كتاب ـ ما وراء 11 سبتمبر ـ الأخيرة ـ ليس هناك مكان للضمير، منطق متهافت تتبناه واشنطن للتحرر من مسئولية القتل والتدمير العشوائيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 13 شعبان 1423 هـ الموافق 19 أكتوبر 2002 تحت عنوان «سياسة المبادئ الأخلاقية» يقول الكاتب فيل سكريتون في مساهمته في هذا الكتاب ان بوش أعلن في 7 اكتوبر 2001 ان أي حكومة ترعى الخارجين عن القانون وقتلة الابرياء تصبح هي نفسها خارجة عن القانون وقاتلة، وستسلك هذا الطريق المنعزل على مسئوليتها. وبعد ثلاثة أسابيع فقط من قصف أفغانستان، خرج علينا جون ماكين السناتور الجمهوري والمنافس السابق لبوش في انتخابات الرئاسة الاميركية، ليدافع عن أخلاقيات «الحرب العادلة» وليقول: «انني اذرف دمعة من أجل معاناة الابرياء ومن أجل جميع من سنفقدهم» ثم دعا إلى «قتل اعدائنا بأسرع ما يمكننا وبدون رحمة، كما يجب علينا»، وأشار إلى ان الولايات المتحدة هوجمت من «قوى منحرفة حاقدة تعارض مصالحنا وتمقت القيم الغالية علينا» وكانت ابادة جميع الانظمة التي ترعى الارهاب الهدف الواضح للقوة العسكرية الاميركية، وكانت أخلاقيات العمل القوي بالنسبة لماكين وبوش معلقة على من سيوجه الضربة الأولى، وفي هذا يقول ماكين: «نحن لن نتسبب في هذه الحرب، بل أعداؤنا وهم الذين يجب توجيه اللوم لهم لما سيحدث من جرائها. ان ازهاق أرواح الابرياء والمشكلات الجيوبوليتيكية التي تترتب على العمل العسكري الأميركي تقع مسئولياتها كلها على أعداء الولايات المتحدة». ومن أجل المساعدة في اصلاح «أضرار الحرب» يتعين على الولايات المتحدة أولاً القضاء على الناس الذين بدأوها، ولم يمثل هذا المنطق الاحمق أي مفاجأة، فقد حرر الولايات المتحدة وحلفاءها من المسئولية والحساب، فهم يستطيعون القاء القنابل والتدمير بدون عقاب. وما يدعو للسخرية ان يبدو كولن باول القائد العسكري الذي حظي بالشهرة من خلال عمله في البلقان من الحمائم، فقد أدرك في الحال ان قصف أفغانستان بمدنها المخربة سيكون حافزاً لظهور مزيد من الجماعات على شاكلة القاعدة وسيطيل من تفاقم استراتيجيات الرعب والارهاب، ولكن المثير للدهشة بالفعل تمثل في سذاجة توني بلير في اتباع سياسة بوش أيدها وساندها بدون اي تردد، كيف أساء تقدير حقيقة التدمير وقتل الأبرياء وتهديد وتجويع الافغان وعواقب ذلك وتبعاته المريرة؟ لقد هوجمت كل الفئات التي انتقدت هذه السياسة واتهمت بالتعاطف مع المتطرفين وشمل تهديد بوش وبلير للدول «اما ان تكونوا معنا أو ضدنا»، مواطني هذه الدول أيضاً. أخلاقيات الحرب ان المواجهة التي جرت بين أحد أعضاء مجلس العموم غير المعروفين وممثلي حكومة بلير تظهر بشكل درامي كيف تتم معاملة المعارضين والمنشقين، فقد كان اعتراض هذا العضو على انه لا يحق لبلير ان يشارك في حرب دون اجراء مناقشة بالبرلمان وحصوله على موافقة منه، ولم يكن هذا الرأي رأياً فردياً، فعدد كبير من البرلمانيين كانوا من الرأي نفسه، وفي حين انه كان في وسع الحكومة الحصول من البرلمان على تأييد كبير للعمل العسكري إلا ان العضو المنشق رأى ان عدم مناقشة الأمر بالبرلمان قد جعل المنشقين صامتين، وجرى حوار عنيف بين المنشقين في حزب بلير وممثلة الحكومة التي أرادت ان توصي بأن الحزب كله يقف وراء رئيس الحكومة، بل انها ذهبت إلى اهانة زميل لها ومطالبه بعدم اعطاء أي حديث لوسائل الاعلام قبل الرجوع إليها، «فالحرب ليست مسألة ضمير» كما قالت، وأضافت جملتها «ان اناساً مثلك هم الذين استرضوا هتلر في 1938». وعلى الرغم من عدم اقرار بلير ومعظم وزرائه لما جاء على لسان زميلتهم فإنه وضح لجميع المعارضين في حزب العمال ان معارضة أجندة بلير بالنسبة للحرب في أفغانستان قد تسبب لهم مشكلات داخل الحزب وتهدد فرص شغلهم لمراكز بارزة فيه، وبالتالي فليس هناك مكان «للضمير» وبعبارة أخرى فإن أخلاقيات «الحرب العادلة» هي الأخلاقيات الوحيدة. موقف أخلاقي يقوم على الغاء الضمير، ومن أجل فهم سياسة المبادئ الاخلاقية التي لعبت دوراً بارزاً في زعامة بلير، من الضروري دراسة حملته من أجل «تجديد المبادئ الأخلاقية» هذه الحملة بدأت خلال وجود حزب العمال في المعارضة وبالذات منذ 1993 عندما فجعت بريطانيا بحدوث عملية قتل لطفلة عمرها سنتان على يد طفلين لا يتجاوز عمر كل منهما العشر سنوات، وطالب بلير في كلماته أمام البرلمان وفي وسائل الاعلام بالبحث عن الأسباب الحقيقية وراء مثل هذه الحوادث، والتي تتركز في الاخلاقيات «فتعلم وفهم وتعليم قيم ما هو سليم وما هو خطأ هو الذي يبعد بالمجتمع عن الفوضى الأخلاقية». وبعد ست سنوات ألقى بلير خطاباً مهماً في مؤتمر حزب العمل اكد فيه ايضاً على الدور المحوري للأخلاقيات في المجتمع ومن أجل الاجيال المقبلة وكان هذا الخطأ أيضاً في سياق حوادث أخلاقية استغلها رئيس الحكومة لاعطاء درس جديد في الاخلاقيات، وهكذا استغل بلير الاستثناء مرة أخرى ليلعب بكارت الأخلاقيات. ومع مرور الوقت تزايدت التساؤلات بشأن الحرب وبجدواها في الوقت الذي تبث القنوات التلفزيونية تطورات الضربات الجوية والمدن المهدمة، وكانت أعداد القتلى من المدنيين والمشوهين والمجبرين على مغادرة قراهم هي الدليل الدافع على عدم دقة القصف الجوي، وإذا كان الهدف هو القضاء على الارهاب فمن الأمور التي تدعو للسخرية ان نرى الرعب مرسوماً على وجوه الاطفال من جراء القصف المستمر، لقد جرى قصف مبنى الصليب الاحمر مرتين، كما قتل عدد من العاملين التابعين لهيئة الأمم المتحدة بعد تدمير مكتبها ولم يخف وزير الدفاع البريطاني السابق ـ وهو من حزب العمال ـ استياءه وهلعه من الخسائر في صفوف المدنيين وعدم التمييز في قصف أهداف عسكرية أو مدنية. وفي 27 اكتوبر استعرض بلير امام الصحفيين مضمون الخطاب الذي اعتزم ان يلقيه بعد عدة أيام. وقال انه سيؤكد على دور بريطانيا كدولة تقوم على احترام المبادئ الأخلاقية والتفرقة بين الصواب والخطأ، وان هذا السلوك سيلحق الهزيمة بالمتعصبين والارهابيين ومن يساندهم، وأضاف انه من أجل هذا فإن من صالح بريطانيا مواصلة تأييد الولايات المتحدة، فالمبدأ الأخلاقي الذي يستند إليه العمل العسكري يقوم على التصدي للتطرف الذي يحكم من خلاله قادة القاعدة أفغانستان والقضاء عليه، واختتم بلير حديثه قائلا: «لا تنسوا سبب قيامنا بهذا العمل، لا تنسوا شعورنا عندما كنا نشاهد الطائرات وهي تقتحم برجي مركز التجارة العالمي، لا تنسوا أولئك الذين كانوا يرددون بأنهم على وشك الموت، لا تنسوا رجال الاطفال والشرطة الذين لقوا حتفهم وهم يحاولون انقاذ حياة الآخرين». وقبل القاء بلير لخطابه، بدا واضحاً أن لهجة الثقة الزائدة والتفوق بالنسبة لبريطانيا كدولة تتبع المبادئ الاخلاقية بدأت في التلاشي، فقد قال في خطابه انهم (أي ابن لادن والقاعدة) لديهم أمل واحد، وهو ان نتفسخ وأن نفتقر إلى التحلي بالمبادئ الاخلاقية أو الارادة أو الشجاعة في ان نهاجمهم. وحتى يرضى منتقدي الحرب فقد قال ان الذي يشكك في جدوى الحرب ليس جباناً، وهكذا أصبحت رسالة الحكومة مشوشة، وقد انتقد الكثيرون بلير لعرضه على الصحافيين خطاباً قوياً اضطر بعد ذلك للتخفيف من حدته، ولا شك في ان ذلك كان بسبب اخباره بردود فعل الصحافيين الأولية، ومع ذلك ففي حين اقر بحق انتقاد استراتيجية الحرب فإن وزير خارجيته جاك سترو وبخ وسائل الاعلام بسبب ما أسماه تهييج المعارضة. وبعد يوم من القاء الخطاب سافر بلير إلى سوريا، مما أعطى الرئيس السوري بشار الأسد فرصة سانحة للتنديد بالعمل العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة في أفغانستان، وفي الوقت الذي ندد الرئيس السوري بالارهاب، فإنه شدد على ضرورة التفرقة بين الارهاب والحرب وبين الارهاب والمقاومة، وصنف حماس وحزب الله ومنظمة التحرير الفلسطينية في عداد منظمات المقاومة، وأكد الأسد ان المقاومة هي حق اجتماعي وديني وشرعي أقرته الأمم المتحدة وقراراتها وندد باستخدام اسرائيل لارهاب الدولة، وقاد هذا الحديث مباشرة إلى الكيفية التي بنى بها الغرب في الأزمة الحالية الارهاب، ليس كشبكة ولكن في شخص ابن لادن، الارهاب ليس له رأس معينة سواء كشخص أو في صورة منظمة وعلى أي حال فأياً كانت المناقشات التي جرت فإن بلير «الذي رأى فيه الكثيرون مبعوثاً لبوش في الشرق الأوسط» تعرض لاهانة سياسية من رئيس دولة معارضة لتدخل الولايات المتحدة بشكل صريح ومساند للقضية الفلسطينية. والواقع ان زيارة بلير لدمشق أعطت النظام الحاكم هناك مصداقية، ولو على الصعيد الدبلوماسي وفي دفاعه عن نفسه قال ان زياراته لسوريا والسعودية والأردن واسرائيل ولقاءه مع ياسر عرفات كانت بهدف اعادة الحوار بين الاطراف المعنية، ولكنه في الواقع أعطى للأسد فرصة فريدة لاعطاء الغرب درساً لاظهار سذاجته في معالجة الامور. إلا ان السرعة التي تمت بها الاطاحة بحكم طالبان جعلت الجميع ينسى المحاضرة التي أعطاها الاسد لبلير، والتي شاء الغرب ام لم يشأ تعرف عما يشعر به الجميع في الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن بلير استمر في مساندة بوش على الرغم من معارضة الكثيرين ومنهم من فقد أولاده في هجمات مركز التجارة العالمي والذي كتب يقول للرئيس الاميركي «ان ردك على الهجمات لا يجعلنا نحس بفقد ابننا بشكل أفضل، انه يجعلنا نشعر بأن حكومتنا تستخدم ذكرى ابننا لتبرير التسبب في معاناة أبناء وآباء وأمهات في بلاد أخرى». نظرية الأقواس الذهبية يقول الكاتب ديف وايت في مساهمته في هذا الكتاب انه منذ حدوث الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون تعلمنا من اناس معارفهم اكبر وخبرتهم أوسع بعالم الاعمال ان السوق الحرة معدة للقيام بدور متعاظم في الحرب ضد الارهاب، وفي الوقت الذي كانت تقترب الجولة الأخيرة من محادثات منظمة التجارة العالمية في نوفمبر 2001 قال ألان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الاميركي ان جولة ناجحة لمحادثات منظمة التجارة العالمية «لن تزيد من نمو الاقتصاد العالمي» فقط، بل انها سترد أيضاً على الارهاب بالتأكيد القاطع بالتزامنا بفتح المجتمعات وتحريرها، وعلى المنوال نفسه أكد وزير المالية البريطاني جوردون براون على الاستئناف الفوري لاجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لاظهار ان عمل المجتمع المالي الدولي لن يعطله الارهاب». وهذه التصريحات لها رنين مألوف لديهم، فاحدى اكثر النظريات الشعبية للسوق العالمي في السنوات الاخيرة وهي نظرية الاقواس الذهبية لادارة النزاعات نشرتها صحيفة «النيويورك تايمز» والنظرية التي ابتكرها الصحفي توماس فريدمان في أواخر التسعينيات مفادها انه لا توجد دولتان بهما مطاعم ماكدونالدز ويمكن ان تقع بينهما حرب، ومبرره في هذا الزعم هو انه عندما تبلغ دولة مستوى اقتصاد يتطلب انشاء شبكة مطاعم ماكدونالدز، فإنها تصبح «دولة ماكدونالدز». وطبقاً لنظرية فريدمان هذه فإن الناس في دول الماكدونالدز تكون لديهم رغبة في الانتظار في صف للحصول على شطائر الهامبرجر اكثر من رغبتهم في الحرب. قد يبدو هذا وكأنه علم سياسة غير كامل النضج ولكن نظرية فريدمان هذه تساند المدافعين عن النظام العالمي الليبرالي الجديد، فالليبراليون الجدد يرددون أفكارالليبراليين أصحاب نظريات الاقتصاد الليبرالي من القرن التاسع عشر ويربطون الاسواق الحرة بأفكار الديمقراطية الاقتصادية والحرية الانسانية والتنمية ويطلق عليها الناقد توماس فرانك وصف «شعوبية الاسواق» وهي مجموعة أفكارتسمح للمنادين بها بأن يروجوا لها ويقال في هذا الصدد: «الأسواق هي حيث نكون متحلين بالانسانية، الاسواق هي حيث نظهر ان لنا روحاً، والاحتجاج على الاسواق هو كتنازل الانسان عن نفسه، وبذلك يكون خارج الأسرة الانسانية».ولم يلاحظ هؤلاء ان الانسانية قد تمزقت بسبب الأسواق الحرة، فخلال الفترة من 1990 إلى 1997 وهي الفترة التي تعززت فيها الليبرالية الجديدة، تغير معدل الدخل بين أغنى 20% وأفقر 20% في العالم من 60:1 إلى 74:1 ويمتلك الآن اكبر ثلاثة مليارديرات في العالم ما تمتلكه أفقر 48 دولة في العالم، وفي الوقت نفسه يموت 19 ألف طفل يومياً بسبب عدم توفر الطعام الأساسي لهم، أو بسبب أمراض من الممكن القضاء عليها، وعلى الرغم من العيوب الكبيرة في الليبرالية الجديدة، فإن الرسالة الجوهرية في شعوبية الاسواق (الاقتصاد الرأسمالي، حرية وديمقراطية) تتيح لأفظع أشكال الاستغلال ادعاء التأثير «الحضاري» في العالم، وهذا هو الدور الذي أنيط بالاسواق الرأسمالية ان تلعبه في الحرب الجديدة ضد الارهاب. ان المناظر الرائعة التي تبدت للعيان في افتتاح سوق الأوراق المالية بنيويورك، بعد ستة أيام من الهجوم على مركز التجارة العالمي، أظهرت مزيجاً فريدا من انتصار السوق والاحتفال العسكري، وقد كان الأسلوب الذي تم به هذا الافتتاح أسلوباً رمزياً وكما ذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» فإن فشل هذا الافتتاح كان سيعد بمثابة اهداء انتصار للارهابيين وتوجيه ضربة لا سابق لها للرأسمالية. ومن ناحية أخرى طلب من المستهلكين ان يقوموا بدورهم للمساعدة في حل الازمة وطلب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من الشعب البريطاني مواصلة شراء مستلزماته والسفر وعدم تغيير عاداته، وذلك من أجل المساعدة على تجنب الكساد، وهكذا أصبح الاستهلاك جزءًا من استراتيجية مكافحة الارهاب الجديد، وبعد بدء قصف أفغانستان ظهرت على واجهة المحلات في نيويورك اعلانات تحث الناس على الشراء لالحاق الهزيمة بطالبان. وبدأت شعوبية الاسواق في الاعتماد على قبول الناس المتزايد لقطاع الأعمال الخاص كقطاع مسئول أخلاقياً وظهرت حقيقة ان الاسواق شهدت انتعاشاً ملحوظاً فعلى سبيل المثال نجد بورصة النفط في لندن تشهد نشاطاً غير عادي لم تشهده منذ حرب الخليج في 1990، بل انها اضطرت في أحد الايام إلى الاغلاق لمدة ساعة، ليس حداداً على القتلى بل لانهاء الصفقات المتراكمة. وأعطى الغرب اهتماماً كبيراً لاحداث استقرار في البنوك، فقبل ان يهدأ غبار تدمير مركز التجارة العالمي شرعت الحكومات الغربية في اتخاذ العديد من الاجراءات لدعم عملاتها، ووعدت البنوك الاميركية بتوفير أكبر قدر من السيولة عملائها وخفضت من معدل سعر الفائدة، وصدر بيان مشترك وقعه وزراء مالية الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي والبنوك الأوروبية الأخرى والمفوضية الأوروبية، وعدوا فيه جميعاً باتخاذ كافة الاجراءات الضرورية لضمان حسن سير الاسواق واستقرار النظام المالي، وبلغ مستوى التعاون بين أوروبا والولايات المتحدة في هذا الصدد حداً لم يبلغه من قبل. وعلى عكس ما أخبرنا به أقطاب العولمة طوال عقدين من الزمان من ان الدولة لا يمكنها التأثير بشكل محسوس على الاقتصاد، فمنذ 11 سبتمبر بدا واضحاً حتى لأكثر المدافعين عن الليبرالية الجديدة ان الحكومات في وسعها التدخل كي تساند أسواقها، ولكن هذه قاعدة كانت تطبق بكثير من التحيز، فالدول الفقيرة هي التي يجب عليها فقط ان تمتنع عن حماية اقتصادها، أو رفاهية شعوبها، وهذا هو ما كان يجري بالتحديد في العمل على منع دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا من تصدير أدوية زهيدة الثمن فيبدو ان مبادئ الاسواق غيرالحرة لا تطبق عندما تحتاج أميركا الشمالية أدوية، فقواعد العلاقة التجارية المقدسة التي تمنع علاج الملايين من الناس في الدول الفقيرة نحيت جانباً عند أول تهديد بالحرب البيولوجية. فقد هددت الولايات المتحدة وكندا وهما من أشد المدافعين عن العلامات التجارية بتجاهل العلامة التجارية لشركة باير الخاصة بمضاد حيوي لعلاج الانتراكس، إذا لم تخفض الشركة أسعاره، وهو ما فعلته الشركة. المكافأة الكبرى من المعروف ان الادارة الاميركية قد سعت إلى شن حرب شاملة ضد الارهاب منذ عهد الرئيس ريجان، فحرب عامة ومنطقية ضد الارهاب مفيدة لأنها تكون خارج السياسة وتخفي الدوافع الاميركية في النزاع، وهناك حقيقة بديهية تتجسد أمام أعيننا في كل مرة تقوم فيها حرب في منطقة بعيدة، وهي ان قوة الشركات تقف دائما إلى جانب الاجبار العسكري كما انها حقيقة بديهية ان معظم المعلقين الاجتماعيين والسياسيين يفضلون تجاهل ذلك أو انكاره، في أفغانستان المكافأة الكبرى هي بالطبع، امكانية وجود مناخ سياسي أكثر استقراراً لانشاء خط أنابيب يربط حقول النفط الهائلة في جمهوريات آسيا الوسطى بصديقة الولايات المتحدة باكستان، وقد ضارب البعض على ان أفغانستان يمكن ان تكون مهمة استراتيجياً لاقامة أسواق جديدة في المنطقة. وفي ليلة طرد طالبان من كابول لم يستطع أحد من أعضاء الكونغرس الاميركي منع نفسه من الصياح قائلا: «يجب ان نتحرك سريعاً لمنح شعب أفغانستان ما يحتاجه» وهو إذا لم تكن قد عرفت «الديمقراطية» والخصخصة، ولقد عقدت عدة مؤتمرات دولية برعاية البنك الدولي منذ نوفمبر 2001 لبحث كيفية جلب الأسواق الحرة إلى أفغانستان.ولعل أكثر فضائح الغرب التي لم تنشر هي تلك التي تتركز في مجال الاعمال المستفيد الأكبر من أية حروب. ولكن بفضل خطة بوش لاصلاح الوضع واعادة تنشيط الحالة الاقتصادية بعد 11 سبتمبر فإن جميع الشركات الكبرى قد استفادت ضمن المئة مليار دولار التي خصصت لهذا الغرض في شهر نوفمبر راح ثلاثة أرباعها مباشرة لمساعدة الشركات على سداد ضرائبها وخاصة الشركات الكبرى. ولا شك في ان رأس المال قد حقق مكاسب من عملية محاربة الارهاب، ولكن رأس المال يظل هشاً أمام الهجوم المضاد خاصة عندما تكون الحرب على الصعيد الاخلاقي، فعندما حاولت شركة النفط الاميركية يونوكال في عام 1998 ان تؤمن مساندة الحكومة لخط أنابيب أفغانستان فإنها تعرضت لمعارضة شديدة من الحركة النسائية الدولية التي أجبرت كلينتون على قطع العلاقات مع طالبان، وقد كانت الشركة ترى ان خط الأنابيب هذا سيأتي بالسلام وحقوق الانسان، ولكن الحملة المضادة نجحت لأنها كشفت حقيقة وضع حقوق المرأة في ظل حكم طالبان. والواقع انه توجد اليوم اماكن قليلة تعمل فيها رؤوس الاموال الاميركية أو البريطانية دون ان تجابه بمقاومة من الجمعيات المعنية، ونجاح القائمين على الحملة الاخيرة لاجبار بلفور بيتي على الانسحاب من مشروع اقامة سد في منطقة الاكراد في تركيا يمثل لحظة مهمة فهنا نجد انتصاراً للنضال الدولي ضد رأس المال الدولي، ولايهم مدى حجم العملية التي تخفى دوافعها، وما إذا كانت حليفة للحرب ضد الارهاب أم لا، فإن الشركات واثقة من انها ستواجه المزيد من المعارك في عالم ما بعد 11 سبتمبر.

Email