أمين هويدي يتذكر 50 عاما من العواصف ـ خيول عاجزة من الانفصال الى النكسة، مليوناً جنيه رشوة لمنع قيام الوحدة، والسراج حاول التعاون مع الانفصاليين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 8 شوال 1423 هـ الموافق 12 ديسمبر 2002 امين هويدي واحد من شهود العيان على اهم الاحداث التي شهدتها مصر والمنطقة العربية في اخطر فتراتها التاريخية. شغل هويدي منصب رئيس جهاز المخابرات العامة ووزير الدفاع، ووزير الارشاد القومي وقبلها سفيراً لدى بغداد والرباط وأحد الضباط الصغار في حركة الضباط الاحرار، الحلقات التالية مقتطفات من كتاب يصدره قريباً مركز الاهرام للترجمة والنشر بعنوان «50 عاماً من العواصف.. ما رأيته قلته». ينشر بترتيب مع وكالة الاهرام للصحافة فى يناير 1957 نقلت من قسم الخطط بالعمليات الحربية برئاسة القوات المسلحة للعمل فى المخابرات العامة رئيسا لمجموعة المعلومات والتقديرات، وكان زكريا محيى الدين يسلم رئاسة الجهاز لعلي صبرى الذى كان سيمضى فى رئاسته الجديدة فترة قصيرة ينقل بعدها إلى رئاسة الجمهورية ليتولى صلاح نصر الرئاسة من بعده وحينئذ أصبح نائبا له. كان أفراد المجموعة من الكفاءات الممتازة من أمثال فتحى الديب، وعزت سليمان، وإبراهيم بغدادى، ومحمد فايق الذين عاونونى بإخلاص فى العمليات الكثيرة التى كنا نتولاها مثل الحصول على المعلومات وتجهيز تقديرات الموقف ومساعدة الثورة الجزائرية وجنوب اليمن والحركات التحريرية فى البلدان الإفريقية وهى تكافح من أجل الاستقلال، والذين تولوا بعد ذلك مراكز حساسة. وكنت أمثل جهاز المخابرات العامة فيما كان يسمى «لجنة العمل اليومى» برئاسة على صبرى الذى كان قد نقل حديثا كوزير برئاسة الجمهورية. وكان أعضاء اللجنة السفيران حسين ذو الفقار ومراد غالب برئاسة الجمهورية، والسيد عبد القادر حاتم رئيس مصلحة الاستعلامات، وأمين هويدى من المخابرات العامة. وكانت الاجتماعات تتم يوميا لمدة ساعة فى مكتب على صبرى، وكان يتولى سكرتارية اللجنة سامى شرف سكرتير الرئيس للمعلومات. وكان واجب اللجنة النظر فى القضايا المهمة اليومية وعرض توصياتها على الرئيس الذى كان يؤشر بعلامة (أ) بالموافقة أو علامة بالاعتراض، أو بعدم وضع أى إشارة ومعنى ذلك إما مزيد من الدراسة أو ترك الأمر «للجنرال وقت».. لأن لهذا «الجنرال» قدرة غريبة على تهدئة المواقف بل أحيانا حلها وأحيانا أخرى زيادتها تعقيدا.وهذه اللجنة بقيت باختصاصاتها بعد نكسة 1967 ولكن مع تغيير أعضائها لتصبح لجنة ثلاثية من شعراوى جمعة وزير الداخلية، وأمين هويدى وزير الدولة ثم وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة فى نفس الوقت، وسامى شرف سكرتير الرئيس للمعلومات. وكان يحضرها أثناء غياب الرئيس خارج البلاد أنور السادات ومن ترى اللجنة حضوره للموضوعات المعروضة.من ضمن الموضوعات التى بدأت تفرض نفسها على جهاز المخابرات واللجنة موضوع العلاقة بين مصر وسوريا، إلى جانب موضوعات أخرى أهمها الوضع فى منطقة القناة.. كان عبد الناصر قد أممها وخاضت مصر من جراء ذلك حربا ضد العدوان الثلاثى عام 1956 وأخذت فى مواجهة ذيوله حتى تم انسحاب القوات المعتدية، وكلف المهندس محمود يونس ـ الذى قام هو وجماعته بتنفيذ عملية التأميم بنجاح مبهر رغم العقبات العالمية والمحلية الكبيرة ـ بإدارة المنطقة، وأطلقت يده لغرض الاستقرار فيها، وتسبب ذلك فى إثارة بعض القضايا نتيجة لتصرفات لم ترض بعض الأفراد والجهات.. وهو شيء طبيعى إذا نظر إليه فى إطار الظروف الحساسة التى سادت وقتئذ.سوريا فى ذلك الوقت كانت ترفع راية الوحدة، يتبنى شعاراتها كل أفراد الشعب. وسوريا تربطها علاقات تاريخية مع مصر على مر السنين، وكانت تخضع فى وسط الخمسينيات لضغوط من تركيا وتهديدات من إسرائيل دفعت البلدين الشقيقين إلى الاتفاق على إرسال قوات مصرية إلى ميناء اللاذقية عام 1957 لدعم الموقف السورى ضد تلك الضغوط والتهديدات مما ضاعف من المد الوحدوى. قدم مجلس النواب السورى دعوة إلى مجلس الأمة المصرى لزيارة سوريا، ولبى الدعوة وفد من أربعين نائبا برئاسة أنور السادات وكيل مجلس الأمة فى نوفمبر 1957. وفى الجلسة المشتركة لأعضاء المجلسين التى عقدت فى دمشق صدر قرار بالإجماع «يدعو حكومتى البلدين للدخول فورا فى مباحثات مشتركة لاستكمال تنفيذ الاتحاد بين سوريا ومصر». وفى 31 ديسمبر 1957 حضر وفد من مجلس النواب السورى برئاسة إحسان الجابرى إلى مصر، وعقد اجتماعا مع مجلس الأمة وصدر قرار يعزز قرار المجلسين الذى كان قد صدر فى دمشق منذ أسابيع. وتلا ذلك تكثيف زيارات الوفود السورية العسكرية والمدنية إلى مصر، والتى انتهت بقيام الوحدة بين البلدين والتى أعلنها صبرى العسلى رئيس وزراء سوريا من شرفة مبنى مجلس الوزراء المصرى، وألقى بعده الرئيس السورى شكرى القوتلى خطابا وتلاه خطاب الرئيس جمال عبد الناصر. كان ذلك ظهر يوم أول فبراير 1958 وكنت حاضرا فى الشرفة أسمع وأرى الحدث التاريخى. تقرر أن يجرى استفتاء على قيام الوحدة وعلى رئيس الجمهورية يوم 21 فبراير 1958. وقبلها بثمانية عشر يوماً تقرر سفرى والزميل شعراوى جمعة إلى سوريا لتقصى الأحوال هناك ومعرفة ردود الفعل على الأرض ولتقييم الأوضاع من وجهة نظر المخابرات العامة. ونزلنا فى فندق سميراميس بالقرب من نهر بردى، وأخذنا فى التنقل بين ربوع سوريا ومدنها.. حمص وحماة وحلب واللاذقية حيث نزلنا فى لوكاندة صغيرة جميلة على البحر مباشرة. وحينما عدنا فى مساء أول يوم لنا فى اللاذقية وجدنا أن إحدى العائلات العريقة فى البلدة نقلت حقائبنا إلى دارهم لنقيم فى منزل كانوا قد خصصوه لابنتهم «العروس» التى كانت قد تزوجت حديثا ولما يمض على زواجها إلا أيام قليلة. طالت الزيارة والضيافة لعدة أيام، ورأينا ولمسنا فيها المشاعر السورية الحميمة والكرم الذى لا ينسى. واستأنفنا تجوالنا من جديد. كان الشعور الغالب هو تأييد الوحدة، ولكن الأمر لم يخل من وجود عدد من غير المتحمسين بل والمعارضين. وعلى سبيل المثال، تعمدنا أن نجلس فى قاعة السينما التى كانت بجوار فندق سميراميس بدمشق حيث كانت تجرى سهرة فنية اشترك فيها فنانون مصريون وسوريون، ولاحظنا أن صفوفا من المشاهدين لم يشاركوا فى التصفيق أو الترحيب.. بل عندما كان الفنان «محمد قنديل» يغنى أغنيته المعروفة «من الموسكى لسوق الحمدية، أنا عارفة السكة لوحديه»، كانت تعليقات بعض المستمعين والمستمعات : «الموسكى فين وسوق الحمدية فين !!! أما دم ثقيل صحيح !!! روح غنى فى بلدكم». وكانت مثل هذه المشاعر تتكرر فى الأحياء التجارية وبعض المقاهى، ومن بعض المظاهر العفوية التى كنا نلمسها فى الشوارع مما ضمناه فى تقريرنا الذى قدمناه للرئيس بعد ذلك وأبدينا نصحنا فيه بالتريث. كانت حصيلتنا من المعلومات والملفات والوثائق كبيرة.. كنا نرسلها يوميا إلى جهازنا بالطائرة ليستقبلها مندوب فى المطار ليوزعها رئيس المخابرات على المجموعة المختصة لدراستها واستكمالها بالمعلومات الموجودة من قبل لإصدار تقارير معلومات إلى مراكز اتخاذ القرار. وكان لدى السفارة المصرية ومكتب الملحق العسكرى والملحق الإعلامى والثقافى فيض من المعلومات أيضا، علاوة على أن سوريا لم تكن كوكب المريخ بالنسبة لمصر ولم تكن مصر كوكب المشترى بالنسبة لسوريا وكان البلدان عضوين فى الجامعة العربية لأكثر من 13 عاما. فالقول إذن بأن الوحدة التى قامت بين البلدين كانت وحدة غير مدروسة غير صحيح على الإطلاق، وقيام البعض بإرجاع الانفصال الذى تم بعد ذلك بثلاث سنوات إلى أن البلدين لم يكونا على دراية كافية بأحوالهما وأن الوحدة كانت عملية انفعالية تنقصها المعرفة والدراسة، لا يمت للحقيقة بصلة. كان موضوع الوحدة موضوعا رئيسيا لمناقشات جادة فى «لجنة العمل اليومى». ومن المفارقات أن أعضاء اللجنة ـ ما عدا على صبرى الذى لم يفصح عن رأيه كعادته فى تعامله مع كافة القضايا التى كانت تعتبر نقطة تحول ـ كانوا يعارضون القفز بالعلاقات إلى مستوى الوحدة الكاملة، لأنها سوف تتجسد وقتئذ غرضا توجه إليه سهام المعارضين من دول الكتلة الغربية والكتلة الشرقية والأنظمة المحافظة العربية، علاوة على عدم وجود حدود مشتركة بين البلدين الأمر الذى يعتبر حيويا عند التصدى لأى تهديدات خارجية أو فرقعات داخلية. كانت ضمن الموضوعات الرئيسية التى كنا نعالجها معرفة الشخصيات التى يمكن التعامل معها فى المستقبل القريب والبعيد، وكان البعض من مختلف الاتجاهات والميول يدرك ذلك فكان الاقتراب المرغوب من الطرفين سهلا، ولكنا لمسنا ظاهرة غريبة.. فالكل يتحدث عن نقائص الكل، وكأن أحدا خال من العيوب. وكان الشيوعيون الذين قابلناهم أو سمعنا عنهم قد حددوا موقفهم سلفا بالوقوف ضد الوحدة تماما كموقفهم من ثورة يوليو 1952؛ إذ بدأت علاقاتهم معها بالمعارضة والنقد والشك. وكان من المظاهر أيضا أن للأحزاب أذرعها الحربية داخل الجيش، وكانت الخلافات السياسية بين الأحزاب تنعكس على فروعها العسكرية بالوحدات.. لدرجة أن الضباط والجنود الحزبيين كانوا لا يغادرون ثكناتهم خوفا من انتهاز البعض الفرصة للانقضاض على السلطة. كل ذلك وأكثر منه ضمناه فى تقرير من صورة واحدة ومكون من ثلاث صفحات ومكتوب بخط اليد لرفعه بعد ذلك إلى رئاستنا حينما تنتهى مأموريتنا ونعود إلى القاهرة. وقد حدثت مفارقات كثيرة أحب أن أركز على اثنتين منها : المفارقة الأولى: مقابلة تمت بيننا وبين البكباشى أركان حرب (مقدم أ.ح) أبو المكارم عبد الحى فى ظروف غريبة. والثانية : كانت قصة مليونى جنيه استرلينى دفعت لمنع الوحدة، مما ينبئ بالعواصف التى سوف تهب عليها وهى وليدة. أبو المكارم عبد الحى ضابط ذو كفاءة عالية كان مدرسا فى الكلية الحربية وحاصلا على أعلى شهادة علمية فى القوات المسلحة فى ذلك الوقت، وكان من الإخوان المسلمين.. الذين أرادوا السيطرة على الثورة حين قيامها، ولما اعترضت الثورة على ذلك عارضوها وتآمروا عليها إلى درجة محاولة قتل زعيمها فى الاسكندرية، فى أول عملية إرهابية منذ قيام الثورة. ولظروف مؤسفة لا داعى للاستطراد فيها فضل أبو المكارم أن يترك مصر ليعيش فى المنفى. كان أبو المكارم متزوجا فى ذلك الوقت من ابنة الشيخ أمين الحسينى مفتى القدس، وكان يقيم فى دمشق وقت المقابلة. عندما صحوت فى صباح أحد الأيام وجدت ورقة على الأرض ملقاة من تحت الباب، وقرأت ما فيها ووجدتها من الأخ أبو المكارم يحدد موعدا للقاء بعد ظهر ذلك اليوم. وعندما فتحت الباب وجدت أحد «الجرسونات» واقفا عن بعد وهو يبتسم، وأخبرنى أن «الضابط» كلفه بوضع الورقة حتى أتسلمها، فعرفت أن أبو المكارم ما زال على نشاطه وأن له عيونا فى الفندق الذى نقيم فيه. وتحاورت مع شعراوى فى موضوع اللقاء فكان غير مشجع لإتمامه. كنت على صلة مع أبو المكارم قبل وعند قيام الثورة، وزارنى فى المنزل فى حمامات القبة محاولا أن يضمنى إلى «الإخوان» وقت الاستقطابات النشيطة فى تلك الفترة، وبالرغم من رفضى ذلك فقد كنت من الضباط الاحرار الا ان علاقتنا لم تنقطع حتى غادر البلاد. واخيراً اقتنع شعراوي بمصاحبتي عند ملاقاة الرجل، وأخذنا في عربة «تاكسي» الى احد مقاهي «الغوطة»، وأفاض الرجل في شرح الموقف في سوريا محذراً من التسرع في اتمام الوحدة.. «سوريا بها 5 ملايين زعيم»، ومن الصعب قيادتهم فهم ليسوا كالشعب المصرى يسهل قيادته. وكان ملما بمعلومات عن الشخصيات الذين يمكن التعامل معهم. وأخيرا طلب أن نرفع للرئيس رجاءه بأن يسمح له بالعودة إلى مصر على وعد منه بإيقاف نشاطه فى مقابل عدم القبض عليه لتهم سابقة، ووعدته بذلك وأخذنا تاكسيا إلى الفندق، أما هو فقد انطلق إلى حال سبيله. ولما رفع الأمر إلى الرئيس لم يوافق محذرا من خطورة أبو المكارم، وقد بلغته الرسالة.. رحم الله الرجل إذ توفى ودفن بالقاهرة منذ شهور.. ذكرت القصة لأن المصرى مصرى حتى وهو فى المنفى يخاف على مصر مهما كانت دوافعه وآلامه. رشوة المليون أما المفارقة الثانية، فقد تمت على غداء فى منزل الأخ عبد المحسن أبو النور الملحق العسكرى المصرى بدمشق وقتئذ، وكان الأخ عبد الحميد السراج رئيس المكتب الثانى السورى مدعوا أيضا. وكان عبد الحميد قد قام أثناء العدوان الثلاثى على مصر، وبمبادرة فردية، بقطع أنبوب البترول الذى ينقل البترول السعودى وبترول شمال العراق إلى موانئ سوريا ولبنان على البحر لحرمان الدول المنتفعة من النفط الغالى، كما كانت له سمعة مرهوبة لتدخلاته وجهازه فى بعض البلدان المجاورة. ويحضرنى بهذه المناسبة قصة. كان السفير الأردنى فى الرباط حيث عملت سفيرا قبل تعيينى سفيرا فى بغداد يدعى «عبد الحميد سراج»، وناديته فى إحدى المرات باسم «عبد الحميد السراج»، فقال معاتبا: يا أخ أمين اسمى عبد الحميد سراج، فأنا رجل معروف لا أحتاج إلى «ال» للتعريف كعبد الحميد السراج فى سوريا، وطبعا ما قاله السفير يحتاج الى تصحيح.. تأخر الأخ عبد الحميد عن الموعد كثيرا فأكلنا، وقبل أن ننتهى حضر وحيا وبدأ طعامه وهو يقول فى جدية: «حد عاوز مليون جنيه استرلينى ؟» ورد عليه أبو النور : «مليون جنيه؟! إنت عندك حاجة؟» وهنا أبرز عبد الحميد شيكا باسمه بالمليون ارسله له الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية كدفعة اولى لهدم الوحدة قبل ان تنشأ.. !! ناقشنا الموضوع بجدية وقدرنا كم هى التهديدات التى ستواجهها الوحدة الوليدة حينما يبدأ فى تكوينها.. !! واتفقنا على أن يسافر شعراوى إلى القاهرة لإخطار الرئيس عبد الناصر والعودة فى نفس الليلة أو فى صباح اليوم التالى. وأمر الرئيس بصرف الشيك، وتلا ذلك شيكان آخران ليبلغ حجم الرشوة مليونى جنيه استرلينى.. ولم يقدر «الراشون» أن ثمن الوحدة ـ عند المؤمنين بها ـ لا يقدر بمال حتى لو بلغ الملايين. تم الاستفتاء على الوحدة فى الإقليمين، وعلى عبد الناصر كأول رئيس لها يوم 21 فبراير 1958، وكانت النتيجة 98% إلى جانب الوحدة ورئيسها. وفى يوم 24 فبراير 1958 رأينا ـ شعراوى وأنا ـ الذهاب إلى بيروت فى رحلة قصيرة نعود بعدها ليلا إلى دمشق. وفى شارع «الحمراء» ببيروت انقلب كل شيء على عقبيه فجأة.. انطلقت الزغاريد، تجمهر الناس، ارتفعت الهتافات، وعلقت الأعلام بينما كان الراديو يعلن بصوت مذيع مجنون فقد السيطرة على نفسه وصول عبد الناصر إلى دمشق. وعلى الفور قفزنا فى أول تاكسى وجدناه وعدنا بكل سرعة إلى دمشق، ولم نكن قد مكثنا ببيروت إلا جزءا من ساعة !!! كانت السرية كاملة على تحركات الرئيس، فقد اشتعلت المنطقة وتكاثر المتربصون والمتآمرون؛ إذ حققت القومية العربية أول انتصاراتها وهذا شيء مقلق وخطير لمن كانوا خارج الدار ولبعض من كانوا بداخلها وللأسف الشديد !!! وصلنا بصعوبة إلى قصر الضيافة، ودخلنا ونحن نعدو إلى صالة الدور الأسفل لنجد الرئيس يتصدر الصالون الكبير المكتظ بالناس وهو واقف يبتسم يحيى طابور المهنئين. وسلمنا على الزعيم واحتضناه، وأعطيته التقرير ذا الصفحات الثلاث والمكتوب باليد، وكان التوقيت سخيفا ولكنه ابتسم أكثر ودسه فى جيبه.. ناقشناه معه فى إحدى فترات الاستراحة.. فهناك اختلافات كبيرة وكثيرة يجب أخذها فى الاعتبار، وهناك أحزاب متجذرة لها أذرعها فى الجيش وتجار لا يعرفون أى قيود، وكان الرجل على علم بكل ذلك. ودعاه المواطن الأول «شكرى القوتلى» ليحيى الجماهير من شرفة الدور الأعلى، وكنا هناك لنرى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. الناس بالآلاف بل بالملايين تملأ كل الشوارع الموصلة إلى القصر، والأهازيج العربية تشدو والطبول تقرع بأصوات رهيبة، والهتافات تشق عنان السماء. وألقى عبد الناصر خطابه، وأعلن عن شيكات المليونى جنيه استرلينى.. كانت فضيحة عالمية تناقلتها وكالات الأنباء، ولكنها كانت فى نفس الوقت إنذارا يجب وضعه فى الاعتبار. ثم أخذت العجلة تدور وسط تحديات وأخطاء وإيجابيات البناء، وفى ظل المؤامرات التى كانت تحيكها القبعات والعمائم والعقالات والبريهات والتى دفعت لتنفيذها الدولارات والليرات والريالات. وحدثت بعد ذلك جريمة الانفصال.. ثم اتصالات ومباحثات تختلط فيها الخديعة بالصدق لعودة الوحدة، وفى نفس الوقت جرت خطط وتدبيرات «لغزو» سوريا لإسقاط جماعة الانفصال.. وكنا عن قرب من كل ذلك نسمع ونرى. بعد أسابيع من عودتى من سوريا أخبرنى صلاح نصر بأن الرئيس اختارني «سكرتيراً للمعلومات في الاقليم الشمالي» لصفات ذكرها واعتز بها، وأن علي صبري ألح في ذلك ايضاً الا ان الاخ صلاح اعتذر نيابة عني.. «فلأمين ظروفه العائلية التى تحول دون مغادرته القاهرة» !!! ولم يكن هناك مثل تلك الظروف التى ذكرها، ولكن لعله كان فى حاجة لوجودى فى جهازنا فرأى الاعتذار نيابة عنى دون أخذ رأيى !!! ولكن الخيرة فيما اختاره الله. هناك تساؤل قد يلح على البعض : التحذيرات والإنذارات كثيرة للتريث فى إقامة الوحدة، فلم قرر الرئيس قبولها رغم أنه كان من أنصار عدم التعجل ؟! هل للرئيس ـ أى رئيس ـ الحق فى تجاوز نصائح مستشاريه ؟ فى تقديرى أن الرئيس سيد داره، وهو ليس أسير مستشاريه أو التحذيرات التى تقدم له. واجب عليه أن يسمع بآذان كبيرة ثم يفكر ثم يقرر فهو المسئول عن قراراته سواء كانت المسئولية دستورية أو ثورية.. هو «شاهد» رخامى تحفر عليه إيجابيات وسلبيات حكمه، وهو لا يصبح بذلك منفذا دائما لاتجاهات الرأى العام ـ رغم ضرورة أخذ ذلك فى الاعتبار ـ إذ واجب عليه أن يرفعه إلى آماله وطموحاته، علاوة على أن لكل قرار إيجابياته وسلبياته.. مؤيدين ومعارضين، وهو يستمع إليهم ثم واجب عليه بعد ذلك أن يتخذ قراره، علما بأن لكل قرار جانبا من المجازفة المحسوبة.. ولذلك فاتخاذ القرار عملية صعبة معقدة ويتعرض لها الرئيس عدة مرات فى اليوم الواحد، فهذا واجبه اليومى وكثيرا ما يفرض عليه اختيار قرار سيئ من قرارات وبدائل أسوأ. وسط هذه المفاهيم، وتقديرا للموقف فى سوريا الذى أصبح خطيرا وهى تواجه التهديدات الخارجية والضغوط الداخلية، ولإيمانه بالوحدة العربية اتخذ قراره.. أقول هذا رغم أننى كنت معارضا الوحدة الدستورية الكاملة مع أعضاء «جماعة العمل اليومى»، وكان ذلك واضحا أيضا فى التقرير الذى قدمناه ـ شعراوى وأنا ـ إلى الرئيس فى قصر الضيافة فى دمشق. حدث الانفصال ولم يكن مفاجأة لنا فى المخابرات العامة حيث كنت أعمل وقتئذ نائبا لرئيس الجهاز لشئون المعلومات والتقديرات، لأن الشارع السورى كان يتحدث به علنا، وكانت المخابرات تدرى بدورها وتحذر.. بعض مدبرى الانفصال كانوا من مكتب المشير عامر الذى كان يتولى تسيير الأمور هناك.. ملحوظات ثلاث نتوقف عندها: الملاحظة الأولى هى أنه منذ اللحظات الأولى لبناء الوحدة والانفصال غرض من أغراض القوى الأجنبية وبعض القوى العربية.. ثابروا ورابطوا لتحطيمها بالمال والتآمر. وقد مارست إسرائيل أيضا ضغوطا عن طريق تحرشاتها فى منطقة الحولة فى 31/3/1958 على سبيل المثال باستمرارها فى تحويل مياه نهر الأردن وتصدى قواتنا السورية والمصرية لها بالوسائل المتاحة، بما فى ذلك طائراتنا التى كانت تطير ليلا فوق إسرائيل للتصوير باستخدام المشاعل، الأمر الذى أجبرها على الإعلان عن تأجيل العمل والحفر. الضغوط الخارجية لا يمكن أن تؤتى ثمارها إلا بمساعدة داخلية أو ضعف داخلى، الأمر الذى يحتم الانطلاق بالمجهودات الخارجية من قاعدة داخلية وطيدة. الملاحظة الثانية هي حظر وجود المخابرات المصرية في الاقليم الشمالي.. «سأقطع رجل أى نشاط من عندكم لدينا، هذا ما قاله عبد الحميد السراج أثناء غداء عمل أقامه صلاح نصر له بمناسبة وجوده فى القاهرة. ولذلك حينما تدهور الموقف واستقال السراج وابعد كل مساعديه الرئيسيين، حدث فراغ هائل قيل إن السراج ورجاله استغلوه مع الآخرين لتأييد الانفصال. وفعلا عرض الرجل خدماته على القادمين الجدد الذين رفضوا الخدمات واعتقلوه فى سجن المزة بدلا من ذلك، إلا أن السراج برر موقفه بأنه كان يريد أن يركب موجتهم ثم يضربهم بعد ذلك لإعادة الوحدة. والملاحظة الثالثة خاصة بحزب البعث أيام الوحدة، فقد لعب دوره السلبى أثناء الوحدة وفى عملية الانفصال. وقد ظهر جليا أن مناداته بالوحدة ليس معناها إيمانه بها، فقد كان يبغى من وراء ذلك الانفراد بحكم سوريا بعد أن عجز عن ذلك من قبل.. فهو يتعاون مع غيره وهو خارج الحكم بصفته الحزب المشارك، فإذا ما وصل إلى السلطة يعمل على أساس أنه الحزب القائد ثم يصفى من تعاون معه ليصبح الحزب الواحد. وقد حدث أن فاتح كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار الرئيس عبد الناصر بتكوين لجنة سرية تحكم الوحدة مكونة من ثلاثة من كل إقليم، والسوريون الثلاثة هم الثلاثة الكبار فى الحزب، شريطة أن يبقى الحورانى فى القاهرة لخطورته. ورفض الرئيس لأن الوحدة غرض نبيل لا يمكن أن نهبط بمستواه ليحكم بلجنة سرية.. ثم بالرغم من أن الرئيس عند قبوله الوحدة كان قد اشترط حل الأحزاب الموجودة فى سوريا لأن مصر كانت قد ألغت الأحزاب، فإن حزب البعث حل نفسه فى الظاهر ولكنه لم ينفذ ذلك فى واقع الحال ـ فكانت الاجتماعات مستمرة، وكانت التعميمات تصلنا أولا بأول بعد صدورها مباشرة.. ثم حينما أراد وزراء الحزب الاستقالة لم يراعوا أن استقالتهم من الحكم معناها استقالة من الوحدة، وقد عمل كل من الزعماء الثلاثة عن طريق الضابط المصرى داوود عويس على أن يؤثروا على الوزيرين توفيق عبد الفتاح وعباس رضوان كى يشاركاهم الاستقالة، حتى تكون الاستقالة قومية وليست قطرية.. ثم عند حدوث الانفصال كان صلاح البيطار أول الموقعين عليه، وحينما عاتبته وهو يزورنى فى منزلى قبل اغتياله فى باريس بأيام بكى، وكان صلاح سريع البكاء فلا تعرف إن كانت دموعه دموع تأنيب الضمير أم دموع التماسيح.. ثم ألاحظ الآن أن الحزب يحكم فى كل من سوريا والعراق ولا حديث عن الوحدة بل سيطر العداء والتنافس عليهما، لدرجة أن سوريا كانت فى صف إيران وقت الحرب العراقية الإيرانية، وقامت بقطع أنابيب النفط التى توصل نفط الحقول الشمالية فى العراق إلى الموانئ السورية على البحر المتوسط. حصلت أخطاء لا شك فى هذا، ومن مصر أيضا، ولكن هل علاج المريض بقتله وذبحه ؟! هل نحمل مصير الأمم أخطاء أولادها ؟ هل نحمل الوحدة أخطاء من يديرونها فنقضى على الآمال والمصير ؟! استخدام القوة كنت أستمع وأنا فى الجلسات التى بحثت فيها الوحدة الثلاثية بين سوريا والعراق ومصر فى إبريل 1963 إلى ما كان يتبادله الحاضرون من أسباب الانفصال، وأتساءل بينى وبين نفسى : هل نحن جادون ؟ هل نحن وحدويون ؟ هل نرغب ونحب ؟ هل نعرف ونقدر ؟ ملحوظة أخيرة : ضاع إقليم الاسكندرونة من سوريا ولم تكن هناك وحدة.. ضاع 78% من أرض فلسطين وأنشئت إسرائيل ولم تكن هناك وحدة.. عند وقوع الانفصال لم تكن البلاد العربية قد فقدت شبرا من أراضيها أيام الوحدة. فى زمن الانفصال فقدنا سيناء وعادت بعد الحرب والتفاوض والتحكيم، وفقدت سوريا الجولان ولم تستردها حتى الآن، وفقدت لبنان جزءا كبيرا من مزارع شبعا وإسرائيل تمرح وتتحرك، والشمال العراقي مهدد بالانفصال، والجنوب السوداني مهدد بتكوين دولة الجنوب مستقلة عن الشمال.. ملاحظة تستحق التمعن. سؤال آخر يتردد : لماذا لم يستخدم عبد الناصر رئيس دولة الوحدة القوة للتصدى للانفصال ؟ سؤال مشروع، فقد حدثت الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) حينما فكرت بعض ولايات الجنوب في الانفصال عن الاتحاد فرفضت الوحدة على «اليانكي» بالقوة.. بسمارك حقق الوحدة للولايات الالمانية متخذاً بروسيا قاعدة لمناوراته السياسية والعسكرية.. وغير هذا أكثر. إذن فاستخدام القوة وسيلة مشروعة لاسترداد الوحدة التى تمت باستفتاء شعبى وبرضاء كامل من شعبى القطرين، فى حين أن الانفصال تم باستخدام القوة وبالرشوة والمال فى فترة الإعداد لها وفى فترة ذبحها بعد تكوين الدولة ولم يتم استفتاء على الوضع الجديد.. استخدام القوة كان إجراء شرعيا ضد انفصال غير شرعى. حدث الانفصال يوم 28 سبتمبر 1961 وكان المشير عبد الحكيم عامر هناك فى دمشق يتولى مسئولياته، وكان اللواء أنور القاضى رئيس أركان حرب الجيش الأول فى قيادته فى دمشق. قلت ذلك لأن المشير عامر ظل على رأس قواتنا المسلحة يوم 5 يونيو 1967، وكان نفس أنور القاضى بعد أن كان قد رقى إلى رتبة الفريق رئيسا لهيئة العمليات لقواتنا المسلحة فى نفس التاريخ، وكانا معا فى الطائرة التى كانت تحلق فى الجو وقت أن قامت إسرائيل بضربتها الجوية فى الساعة الثامنة وخمسين دقيقة.. نفس القادة فى الانفصال هم هم فى النكسة، مع فارق واحد هو ترقية اللواء القاضى إلى رتبة فريق وزيادة ضخمة فى مسئوليات ونفوذ عامر !!! كان من الواجب تغيير الخيول بعد أن ظهر عجزها أثناء السباق. حاول عبدالناصر مقاومة الانفصال.. الطائرات تجهز للاتجاه صوب اللاذقية.. عامر يصل مبعدا إلى القاهرة.. قوات حمص تؤيد الانفصال، وقوات قطنة أيضا.. قوات حلب منقسمة.. قوات اللاذقية موقفها غير واضح.. تمت عملية إسقاط مظليين فى مطار «حميميم» بالقرب من اللاذقية بقيادة الرائد جلال هريدى (هو نفسه الضابط الذى انضم إلى قوات المشير فى منزل الجيزة بعد إعلان حركة العصيان بعد نكسة 1967).. قوات اللاذقية تحاصر المطار.. تستسلم القوات المصرية فى فجر يوم 29 سبتمبر 1961 بعد إلقاء السلاح.. تم اعتقالهم فى ثكنات حمص ما عدا جلال هريدى الذى اقتيد إلى دمشق للتحقيق، ثم هاجمنا جلال فى الإذاعة بعد ذلك.. صدرت الأوامر لباقى القوات المصرية التى كانت فى الطائرات مستعدة للتحرك بإلغاء العملية، والسبب تدخل المشير الذى كان قد وصل فعلا، وكذلك أيقن الرئيس ألا فائدة من التدخل لصعوبة إمداد القوات لو تعقد الموقف لعدم وجود حدود مشتركة، وسمعت أن ذلك تم بنصيحة من بعض الأصدقاء وبإنذار من كثير من الأعداء. يعنى استخدم الرئيس القوة فى مقاومة الانفصال، وكان يرغب فى الاستمرار فى ذلك لو سمحت الظروف. كان هناك ثغرة بين الرغبة والقدرة، ولا ضير من ذلك فهو الرئيس الشرعى للجمهورية العربية المتحدة التى انفصل عنها الإقليم الشمالى. ولكنى حمدت الله أن الرئيس تراجع؛ إذ لا يصح تعزيز الفشل.. وضربت الوحدة فى مقتل من حفنة من الضباط السوريين معززين برجال الأحزاب القدامى بأموال تدفقت من أكياس مليئة بالذهب الرنان. ولكن تمت محاولة أخرى بعد ذلك بسنوات ثلاث.. كنت فى ذلك الوقت سفيرا فى بغداد منذ فبراير 1963 أثناء حكم عبد السلام عارف. كان قد اتفق على قيام المشير عامر بزيارة بغداد يوم 2/4/1964 إلا أن الزيارة تأجلت إلى موعد يحدد فيما بعد.. وفى أواخر الشهر كنت فى إحدى زياراتى إلى القاهرة، وكان كل من الرئيس والمشير فى اليمن، وصدرت أوامر الرئيس وهو فى صنعاء بعدم عودتى إلى بغداد فى انتظار مقابلتى له بعد عودته، ولطول مدة بقائى فى القاهرة انتشرت شائعات بأننى لن أعود إلى بغداد لاتهامى باتهامات لا صحة لها أخذت إذاعة دمشق ترددها وبلغت ذروتها يوم 28/4/1964. فى يوم 29/4/1964 قابلت الرئيس بعد عودته، ولأهمية حديثه سأنقله بالنص من مذكراتى : تحدث عن ضرورة دعوة الرئيس عارف لاحتفالات تحويل مجرى النيل أثناء بناء السد العالى؛ إذ علم أنه سينيب عنه طاهر يحيى رئيس الوزراء، خاصة أن بين من سيحضر الاحتفالات خروشوف وبن بيلا والسلال، وسوف تكون هذه فرصة لإزالة الخلاف بينه وبين خروشوف لاتهام الأخير له بالرجعية. وطمأنت الرئيس إلى حضور الرئيس عارف، فهو يتطلع إلى ذلك. ذكر الرئيس أننا نؤيد عارف إلى أبعد حد وسوف نلبى كل طلباته. فى سوريا هذه الأيام عمليات إضراب، ولؤى الأتاسى (كان رئيس سوريا بعد انقلاب 8 مارس 1963 الذى قام بعد القضاء على حكم الانفصال، وكان صلاح البيطار رئيسا للوزراء، وظهر أنه حكم انفصال لا يفرق عن الحكم الذى سبقه) سوف يقوم بعملية يدخل فيها إلى دير الزور فى شمال سوريا ويعلن حكومة سوف نعترف بها ونؤيدها بالقوات الجوية وبكل المساعدات الممكنة. تساءل الرئيس عن مدى استعداد العراق فى الاشتراك فى العملية ؟ هل سيعترفون بحكومة لؤى ؟ هل يمكنهم المشاركة بدبابات وطائرات ونحن نوفر الأطقم من الأفراد؟ هل الرئيس عارف مستعد لتوفير كتيبتين تحت علم سوريا؟ إذا لم يحسم الموقف الآن فى سوريا لن يحسم على الإطلاق. لؤى موجود الآن فى بيروت وسوف يحضر إلى القاهرة 1/5/1964 ويتحرك فى طائرة المشير يوم 4/5 إذ تحددت زيارته إلى بغداد فى هذا اليوم. إذا نجحت العملية لا حديث عن الوحدة مع سوريا، ربما اتحاد على غرار علاقتنا مع اليمن تحتفظ فيه الدول بكياناتها. سيقوم المشير بمفاتحة الرئيس عارف بذلك عند زيارته، ونحن على استعداد لإقامة نوع من الاتحاد مع العراق ويمكن أن تضمنوا ذلك بيان الزيارة. وبينت للرئيس خطورة العملية خاصة أن معرفتى بلؤى الأتاسى تؤكد أنه رجل ضعيف لا يستقر على رأى. إلا أن الرئيس ذكر لى أن الأيام صقلته. لاحظ الرئيس أننى أشعل سيجارتى بالكبريت ـ كنت وقتئذ أدخن ـ فقال لى : «يا أخى سفير ولا تملك ولاعة ؟» وأهدانى ولاعة مازلت أحتفظ بها إلى الآن رغم إقلاعى عن التدخين. كان الرئيس يعلم أننى سأقابل المشير الساعة 12 ظهرا إلا أنه تعمد تأخيرى عنده حتى الساعة الواحدة، ترى لماذا؟ هكذا تساءلت طبعا بينى وبين نفسى !!! قابلت المشير فى اليوم التالي ولم يخبرني بشيء مما قاله الرئيس، غير انه قال لي وأنا اغادر: «خلى عربتك جنب الطيارة حينما اصلكم في بغداد يوم الاثنين 4 مايو.. طبعا خمنت أن «الشحنة» ستكون معه. وغادرت إلى بغداد على الطائرة العربية بعد ظهر نفس يوم المقابلة، وكان وصولى إلى بغداد ضربة قاصمة للإشاعات التى رددت أنى لن أعود إليها، واستأنفت أعمالى وأنا مشغول البال بحديث الرئيس مصمما على الحيلولة دون أن تتم محاولة «لؤى». وفى صباح الاثنين 4/5/1964 وصل المشير إلى مطار بغداد وفى رفقته وفد كان من بين أعضائه الوزيران عباس رضوان وعبد الوهاب البشرى، والفريق محمد فوزى رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة. وأوصلتهم إلى عرباتهم المخصصة لهم لتتجه بهم إلى قصر بغداد مكان إقامتهم طوال الزيارة، وعدت مسرعا إلى الطائرة وعربتى الواقفة إلى جوارها، ونزل لؤى الأتاسى مسرعا ووراءه اللواء أحمد منير عبد الرحيم واللواء أحمد أيوب من قيادة القوات المسلحة واتجهنا إلى منزلى فى الأعظمية ـ قبل أن أنقل دار السفير إلى كرادة مريم ـ ليقيموا هناك حتى نهاية الزيارة فى ضيافتى. قابلت الفريق لؤى الأتاسى من قبل عدة مرات : أول مرة وهو رئيس جمهورية سوريا بعد حركة 8 مارس، حينما وصل إلى القاهرة على رأس وفد سورى لحضور مباحثات الوحدة الثلاثية بين القاهرة وسوريا والعراق، والتى انتهت بالتوقيع على اتفاقية 17 ابريل التى فشلت بعد أسابيع من الإعلان عنها. مرة أخرى فى مكتب المشير عامر فى القيادة العامة للقوات المسلحة، وكان الرئيس وقتئذ فى موسكو وكان لؤى مازال رئيسا لسوريا وكان يحاول تعديل ما اتفق عليه فى الاتفاقية. مرة أخرى بعد ذلك بأيام فى القصر الأبيض ببغداد محاولا إقناعى بتغيير الاتفاق أيضا. والمرة الأخيرة هى التى أتحدث عنها بعد أن انقض عليه البعثيون مع آخرين.. كان لؤى كما عرفته رئيسا بلا سلطة، ثم بعد أن ترك الرئاسة أو تركته الرئاسة كان شخصا مهزوزا بلا إرادة. أما اللواء أحمد منير عبد الرحيم فكانت صداقتى معه عائلية وحميمة، وكنا مع صديق آخر اللواء عبد الوهاب جمال الدين الذى استشهد فى العريش فى حرب 1967 نشكل ثالوثا يتحدث عنه الجميع فى القوات المسلحة قبل سنوات. وسألت منير عن سبب وجوده مع «هذه البطارية»، فذكر أنه سيعمل كأركان حرب لؤى الأتاسى أثناء تقدمه إلى دير الزور، وأن اللواء أيوب معهم لتنسيق موضوع التعاون الجوى.. هكذا ببساطة قالها منير وهو يدخن بشراهة. سألته عن مدى اقتناعه بنجاح العملية فذكر أنها لن تنجح ولكنه سينفذ الأوامر. حاولت إقناعه بأن نعمل سويا على إلغائها لتلافى خطورة نتائجها، إلا أنه ذكر أنه عسكرى يتحتم عليه إطاعة وتنفيذ الأمر. قررت بينى وبين نفسى الاعتراض لإلغاء العملية الخطيرة أو على الأقل تأجيل أخذ قرار بشأنها. تناول المشير غداءه فى حفل كبير أقامه الرئيس عبد السلام عارف على شرفه فى القصر الجمهورى، وتناول طعام العشاء فى حفل كبير أقامه رئيس الوزراء طاهر يحيى على شرفه أيضا فى المجلس الوطنى. وبعد العشاء عقد اجتماع فى مكتب الرئيس عارف بالقصر الجمهورى لبحث الموضوع الخطير. الوفد العراقى مكون من الرئيس عارف، وطاهر يحيى، وصبحى عبد الحميد وزير الخارجية، وعارف عبد الرزاق قائد القوات الجوية. الوفد المصرى : المشير عامر، أمين هويدى، اللواءان منير عبد الرحيم وأحمد أيوب. وظهرت خرائط من حقائبها وعليها الأسهم الزرقاء والحمراء. وكان الغرض الذى حدده الفريق لؤى الأتاسى هو قيادته لعملية عسكرية للتقدم إلى دير الزور معتمدا فى ذلك على قوات عراقية ومصرية. وقام اللواء منير عبد الرحيم بذكر بعض التفاصيل بصفته رئيس أركان العملية، وظهر القلق الشديد على وجه الرئيس عارف الذى كاد ينطق بعدم الموافقة مع ما فى ذلك من إحراج لأنه الرئيس المضيف. وتدخلت كأول المتحدثين، واعترضت على الفكرة من أساسها لصعوبة تنفيذها من جانب، ولما سوف تحدثه من رد فعل فى الدوائر الأجنبية والعربية من جانب آخر، ولصعوبة تحقيق المفاجأة اللازمة، ولتعقد النواحى الإدارية لها. وتحدث عارف عبد الرزاق وبيّن صعوبة عمليات التعاون الجوى للقوات البرية واستحالة قيام قواته بذلك، وأيد ما تحدثت به عن رد الفعل على المستوى العالمى والعربى. وكان الرئيس عارف آخر المتحدثين، وركز على صعوبة العملية وشكه فى نجاحها وما سوف يحدث من رد فعل داخل العراق.. فالموقف الداخلى غير مستقر. أما المشير فلم يشترك فى الحوار بصفة جدية. ورئى تأجيل بحث الموضوع إلى اليوم التالى 5/5/1964 بعد عودة المشير من زيارته للحبانية وحفل الاستقبال الذى أقمته كسفير للجمهورية العربية المتحدة فى دار السفير مساء. وتم الاجتماع الثانى مساء بعد حفل الاستقبال فى دار السفير وبعد عشاء أقامه الرئيس عارف فى منزله. فى هذا الاجتماع اشتدت المعارضة، واستقر الرأى على تكليف لؤى وضباطه المصريين بعمل تقدير موقف آخر يبحث فى اجتماع يحدد موعده فيما بعد فى القاهرة. وقد سررت حقيقة لهذه النتيجة وتنفست الصعداء، فمعنى التأجيل والمزيد من الدراسة شيء واحد هو الإلغاء. وفى يوم 7/5/1964 انتهت زيارة المشير وغادر هو ومن معه إلى القاهرة، وحدثت أثناء الزيارة أحداث كثيرة ومثيرة أعتقد بأهمية ذكرها حينما أكتب ذكرياتى عن إقامتى فى العراق. ولم أر الفريق لؤى الأتاسى ولم أسمع عنه بعد ذلك.. كان الرجل به طيبة كبيرة وهو يلعب فى غابة السياسة التى يكثر فيها الفهود وأبناء آوى، لأن ممارسة السياسة فى سوريا ليست نزهة فى الغوطة ولكنها مغامرة تحتاج إلى الحذر مهما وضع لها من حسابات. غداً في الحلقة الثانية

Email