلبلة في صفوف الخصم وعدم القبول أبدا بمجرد الموقع الدفاعي وبالتالي القيام بالمبادرات واولا بواسطة الكلمة والصورة وكان الجنرال شارل ديغول قد فهم اهمية الكلمة كـ «سلاح» حيث كان قد اجهض بجملة واحدة الانقلاب الذي كان عدد من الجنرالات الفرنسيين قد حاولوا القيام به في الجزائر اثناء حرب التحرير الجزائرية لنسف سياسته، اذ وصفهم بأنهم «حفنة من الجنرالات المتقاعدين» من هنا يمكن فهم اهمية «جبهة التلفزيون» وقد ساعد ثبات الرئيس شيراك والهدوء الذي ابداه امام الحملة «الاعلامية ـ القضائية» التي اراد خصومه اغراقه بها على ان لا تخدش «صورته بشكل حقيقي لدى الرأي العام الفرنسي. وقد اثار ثباته اعجاب بعض خصومه في معسكر اليسار مثل جان كريستون كومباديليسن، المستشار المقرب من شيراك اذ قال: «عندما تواجه المرء مثل هذه الحملة الاعلامية ـ القضائية فهذا يعني موته ـ سياسيا بالطبع ـ لان تفكيره يغدو محصورا بما يواجهه ولا يهتم بأي شيء آخر».بالاضافة الى ما سبق، يتمتع رئيس الجمهورية في فرنسا، وتبعا للدستور الفرنسي الساري المفعول بـ «الحصانة» التي تجعل القضاء لا يطاله ولا يمكن للقضاة مساءلته حول قضايا تعود لفترة ما قبل انتخابه رئيسا، وقد تأثرت الاصوات، وحتى من بعض النواب البارزين في الجمعية الوطنية الفرنسية، التي طالبت بتطبيق القانون على الجميع، لكن الفرنسيين بأغلبيتهم، لم يلعبوا هذه اللعبة، ولم يروا ان الرئيس جاك شيراك قد تعامل مع المسائل المالية بأسوأ مما فعله القادة السياسيون الآخرون. وقد قال «دومينيك دوفيلبان» بهذا الصدد: «ليس لدى جاك شيراك ما يأخذه على نفسه اكثر من اي قائد حزب آخر، فهو لم يهتم ابدا بالمال ..» وبالفعل فإن جاك شيراك على غرار سابقه فرانسوا ميتران، لم يهتم ابدا بـ «التفاصيل» فيما يخص المسائل المالية، فقد كان لديه دائما ما يكفي، بل والكثير الذي يسمح له بتمويل نشاطاته المهنية، وان يحافظ على مستوى معيشة شخصي مرتفع، ولكن في السياسة ينبغي الاهتمام كثيرا بـ «ادق التفاصيل» المالية. وعلى غرار «لوموند» و «باري ماتش» نشرت اغلبية الصحف والمجلات الفرنسية الاخرى مثل «الاكسبريس» و «نوفيل اوبزرفاتور» و «لوكانار اتشينيه» تحقيقات تركزت كلها حول موضوع واحد تقريبا، هو «البذخ» الذي يعيشه رئيس الجمهورية جاك شيراك والعطلات التي يقضيها هنا وهناك وبطاقات السفر الكثيرة له وللمحيطين به، وخاصة سفره لقضاء عطلة في دولة خليجية، حيث نزل باحد فنادقها الكبرى، وكانت تحت تصرفه طائرة خاصة اقلته ذهابا وايا.وبالطبع حاول خصوم الرئيس شيراك في معسكر اليسار ان يصبوا الزيت على النار ويشوهوا صورته، لكن الاشتراكيين لم يفهموا شيئا من حقيقة الفرنسيين، ذلك ان الشعب لا يولي اي اهتمام ببطاقات سفر الرئيس هو يعرف جيدا ان قادته يعرفون رغد العيش، كما قال شارل باسكو وزير داخلية فرنسا الاسبق واحد رموز الديغولية الفرنسية، ومما اثار غيظ خصوم شيراك اكثر فأكثر واقع انه كلما كانوا يزيدون من حملتهم ضده كان الفرنسيون يحبونه اكثر فأكثر. حذر من الصحافة اذا كانت الصحف والمجلات الدورية الفرنسية قد اخذت بأغلبيتها في الواقع العملي موقفا سلبيا حيال الرئيس جاك شيراك، فانه هو بالمقابل ابدى باستمرار حذره، من الصحفيين، وهكذا قال ذات مرة لعدد من النواب الشباب من انصاره كان قد دعاهم الى قصر الاليزيه من اجل التحضير للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي كانت ستجري بعد حين، ما مفاده : «لا تتحدثوا للصحفيين، فانهم يشوهون افكارنا وهم لا يكنون الحب لنا» ومن المثير للانتباه هو ان رئيس الحكومة الاشتراكي «ليونيل جوسبان» كان قد صرح ذات مرة في حديثه عن الصحفيين: «يزعجني جدا عقدة التفوق لديهم». ولمرة واحدة اتفقت آراء الرئيس شيراك ورئيس حكومته الاشتركي آنذاك ليونيل جوسبان، بخصوص ضرورة الحذر من الصحفيين، وذهب فرانسوا ليوتار، وزير الدفاع الفرنسي الاسبق اكثر من ذلك بعد عن كان قد تعرض لحملة نقد من قبل وسائل الاعلام عندما قال ان الصحفيين: «بالفعل، ان اغلبية رجال السياسية يشعرون بكره حقيقي حيالهم، نحن لا نجرؤ على التصريح بذلك، هذا كل شيء على الرغم من اننا ندرك عدم كفاءتهم وغياب الجدية لديهم، ان هؤلاء الحمقي يحلمون بنصب الافخاخ لنا وحصرنا في الزاوية الضيقة، وهذا لايعود لاسباب ايديولوجية وانما فقط لانهم يريدون جلب الانتباه اليهم، وبالنسبة للبعض منهم اصبح الرئيس جاك شيراك بمثابة هدف متحرك، وقد اعلنوا الحرب عليه».وحول العلاقة بين رجال السياسة ورجال الاعلام قال ذات يوم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني: «ماذا عن الصحفيين والكره الذي يكنونه حيال المسئولين السياسيين؟ هذا ليس خطيرا بل انه يشكل جزءا من اللعبة».ان الرئيس جاك شيراك اثار باستمرار شهية الصحفيين كي يحاولوا كشف عالمه السري اكثر من اي شخصية سياسية اخرى. وفي كل مرة تعتقد الصحافة انها اكتشفت «شيراك جديدا» لتقضي بعد ذلك وقتا طويلا في تحديد هوية «ما تعتقده جديدا» وعندما تكتشف خطأ ما زعمته «تلجأ في احيان كثيرة الى سلاح «التشكيك».ومما يثير الانتباه ان هذه الصحافة نفسها قد اتخذت مواقف مغايرة حول قضايا متشابهة. فمثلا عندما استولى فرانسوا ميتران على الحزب الاشتراكي وأراد ان يجعله اداة توصله للرئاسة فان اغلبية المعلقين السياسيين حيّوا بنفس الوقت «النجاح التكتيكي» و «الرؤية الاستراتيجية» لدى ميتران، لكن عدما فعل جاك شيراك نفس الشيء ولنفس الهدف بالنسبة لحزب «التجمع من اجل الجمهورية» فان المعلقين نفسهم رفعوا صرخات التهويل والاحتجاج وتحدثوا عن عملية «سطو سياسي» ولا يتردد احد اهم الصحفيين الفرنسيين واشهر المذيعين التلفزيونيين، «باترك بوافر دارفور» في القول: «لقد غمطنا جاك شيراك حقه ولم نعطه قيمته الحقيقية» هكذا كان الامر في مطلع عقد السبعينيات، و بعد ثلاثة عقود، وفي عشية نهاية فترته الرئاسية الاولى عام 2002، لم يتبدل اي شيء، كما يضيف السيد دارفور. إن الاغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الفرنسية كانت قد توقعت هزيمة الرئيس جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2002. ولعل هذا يعود الى واقع ان عالم الاعلام هو ذو توجه اشتراكي ـ ديمقراطي الى حد كبير، أما الصحفيون «اليمينيون» فإنهم يميلون أكثر فأكثر نحو التوجه الليبرالي وابتعدوا عن الرئيس جاك شيراك بأغلبيتهم، بعد قراره المعروف الذي لايزال يثير الجدل بحل الجمعية الوطنية الفرنسية اليمينية عام 1997 مما جلب أغلبية يسارية، وبالتالي حكومة يسارية ايضاً. وقد ظهر «الابتعاد» عن الرئيس شيراك حتى في صحيفة يمينية مثل «لوفيغارو». في مواجهة مثل هذا الموقف الاعلامي اختارت كلود شيراك، ابنة الرئيس والمشرفة على صورته الإعلامية في قصر الاليزيه أن يكون الرد بالتوجه مباشرة الى الرأي العام، أي الى «النبع» والالتفاف بذلك على الوسطاء المعادين من الصحفيين. وكان ذلك الموقف مدفوعاً بعاملين أساسيين، أولهما ان «الصحافة تميل ثقافياً نحو اليسار»، وثانيهما انها «لا تشارك في بناء الرأي العام». وقد أشار أحد المسئولين في دائرة الإعلام بقصر الاليزيه إلى ان الرئيس جاك شيراك قد كرر عشرات، بل مئات المرات حقيقة واضحة بالنسبة له تقول: «ليس هناك من يحدثني عندما احتك بالناس عمّا يكمن وراء ما تكتبه صحيفة (لوموند)، فلا تتعبوا عيونكم إذن بقراءتها». كانت كلود شيراك تنفذ بذلك تعليمات جاك بيلهان الذي كان قد قدم التبريرات النظرية لضرورة «الفصل» بين الرئيس ووسائل الإعلام. فن الصمت إنه يؤكد على أهمية «فن الصمت» والاستخدام الكبير لـ «الصورة». هكذا تلعب كلود شيراك ومنذ سنوات دور «الحارس الشخصي» لأبيها. انها تحذر من كل شيء ومن كل شخص، انها «ابنة أبيها» وهي تهتم بكل تفصيل مهما كان صغيراً. وهي تمارس دور «المعلم» حيال «التلميذ» الذي غدا تلميذاً جيداً وأصبح بارعاً في صمته وفي حديثه. باختصار.. أصبح الأب ـ الرئيس ينفذ التعليمات التي تصدرها الابنة ـ المستشارة الإعلامية فيما يخص التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة بما في ذلك الاهتمام بأدق التفاصيل مثل حركة اليدين والابتسامة والجلوس في مواجهة عدسات التصوير، هكذا أصبح «التلميذ» محترفاً يعرف جيداً قواعد «الحداثة التلفزيونية». ولم يعد يتجاهل أبداً المكان الذي تضع فيه ابنته المصورين الذين اكتسبوا أهمية أكبر فأكبر. ولم ينس أبداً الدرس الذي لقنته له، وهو أن ينظر فقط في الجهة التي يوجدون بها. ولقد اعتبرت ان الصورة، صورة جميلة في نشرات الأخبار التلفزيونية، هي أهم ألف مرة من مقابلة مع صحيفة «لوموند».إن كلود شيراك وجاك بيلهان ودومينيك دو فيلبان يثمنون كثيراً قضية الكتمان، وقد أدرك الرئيس شيراك بأن التركيز على هذه الفضيلة يمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة، بل وان يصبح ورقة رابحة. لذلك حرص على عدم تسريب أية معلومات تتعلق بحياته العائلية وحياته الخاصة. إن عملية الرقابة المحكمة حول كل ما يخص ما يجري في داخل قصر الاليزيه وصلت حداً جعلت بعض المقربين من الرئيس جاك شيراك مثل جيروم مونو ذي النفوذ الكبير لدى الرئيس جاك شيراك والذي كان بمثابة «العقل المدبر» اثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة لعام 2002 يعلنون بأن كلود شيراك قد بالغت في عملية وضع الجدران العازلة، بينما قد يكون من المفيد اعادة الصلات مع الصحافة. لكن جيروم مونو فشل في هذه المهمة. لكن هذا لم يمنع هذا الصديق القديم لرئيس الجمهورية من ان يستقبل من يشاء من الصحفيين في قصر الاليزيه نفسه، بينما لم يكن المستشارون الآخرون يتجرأون على مقابلة الصحفي المسئول في جريدة «لوموند» عن تغطية أخبار قصر الاليزيه، إلا في أحد المباني البعيدة عن القصر. ذلك ان اقامة صلات «مع الخارج» كان يمكن ان تبدو بمثابة «تعامل مع العدو». وتؤكد المستشارة السابقة لشئون الإعلام في قصر الاليزيه ليدي جيربو انها كانت تعد له كل صباح نشرة صحفية مع بعض الملاحظات والتعليقات بحيث انه كان يطلع على كل شيء. لكن يبدو انه قد غيّر كثيراً من هذه العادة حالياً، إذ يتساءل أحد مستشاريه: لماذا يضيع وقته ويزعج نفسه بقراءة أشياء غير سارة تكتب عنه؟ ان الأمر يتعلق باجراء وقائي صحي عقلي. ومن المطلوب حمايته. ومن المعروف ان للرئيس جاك شيراك موقفاً سلبياً جداً من صحيفة «لوموند» التي يصفها بالقول: «انها ترمز لتلك النخبة التي تنظر الى ذاتها ولا تفهم شيئاً عن الواقع». ولابد من الاشارة هنا الى ان جميع الرؤساء الفرنسيين لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يكونوا محايدين حيال هذه القوة من الورق التي تمثلها صحيفة «لوموند». هكذا اختار فرانسوا ميتران أن يكون حليفاً لها الى ان طلب ذات يوم الغاء جميع اشتراكات دوائر قصر الاليزيه بها على الفور.. لكن يبقى من الأكيد ان الرئيس جاك شيراك هو الأكثر «نفوراً» من صحيفة «لوموند» التي لم تتردد من جهتها في تكريس عدد من عناوينها الرئيسية «القاتلة» له وأكثر بكثير مما فعلته بالنسبة لسابقيه. ولم يتردد رئيس وزراء فرنسا الاسبق «آلان جوبيه» الذي تولى رئاسة الحكومة الفرنسية خلال فترة 1995 ـ 1997 أي منذ فوز جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية عام 1995 وحتى قراره بحل الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1997 وفوز اليسار في الانتخابات التشريعية في القول «بأن موقف صحيفة (لوموند) السلبي منه إنما هو بمثابة (ثأر) من الرئيس إذ كان المستهدف من خلالي هو رئيس الجمهورية» على حد تعبيره. ووصل الحد بجوبيه الى تقليد الرئيس فرانسوا ميتران ومنعه توزيع صحيفة «لوموند» على مكاتب قصر فاتينيون، أي مقر الحكومة. وكانت صحيفة «لوموند» قد أخذت اثناء الحملة الرئاسية الانتخابية لعام 1995 موقفاً مؤيداً لـ «ادوارد بالادور» صديق شيراك الذي «خانه» واصر على ترشيح نفسه للرئاسة خلافا لاتفاق سابق بين الرجلين، واعتبرت بأن بالادور ـ رئيس الحكومة آنذاك، هو الفائز بدون منازع. وحول هذا الموقف قال دومينيك دو فيلبان الذي كان آنذاك رئيساً وأميناً عاماً لقصر الاليزيه «ان صحيفة لوموند ليست سلطة مضادة وإنما هي سلطة لا تتحمل وزر موقفها الخاطيء عندما دعمت ادوار بالادور عام 1995، وتعتقد بأنها قد تخسر مصداقيتها إذا اعترفت بخطئها. فما كان منها إلا ان أضافت خطأ على خطأ وفقدت كل يوم مصداقيتها اكثر». وقال جان بيير رافاران المعروف عادة بأنه نموذج للتحفظ: «انه خطأ صحيفة كامل، فهذه الصحيفة هي المسئول الأساسي عن تقليل جدية حياتنا السياسية، لكن كما تعرفون، عندما يتم النجاح في مقاومة لوموند، فلا يعود هناك ما يبعث الخشية». ان السيد رافاران خفف بالتأكيد من حدة اتهاماته بعد ان أصبح رئيساً للحكومة الفرنسية الحالية، إذ لا شك ايضاً بأن رجال السياسة الفرنسيين ليسوا حياديين حيال ما تكتبه صحيفة «لوموند». قطيعة «لوموند» من أجل حدوث قطيعة كاملة غير مفيدة بين الأليزيه وصحيفة «لوموند» تم التحضير للقاء بين دومينيك دو فيلبان بواسطة صديقه ألان مانك أحد أهم الاخصائيين بالرأسمالية الفرنسية ورئيس «مجلس المراقبة» في صحيفة «لوموند» وبين مدير تحريرها ايدي بلينيل كان اللقاء لطيفا بين الرجلين ولكن بقي كل منهما على مواقعه. و «بلينيل» هو تروتسكي سابق حيث كان عضواً في الرابطة الشيوعية الثورية. ومن هنا قد يمكن فهم مناوءته لليونيل جوسبان الذي كان هو الآخر تروتسكياً لفترة من حياته لكنه «تنكر» لذلك و«نكر» قبل أن يعترف أمام أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية. لكن هجمات صحيفة «لوموند» ضد جاك شيراك لم تفقده شعبيته، بل على العكس زادت، إذ عرف كيف يبقى قريباً من ابناء الشعب الذين أحسوا به أقرب الى همومهم ومشاغلهم، هكذا خسرت الصحيفة معركتها وفاز شيراك في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002 وللمرة الثانية، لكن هذه المرة لخمس وليس لسبع سنوات، إذ كان وراء تعديل الدستور لتصبح المدة الرئاسية خمسة أعوام فقط. وبعد فوز الرئيس شيراك بالانتخابات، تردد كثيراً في قصر الاليزيه القول «فلتتابع صحيفة لوموند هجوماتها فهذا يمثل ضماناً في زيادة شعبية الرئيس». ولقد تمت اعادة انتخاب جاك شيراك للمنصب الرئاسي للمرة الثانية عام 2002 ونسبة تزيد على 80% من أصوات الناخبين، وهذه أعلى نسبة حققها أي رئيس في مثل هذه الانتخابات طيلة تاريخ الجمهورية الفرنسي الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958 وصاغع دستورها على «قامته» بحيث أعطى صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية، والرئيس شيراك يحاول بأقصى جهده الحفاظ على الارث الديغولي.

Email