كتاب ـ الجيل الشامخ منتصب القامة ـ الحلقة الاولى ـ مظاهرات أكتوبر 2000 أثارت ذهول الجميع، خيبة مزدوجة يعاني منها الاسرائيليون في ظل حكم شارون

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 14 شعبان 1423 هـ الموافق 20 أكتوبر 2002 الإسرائيليون في حياتهم السياسية والاجتماعية لم يتداولوا مصطلح «التطهير العرقي» لاعتبارات كثيرة، منها معاناتهم في الشتات، وكراهيتهم لمثل هذه المصطلحات التي ترعبهم، إضافة إلى مفهوم «التطهير العرقي» نفسه، والذي يعني قيام الجيش بطرد السكان على نطاق واسع، ويعتقد معظم الإسرائيليين أن هذه الأمور من الممكن أن تحدث ولكن بعيداً عن المنطقة، مع أن التطهير العرقي ليس هو الأسوأ، فهناك وسائل كثيرة تؤدي إلى النتائج نفسها، كسلب الحقوق في سوق العمل وحظر السكن في مناطق أو تحديده في مناطق أخرى، أو تنفيذ حملات الترويع وإثارة الرعب لحمل السكان على ترك مدنهم وقراهم، إضافة إلى الاعتقالات الوقائية والإدارية والاغتيالات وغيرها من الأساليب التي تدفع بالسكان إلى الرحيل. ومن الممكن أيضاً اللجوء إلى قتل أبناء أقليات عرقية على نطاق أوسع بكثير، ولكن بوسائل بدائية كما حدث في رواندا عام 1994، أما نهاية هذه السلسلة فهي التطهير الأخير، أي القتل المنظم والمبرمج لشعب بواسطة عملاء الدولة، كما فعل ذلك النازيون في حينه.وظواهر التطهير العرقي في العصر الجديد، توقفت جميعها قبل أن تصل إلى النهاية الوحشية- باستثناء واحدة في أوروبا والبعض في دول العالم الثالث-. وكل هذه الظواهر تحمل قاسماً مشتركاً واحداً، هو الميل العرقي المركزي للأغلبية في تقييد حقوق الأقليات- وفي الأماكن التي تتمتع بقواعد ديمقراطية، فإن هذه العملية من شأنها أن تحدث في ظل الرداء النزيه للسلطة ويتمثل ذلك في أغلبية تعكس «رغبة وإرادة الشعب» أي مصالح جماعة الأغلبية، لقد أظهر عالم الاجتماع مايكل مان مؤخراً بأن مستويات ودرجات متطرفة لتطهيرات عرقية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ البشري ـ ليس في العصور القديمة والمظلمة، وإنما بالذات مع بداية القرن التاسع عشر وبقوة أكبر في القرن العشرين. وحدث الأمر مع انتشار الفكرة الديمقراطية التي تضع الشعب كمصدر الشرعية المطلقة للسلطة والحكم، أما قضية انتماء هذا الشخص لهذا الشعب أو ذاك، فلم تقلق الدول والإمبراطوريات غير الديمقراطية، ولكن في القرن التاسع عشر ومع الديمقراطية وسلطة الشعب، ظهرت مشكلة الأقليات بكل قوتها. وتفسير ذلك واضح وبسيط، فلقد سكنت إلى جانب أو على هامش كل شعب مجموعات هامشية عرقية، قد تكون كبيرة أو صغيرة، مستعدة للذوبان أو للاندماج، أو متعصبة متمسكة بهويات ثقافية حضارية وسياسية مستقلة، لكن المشترك فيما بينها هو أنها ليست جزءاً من الشعب الحاكم في دولة هم مواطنوها، فلقد حكم عليهم بأن يكونوا (الآخرين) أي الخارجين عن المجموعة الحاكمة. وعند تعريف الأمة كمبدأ للأساس المتجانس للدولة فإن كل مجموعة أقليات في داخلها تشكل مصدر قلق لها. وهناك كثير من الإسرائيليين الذين يدعون إلى تشديد سيطرة الدولة والأغلبية اليهودية على الأقلية الفلسطينية، وتجدر الإشارة هنا إلى ما قام به المركز المتعدد الإختصاصات والمجالات في هرتسليا عام 2000، من ورش ومجموعات عمل لمناقشة مسألة «ميزان المناعة والأمن القومي ـ اتجاهات سياسية» فمن بين خمسة وعشرين محاضراً ـ جميعهم من الرجال ـ كان هناك خمسة عشر شخصاً برتبة جنرال وكولونيل، ورئيس أركان على رأس عمله، ورئيسان سابقان للموساد، ووزيرا دفاع سابقان ورئيسا حكومة سابقان بيريز ونتانياهو وأرييل شارون، وكان ايهود باراك قد ألغى حضوره في اللحظة الأخيرة. أما كراسة التلخيص الصادرة عن اللقاء وفي الفصل المتعلق بمكانة المواطنين الفلسطينيين فقد جاء فيها: «يحق للأقلية العربية، طبعاً، الحصول على جميع الحقوق الثقافية والاقتصادية والدستورية والاجتماعية، والتي تحظى بها بشكل عام جميع الجماعات الأقلية، ولكن تطبيق وتحقيق هذه الحقوق سوف يكون ممكناً، على ما يبدو وبشكل كامل، كلما تحمل هذا الجمهور واجباته المدنية، وكلما وجد واقعاً إقليمياً جديداً، حيث يكون حق وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية ليس موضع شك في العالم العربي بأسره، وكمبدأ عام فإنه لا يمكن التغاضي أو التجاهل عن المعطيات الخلفية حيث للأقلية العربية في إسرائيل روابط عرقية عقائدية وسياسية مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي، وبالتالي فان وضعها مختلف عن أقليات أخرى في العالم، كما أن تطبيع الوضع السياسي للأقلية العربية في إسرائيل مرتبط بتطبيع وضع إسرائيل في المنطقة، وهو شأن بعيد المدى. نظرية التسلط العرقي هذه هي نظرية السيطرة والتسلط العرقي وكلمة (طبعاً) في السطر الأول هي أوضح دليل على ذلك، ويبدو المقطع السابق ليبرالياً تسامحياً ومنفتحاً، غير أن سلسلة الاشتراطات الواردة في الجملة التالية تعكس التسامح وتقلبه رأساً على عقب، فالشروط توضح بأن الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل يحق لهم الحصول على حقوق معينة، ثقافية واقتصادية ودستورية واجتماعية، أما الحقوق الأخرى والتي هي بديهية ضمن ديمقراطية فعلية، مثل حق المساواة والهوية الجماعية والتعبير السياسي الحر، والوصول والمشاركة في موارد الدولة فليست واردة، كما أن تحقيقها مرهون بسلسلة من الاختبارات، البعض منها مستحيل بالمطلق، فعلى سبيل المثال اختبار (الواجبات المدنية) هو بشكل عام اسم أو شيفرة للخدمة العسكرية أو القومية كما يسمونها، ومشاركة الفلسطينيين فيها مستحيلة، طالما أن قوات الأمن تعمل على القتل والقمع والاضطهاد في المناطق المحتلة. أما الاختبار الثاني المتمثل بنشوء واقع إقليمي يقبل بوجود دولة إسرائيل فهو بمثابة تملص على غرار التضليل والخداع.فالمدى الزمني مفتوح وسقف الاختبار الذي يضعه غامض وغير ثابت، وهذا الارتباط بين تطبيع الوضع السياسي للأقلية العربية، وتطبيع الوضع السياسي لدولة إسرائيل في الشرق الأوسط مثله كمثل تخطيط ورسم الالتزام بالمساواة المدنية على كتلة من الثلج. وليس في الاجتماع أية شخصية عربية تبدي رأيها في الموضوع، ولا مجال للخطأ في أن التحديد الجازم بأن «إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي» يدفع بقائليه نحو سفح أملس من التطهير العرقي (الخفيف)، فهو إدمان متوقع بشكل مطلق، ويشتمل على قواعد ومعايير رسمية وغير رسمية لابعاد المواطنين عن المشاركة الفعلية في مشروع الدولة، كما أنه لا توجد إمكانية مسبقة لتوقع الوتيرة التي سيتطور بها. من جهة أخرى فإن المأزق الأساسي الذي يواجه الأغلبية اليهودية في إسرائيل هو على النحو التالي: هل يتوجب على الدولة أن تشكل تعبيراً كاملاً وفياً ومطلقاً ووحيداً للدولة، وبعبارة أخرى هل هو أن تكون الدولة مشروعاً عرقياً قومياً يخدم اليهود فقط، ويقدس حقهم في تخليد سيطرتهم على جميع مراكز القوة، أم أنه ينبغي عليها أن تكون مشروعاً يحتوي عناصر أخرى، وحتى لو أن المشروع الصهيوني جاء إلى العالم في حينه لطرح قضية تخليص الشعب اليهودي، فإنه من المحظور أن يكون مفتوحاً ومقتصراً على اليهود فقط. وبموجب التوجه الثاني والذي يطالب به هذا الكتاب فإنه يتوجب على الدولة إعادة تعريف قاسمها المشترك وإرسائه في المواطنة، وليس بالانتماء العرقي، كما أن خطوة من هذا القبيل تلزم بإحداث تغيير جوهري في صميم قيم الدولة. والرموز الأساسية القائمة في الدولة، لن تستطيع يوماً أن تقترح على الأقلية الفلسطينية المساواة التي تدعي الدولة بكل قوة أنها تؤمن بها وتسعى إليها. من جانب آخر، فإن الإسرائيليين المؤيدين لخيار السيطرة واقعون في تناقض غريب، فهم من جهة يزعمون بأن النمو الديموغرافي الفلسطيني سيصل إلى درجة تهديد الأغلبية اليهودية حتى داخل الخط الأخضر، إذ يفترض واضعو وثيقة المناعة القومية لاجتماع هرتسليا بأنه في غضون عشرين عاما ستكون النسبة بين اليهود والفلسطينيين في منطقة الخط الأخضر ثلاثة مقابل واحد بينما هي اليوم خمسة لواحد، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك فمنذ عام 1949 كان المواطنون الفلسطينيون يشكلون 17.8% من مواطني الدولة وظلت نسبتهم ثابتة، بل هبطت قليلا، وبموجب الإحصاء السنوي في إسرائيل عام 2000 شكل الفلسطينيون 16.1% من مواطني الدولة (والنسبة تتصاعد حتى 18% إذا شملنا مئتي ألف هم سكان القدس الشرقية)، يضاف إلى ذلك أننا إذا أخذنا نسبة الزيادة لدى الفئتين السكانيتين كما كانت في نهاية التسعينيات، والتناقض الذي وقع فيه المتكهنون بالصعود الكبير والسريع في الحجم النسبي للفلسطينيين- كما حدث مع واضعي تقرير هرتسليا- هو أنه لن يكون بالإمكان تجنب ممارسات قمعية وعنصرية من النوع الذي اتسم به نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. عدا عن ذلك فإن فرص وآمال الأغلبية في المحافظة على السيادة والإستعلاء سوف تقل، كلما ازدادت الأقلية حجماً، وكلما ازداد معدل نمو العزلة والكراهية لديها. وضمن هذه الديناميكية تكون مسألة الانتقال والتحول نحو نظام متساوٍ أكثر جدية، وفي حال حدوث الأمر بضغط أزمة وجود فإنه يكون مرتبطا بعنف عرقي ومعاناة بالغة، وفي المقابل وفي حال حدوث العملية بطواعية ورغبة في إطار محدد فإن فرصها في أن تؤدي إلى التعايش ستكون أكثر. أحداث أكتوبر 2000 أما فيما يتعلق بأحداث أكتوبر 2000، فقد شكلت الحكومة لجنة للتحقيق في تلك الأحداث وملابساتها اتخذت اسم لجنة أور، ومع أن هذه اللجنة لن تعيد الحياة إلى الشباب الذين سقطوا قتلى، وربما لن تستطيع أيضاً سحب السم الذي أصاب علاقات الأغلبية اليهودية والأقلية الفلسطينية في إسرائيل، إلا أن الكثير من اليهود سوف يظلون يعتبرونها إجراءً زائداً (لتهدئة العرب فقط والاهتمام بالثرثرة السياسية) والفلسطينيون من جانبهم سيجدون صعوبة في التصديق بأن عمل اللجنة يتعلق باحقاق العدل، أي أن كثيرين منهم سوف يظل يراودهم الشعور بأنهم ضحايا وليسوا أصحاب حق. الأزمة والشرخ الناجمان عن أحداث أكتوبر 2000، جعلت اللجنة في مواجهة معضلة وطنية مصيرية بدون جدل شعبي عام أو تفكير وحساب سلطوي منظم تعتمد عليه وتستند إليه. والأمر هذه المرة مختلف عن أن يكون جولة في دائرة الصراع بين اليسار المعتدل واليمين المعتدل، فالجدل يغرق ويغطي المساحة وبشكل مفاجئ، وردود الفعل تخلط بين اليسار الصهيوني واليمين الصهيوني، وقد بدا مراراً، وكأن اليمين بالذات ملزم بالليبرالية أكثر من اليسار الذي يعتبر نفسه ممثلاً للتنوير، فأرييل شارون المولود في قرية تعاونية تنتمي إلى يمين حزب العمل التقى بقادة الجمهور الفلسطيني في الأشهر الأولى لتوليه رئاسة الحكومة، أكثر مما فعل سلفه باراك المولود في أحد كيبوتسات يسار حركة العمل - طيلة أيام حكمه التي استمرت ثمانية عشر شهراً، وأبدى اليمينيون مواقف أكثر مرونة من بعض شخصيات حزب العمل، فعلى سبيل المثال خلال برنامج تلفزيوني حول زئيف جابوتنسكي مؤسس اليمين والأحرار، وافق دان مريدور أحد أمراء قادة حيروت أي الأحرار على أن أفكار مؤسس الحركة قريبة جداً من مبدأ الدولة لجميع مواطنيها. فهل هناك بريق أمل في أن يعيد السكان اليهود وقادتهم قراءة تاريخ المنطقة؟ وهل هم قادرون أيضاً على تجسيدها في اتجاهات جديدة؟ إن أحدى العوائق التي تحول دون تحرك كبير للقيم في اتجاه الاندماج الفعلي للمواطنين الفلسطينيين تتمثل في التبرير الذي يميز الحوار والجدل الشعبي اليهودي العام، والذي إزداد تعاظماً بعد أحداث اكتوبر 2000 فشعور الشخص بأنه إيجابي ومحق وعادل وصاحب نوايا حسنة أكثر من غيره، هو بمثابة صفة غير سليمة في ظل أي وضع من الأوضاع، كما أن دحرجتها لوضع المواجهة أمر مرفوض وخطير بشكل خاص، ولأجل تبريرها هناك ميل لديه لاحتكار الاستقامة والعدل وفقدان الصلة برأي خصمه وتجاهل إنسانيته، والدافع لديه بالتنصل والتبرؤ من التهمة، يفرض عليه النظر إلى الآخر بشكل بسيط، كتجسيد للشر وكلما اعتمد التبرير على الاستعلاء الأخلاقي كان أكثر ظلامية، ومتى ما ارتبط صاحب التبرير بالقوة كان الانزلاق بسرعة كبيرة نحو العنف الخطير، هذه النغمة التبريرية التي استحوذت على إسرائيل ابان انتفاضة الأقصى، كانت تتزايد كلما اتجه الفلسطينيون نحو استخدام السلاح وبالذات بتنفيذ العمليات التفجيرية ضد الإسرائيليين داخل مناطق الخط الأخضر، كما أن الامتناع الدائم من جانب المؤسسة الفلسطينية، عن محاولة فهم الأجواء السائدة لدى الجمهور الإسرائيلي، وعدم توجهها إليه لشرح المنطق السياسي الفلسطيني، عزز من مشاعر التبرير لدى الإسرائيليين. يضاف إلى ذلك ميل وسائل الإعلام الإسرائيلية لتصوير الضحية الإسرائيلية مستهدفة فقط لكونها يهودية وليس لما يتعلق بنشاطها، إلى جانب أن التعامل بشكل رخيص في وصف معاناة الفلسطينيين منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، لا يشكل عائقاً في وجه وسائل الإعلام الإسرائيلية لتصوير الضحايا الفلسطينيين طوال الوقت تقريباً كجزء من أحداث العنف التي شاركوا فيها. وخلال فترة حكم باراك كانت أحداث الانتفاضة توصف (بتبادل إطلاق النار والإخلال بالنظام) وعند صعود شارون إلى السلطة احل محل الألفاظ والعبارات السابقة بتعبير «العنف الفلسطيني» ولاحقاً مع تفاقم الأحداث (الارهاب والحرب). ومهما كان الأمر فان التقرير يشتمل دائماً على حدث يوفر الشرح والتفسير الواضح لقتل وإصابة الفلسطينيين، ثم إن عدم التناسق والتماثل هذا ليس مصادفة، بل هو يسمح لليهود الإسرائيليين بممارسة حياة عادية تتجاهل بشكل دائم ويومي، الجوع والمعاناة والدمار والانعزال الذي يحدث على بعد بضعة كيلومترات فقط منهم، إضافة إلى أن الجهل وعدم معرفة معظم الإسرائيليين بالمعاناة في المناطق الفلسطينية - والتي تغذي التبريرات - اكتسبت زخماً هائلاً في ابريل عام 2002 عندما احتلت إسرائيل من جديد مدن الضفة الغربية حيث تم جرح وقتل المئات من الفلسطينيين، واعتقال الآلوف وتدمير البنى التحتية الطبقية والمدنية بالإضافة إلى خضوع مئات الألوف من المواطنين لنظام حظر التجول والحصار لأسابيع عديدة، وقد اعتبر معظم الإسرائيليين هذه الحملة عادلة وسليمة ومبررة فهي بمثابة الدفاع عن النفس. خيبة مزدوجة من جهة أخرى فان نظرة معظم الإسرائيليين اليهود للمواطنين الفلسطينيين تنطوي على طاقات مدمرة، لا تقتصر نتائجها فقط على التصريحات الوزارية المتصلبة، أو ثرثرة سائقي التاكسيات، والأحاديث الصالونية، فالنظرة الثابتة بقبول التبرير تجدد حالة نفسية ومزاجاً قومياً قابلاً للانفجار، عندما يضاف إلى التناقض الذي يحس به الإسرائيليون من أنهم مواطنو دولة احتلال وذات قوة عسكرية، وفي الوقت نفسه يضطهدهم ويطاردهم الآخرون، وهذا من شأنه انضاج ظروف تصل إلى حد الكارثة، لقد تمثل هذا وانعكس بشكل واضح في أعقاب أحداث 11 سبتمبر التي تعرضت لها أميركا إذ تحول مصطلح (الارهاب) إلى العبارة المهمة في دائرة الجدل العالمي ولقي استجابة كبيرة لدى الكثير من الإسرائيليين. والاعتقاد بأن الارهاب يتم تعريفه بواسطة نتائجه ـ وفي هذه الحالة موت مواطنين أبرياء ـ والربط بين المقررات والآراء القديمة والمسبقة والحالات الاستشهادية الواسعة، وبين جماعات إسلامية دفعت بحكومة شارون إلى الوهم القائل (بأن الأميركيين في نهاية المطاف بدأوا يتفهموننا أيضاً)، وكان أمل شارون في أن ينظر الغرب إلى ابن لادن السلطة الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي) وكذلك حزب الله كماهية وجوهر واحد غير منفصل، ويضع إسرائيل على رأس حربة جناح الأخيار ويضع الفلسطينيين كجزء لا يتجزأ من الأشرار. وبالتالي تنطلق البشرية لشن حرب يأجوج ومأجوج.لقد خاب أمل الإسرائيليين مرتين: الأولى في أن نظرة شارون القائلة بأن نشاطات المقاومة الفلسطينية هي إرهاب نابع من تعطش للدم اليهودي، وهذه النظرة لا تزال معزولة. فلقد اتضح بأن كثيرين في العالم وعدداً من المسئولين الكبار في أوروبا، وكذلك لدى الإدارة الأميركية أيضاً بمن فيهم الذين يستنكرون الهجمات الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيليين داخل الخط الأخضر، يعتبرون المقاومة الفلسطينية عملاً شرعياً مقاوماً للاحتلال ونضالاً من أجل التحرر الوطني. والثانية أن واشنطن سوف تبدى تحفظات إزاء شمول جميع أعمال الفلسطينيين بصفة الارهاب، وهي في حاجة إلى الصمغ العربي لتوحيد أجزاء الائتلاف الأميركي ـ البريطاني ضد قواعد الارهاب في أفغانستان ومن ثم ضد العراق. وعندما يرى الأميركيون أن القيادة الفلسطينية ستشكل عائقاً أمام عجلات ائتلافهم، فانهم لن يترددوا في ضمها لمصالحهم، حتى ولو كان الأمر على حساب إسرائيل. وضمن مفارق طرق من هذا النوع، تجد إسرائيل نفسها على الهامش ككائن صغير جداً مشغول بذاته، يهدد بحل وتفكيك سلسلة (الطيبين). من جانب آخر، فان التيار المركزي في إسرائيل سقط في فخ الوعي وكان من الأسهل عليه تقديم بعض الملاحظات البسيطة مثلما فعل ناتانياهو في كتابه «تحدي ورد فعل» الذي ألفه عام 1981 وأعاد طباعته في أعقاب أحداث سبتمبر 2001، وبدا الأمر متعلقاً بصراع حضاري بين الغرب والآخرين.وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الدعاية، تأسر الكثير من الإسرائيليين، الذين لا يميزون بين طرقهم ووسائلهم لإعداد الوعي العنصري لدى الأجيال المقبلة. وفي الأسابيع الأولى التي أعقبت أحداث نيويورك وواشنطن، احتفل الإسرائيليون بوهم تكتل جميع الأطراف، إذ فجأة أصبح (الطيب) يتجسد باليهودية والنصرانية وبيض البشرة الغربيين الذين يحبون الحياة، والعقلانيين والمنطقيين، بينما يتجسد (الشر) بالإسلام الشرقي العنيف. من هنا فان نظرة من هذا النوع تخطئ الخطوط السياسية الفاصلة بين الغرب الصناعي المزدهر، وبين مزوّدي المواد الخام بشكل مطلق، وأصحاب العمالة الرخيصة والطلب على الأسلحة في دول العالم الثالث وهذا بمثابة عمى تاريخي، ضرره وخيم. من المحظور علينا أن ننخدع بالهدوء النسبي الذي ساد الوسط الفلسطيني على اثر أحداث أكتوبر 2000، كما أن تمالك الأعصاب وضبط النفس الذي أبداه الفلسطينيون في أبريل 2002 تجاه إعادة إحتلال إسرائيل لمدن الضفة الغربية، والضرر الذي ألحقته إسرائيل بأبناء عائلاتهم وأقاربهم وهذا كله محدود الضمان، فالأمر يتعلق بهدوء مكبوت يعود إلى المصادفة، إذ أن الفلسطينيين أنفسهم ذهلوا من هول المشاعر التي تفجرت في مظاهرات أكتوبر 2000، وهم حريصون الآن على عدم التمادي، كما أن معظمهم لا يزال يخضع لشعور بالخوف الدائم من القبضة الحديدية للشرطة، لكن الأمور التي تجري في الخفاء مختلفة تماماً، فمعدلات الكراهية في تزايد تغذيها العوامل الاقتصادية المتردية، وأساليب التسلط الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وغياب أي إجراء فعلي للتقارب والمصالحة من جانب الدولة. من جهة أخرى، فقد طرأ ارتفاع على عدد المواطنين الفلسطينيين الذين قاموا في عام 2001 بهجمات ضد إسرائيليين داخل الخط الأخضر، أكثر من أي عام مضى منذ 1948، ففي أغسطس 2001 وفي محطة القطار في مدينة نهاريا تم قتل أربعة إسرائيليين عندما قام أحد نشطاء الحركة الإسلامية من قرية أبو سنان في الجليل الغربي بتفجير نفسه، مما شكل أول حادث استشهادي لفلسطيني عربي داخل إسرائيل، في إشارة واضحة إلى أنه كلما انخفض معدل الثقة بين اليهود والفلسطينيين، كلما ارتفع معدل اليأس، وبالتالي فإن الأمر من شأنه أن يدفع بأفراد من طبقات معينة داخل المجتمع الفلسطيني في إسرائيل إلى التوجه نحو خيارات قاسية وعنيفة. وحدة الأجيال الثلاثة لقد وحدت انتفاضة الأقصى الأجيال الثلاثة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، في البحث المشترك عن وسائل وطرق لفهم إسرائيل في موضوع تعاملها مع ردود فعل الفلسطينيين في إسرائيل حيال نشاطاتها، وفي محاولة لإرساء تعاون مشترك ناجع بين قادة الجمهور أبناء جميع الأجيال. ولقد برهنت أحداث عام 2001 على ان الأمر ليس مرتبطاً بالأجيال، فقد ثبت أن هناك أوضاعاً وأحداثاً أصابت باليأس أبناء الجيل المسحوق فلم يردوا عليها، بينما ينذهل منها أبناء جيل البقاء فلا يلحظونها، لكن أبناء الجيل الشامخ يرفضون المرور عليها مرور الكرام، وبالذات في الموضوعات التي تخص الإرث الحضاري والكرامة القومية والأمن الوجودي، والتي من شأنها توحيد الأجيال وتحريك رد فعل فلسطيني موحد، ومهما كانت اتجاهات العمل التي يختارها الأفراد، أو المنظمات في صفوف المجتمع الفلسطيني، فإنه من الخطأ الفادح أن تواصل الأغلبية اليهودية توجيه التهمة للفلسطينيين لما يصفونه «بالوضع» لأنه لا يوجد هنا أي تماثل، فالأغلبية اليهودية مع السيطرة الديموغرافية والهيمنة السياسية تتحمل المسئولية الأخلاقية العليا. إن توجيه التهم للأقلية الفلسطينية يدفع بها نحو المزيد من الكراهية والجنوح أكثر نحو العمل العسكري، كما أنه في حال سقوط الأغلبية اليهودية في إغواءات التبرير وتوجيه الإتهامات إلى الضحية فإنّ ذلك يدفع بها إلى التوقيع على وصفة أكيدة للكارثة. لا مكان للوهم إطلاقاً، فمهمة الأغلبية اليهودية لا تقتصر على تغيير سلم الأولويات لدى الحكومة، بل تتعداها إلى المطالبة بتغييرات عميقة تدفع بالإسرائيليين لفهم هويتهم وفحص القيم التي تعيش إسرائيل عليها. وبالتالي الاتجاه نحو عملية على غرار ما قام به الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في أواخر الثمانينيات حين أعلن أن النموذج السوفييتي لم يعد ساري المفعول.فالصهيونية التي أنقذت مئات الألوف من العائلات اليهودية هي في الوقت نفسه تلك التي جلبت المعاناة الشديدة لمئات الألوف من العائلات الفلسطينية، وإذا كانت إسرائيل ترغب فعلاً في حياة مستقرة وهادئة فستكون مضطرة عاجلاً أم آجلاً إلى وضع المشروع الخاص الذي حددته الصهيونية في مكانه التاريخي، وبناء ذاتها في مثال مركب أكثر شمولاً واستكمالاً. ففي كلية مار إلياس الواقعة في قرية عيلبون بمنطقة الجليل الأسفل، جرت الاحتفالات بنهاية العام الدراسي 2000 بحضور ما يقرب من ألف وأربعمائة طالب ومعلم وذوي الطلاب بالإضافة إلى بعض رجال الدين وأبناء العائلات، وعندما تردد نشيد «موطني» القصيدة التي كتبها الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وقف الجمهور بشكل عفوي، وبقي على هذا الحال حتى انتهاء النشيد. وعند دخول الخريجين إلى القاعة على أنغام قصيدة الشاعر سميح القاسم «منتصب القامة» فعل الجمهور الفعل نفسه، وهذا له معناه وقيمته الخاصة. ولم تكن قصيدتا «موطني» و«منتصب القامة» حدثاً شاذاً في هذا الإحتفال، فكل ما غنته الفرقة لساعات كان يؤكد القدرة على البقاء لدى الشعب الفلسطيني، فقد كان الحدث مناسبة أخرى للانتماء والارتباط بالهوية القومية لدى الفلسطينيين العرب في إسرائيل. لقد وصف عالم الاجتماع كارل مانهايم مجموعة أشخاص تتراوح أعمارهم بين سن 17-25 عاماً يمرون بتجربة حياة ومشاعر مشتركة تشكل هوية بأنها جيل اجتماعي. وهذا الكتاب يطرح تحليلاً جيلياً للفلسطينيين في إسرائيل، بالتركيز على جيل خريجي مدرسة عيلبون الثانوية، والذين اكتسبوا اسم «الجيل الشامخ منتصب القامة» وأبناء الجيل الشامخ هم الذين ولدوا خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ويقفون الآن عند نهاية العقد الثاني أو بداية العقد الثالث من حياتهم، فأجدادهم كانوا أطفالاً في عام 1948، أما آباؤهم فقد قادوا يوم الأرض عام 1976، كما أنهم أنفسهم ولدوا في نهاية أعوام السبعينيات وبداية الثمانينيات، ووصلوا إلى مرحلتهم السياسية بعد انتخابات عام 1999، فاحتلوا مركز وسط الحلبة السياسية ابان الأحداث الدموية في أكتوبر 2000، هذا الجيل الشامخ يمثل التغيير الجوهري الذي حل بالعرب الفلسطينيين في إسرائيل، على صعيد النضال من أجل نيل الحقوق وإثبات الهوية على صعيد دولة إسرائيل التي يعيشون فيها كمواطنين وبالشعب الفلسطيني الذي ينتمون إليه، و«شعار الدولة لجميع مواطنيها» هذا الشعار الذي ظهر في التسعينيات لا يزال قائماً، وهو لا يشكل بعد خطوة أو مشروعاً أساسياً وضرورياً للتعايش الفعلي بين الشعبين، وشباب هذا الجيل الشامخ غير مقتنعين بأن اجراء من هذا النوع سوف يكون كافياً، وإنما يرغبون بحقوق جماعية. والمثال المثير للأجواء السائدة والمشاعر الجديدة التي تساور هذا الجيل كان موجوداً قبل احتفال مدرسة عيلبون، ففي شهر ابريل عام 2000 خرجت مظاهرات حاشدة للطلاب الفلسطينيين في جامعات حيفا وتل أبيب والقدس احتجاجاً على وفاة شيخة أبو صالح من سخنين في الجليل الأسفل، أثناء تظاهرة يوم الأرض التي استخدمت فيها الشرطة الإسرائيلية القنابل المسيلة للدموع ونفت الشرطة أن يكون سبب الوفاة ناجماً عن إستخدام قنابل الغاز، وإنما هو عبارة عن نوبة قلبية ـ حسب التقارير الطبية التي أصدرها مستشفى رمبام بحيفا ـ وحين تقدمت خلود بدوي رئيسة رابطة الطلبة العرب بطلب رسمي إلى سلطات الجامعة لإجراء مظاهرة داخل الحرم الجامعي، قامت الإدارة بتصرف مغاير هذه المرة فلجأت للمماطلة كي تمر الاثنتان والسبعون ساعة التي تسمح القوانين خلالها بمنح التراخيص، واعتبر الطلاب الإجراء غير نزيه فانطلقوا غير آبهين لاحتمالات المواجهة مع سلطات الجامعة وقوات الأمن. وحضر أعضاء الكنيست العرب من جميع الأحزاب إلى الجامعات، كما غطت وسائل الإعلام الأحداث بشكل واسع، ولم تكن «خلود» المرأة الوحيدة في ربيع عام 2000 العاصف، فقد ضمت قيادة الطلاب الفلسطينيين في الجامعة العبرية كلاً من رناد حاج يحيى وشيرين يونس، وفي جامعة تل أبيب عرين حمود وأريج صباغ، وازدادت حدة المظاهرات باعتقال الرجال، كما أن الحضور الإعلامي للنساء الشابات فاجأ الكثيرين، إذ أن هذا الأمر ينطوي على نوع جديد من الإصرار والعزم، ولا يمكن بالتالي الخطأ في فهم الرسالة: فإسرائيل ليست دولة الشباب الفلسطيني، وليس لديهم أي إلتزام فعلي أو أي ولاء إزاءها فهي لا تمثل بالنسبة لهم أي شيء إيجابي باستثناء بعض الترتيبات الفنية الاستخدامية مثل (المواطنة والبنى التحتية الطبيعية والتنظيمات والخدمات الصحية والتعليم وحق حرية التنقل والحركة بواسطة جواز سفر معترف به دولياً)، وهذه الأمور جميعاً مستقلة تماماً عن مسألة الهوية والإنتماء، انهم مواطنو إسرائيل بالمفهوم الفني والعرفي، ولكنهم في قرارة أنفسهم أبناء الشعب الفلسطيني، وشركاء كاملون في الصراع والنضال القومي الفلسطيني، ومن خلال هذا النضال - وليس عن طريق مؤسسات الدولة ـ يعبرون عن رغباتهم وطموحاتهم السياسية، والجمهور الإسرائيلي مصاب بالدهشة جراء الديناميكية والتحولات الجارية في أوساط الفلسطينيين والتي يجهلونها. واعتبرت الأوساط اليمينية اليهودية، أن ما كشفت عنه مظاهرات الطلاب العرب يؤكد ادعاءاتهم المعروفة بأن «العرب يعضون اليد اليهودية السخية الممدوة إليهم». والمظاهرات الطلابية واحتفال مدرسة عيلبون يعبران عن عملية عميقة جارية في صفوف المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، خلال العقد الأخير، حين تبلور جيل شاب يتفهم عناصر هويته وانتمائه، كما أن سلوكه السياسي يختلف كلياً من حيث الجوهر عن تلك الأنماط السابقة. والأمر المركزي والمميز لهذا الوعي الجديد هو اليقظة من أحلام قديمة تتعلق بمكان محتمل في إسرائيل الصهيونية، هذا الأمر الذي يمثل صحوة وانتفاضة متصلة بمطالب جدية وحقيقية للتغيير على نحو لم يعرفه المجتمع اليهودي في إسرائيل من قبل. وملخص الأمر توجيه رسالة مفادها: «نحن فلسطينيون ومواطنتنا في إسرائيل لا تجعل منها دولتنا، ولن نكتفي بالمواطنة من الدرجة الثانية فيها، كما أننا سنبلور مستقبلنا بقوانا وطاقاتنا الذاتية وبطرق مختلفة عما كان يستخدمه آباؤنا وأجدادنا من قبل». وهذه المطالب ليست جديدة لدى الفلسطينيين، غير أن التجديد تمثل في تفجرها وانطلاقها عام 2000 في ظل انتفاضة الأقصى، ودخول الحوار الشعبي في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ومن خلاله إلى وعي الشارع اليهودي. تأليف: د. خولة أبوبكر وداني رابينوفيتش _ عرض ومناقشة: توفيق أبوبكر

Email