لايزال يراهن على الجواد الأميركي، بلير يتخبّط بين عباءة جلادستون وسترة تشرشل

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 10 شعبان 1423 هـ الموافق 16 أكتوبر 2002 أصيب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بازدواج الشخصية، مؤخراً، في بلاكبول، وهو يتزعم المؤتمر السنوي لحزب العمال البريطاني الحاكم. وحار المحاضرون في تحديد هوية الزعيم الواقف أمامهم، فلحظة تجد توني جلادستون (وليام ايوارث جلادستون) ولحظة اخرى يرون توني تشرشل (ونستون تشرشل). وكان السؤال: من يقود من؟ وهل تلوح في الأفق فرصة لأن تعي هاتان الشخصيتان المتناقضتان طبيعة طموحاتهما الواسعة لبريطانيا في العالم؟ كان توني جلادستون في المؤتمر يبشر ـ بالمعنى الحرفي للكلمة ـ بالتزامات أخلاقية نحو التواصل الليبرالي العالمي ضد الرئيس العراقي لصالح فلسطين واسرائيل على حد سواء. ضد الأيدز والمجاعة الافريقية والأمراض والتغير البيئي. لبناء أفغانستان، وليس مجرد غزوها. قال: «تذكروا ان قدسية الحياة في القرى الجبلية في أفغانستان هي من الوزن نفسه أمام الله كما هي قدسية حياتكم». فعلاً كان ذلك وليام ايوارث جلادستون نفسه، لكن مع اعادة بثها بالتلفزيونية السياسية المعاصرة فهي تبقى رسالة بلير ايضاً. بطريقة ما، كانت رسالة بلير أكثر شعبية من رسالة جلادستون الأصلية، فحينما كان الأخير يهدر بصوته في لندن ضد «المجازر في بلغاريا»، كان الشك القوي حاضراً دوماً بأن كلامه لا يزيد عن المصلحة السياسية الذاتية التي تختفي وراء ستائر الحقانية الوردية تلك. وفي المقابل، فحينما يكرر بلير الحديث عن «الفظائع في العراق» فإنه يجازف بموقفه السياسي الداخلي، كما ان دفاع بلير عن التدخل بدوافع انسانية والمجتمع الدولي تبدو عباراته أكثر انسجاماً وقابلية للدفاع عنها من أفكار جلادستون، فحين تنصت له وهو يتحدث في جمع صغير تصبح مقتنعاً بأنه متحمس حقاً لمبدأ التدخلية الليبرالية. إنني أحب وأعجب بتوني جلادستون، ولم أنس حتى الآن تلك العبارة الجدارية المؤثرة التي رأيتها في أحد شوارع مدينة بريشتينا بعد تحرير كوسوفو: «شكراً يا توني بلير». لكن هناك مشكلة كبيرة: ان طموحات بلير بخصوص الليبرالية العالمية أكثر بكثير مما كان لدى جلادستون، إلا ان وسائل الأول لتحقيق طموحاته أقل بكثير مما كانت لدى الثاني لتحقيقها، فحينما بدأ جلادستون بالتحرك ضد الحكام العثمانيين في البلقان عام 1878، كانت بريطانيا تمثل ما تمثله الولايات المتحدة اليوم: القوى العظمى الفائقة. أما الآن فنحن لسنا أكثر من مجرد بريطانيا. وفي بلاكبول قال بلير لمستمعيه: «أحيانا، في بريطانيا نفقد الثقة بالنفس». وأضاف: «ان علينا ان نتذكر اننا في رابع أكبر اقتصاد في العالم وغير ذلك، لكن إذا كان غياب الثقة في النفس شيئاً يجب على علماء النفس الوطنيين مراقبته، فإن الشيء نفسه ينطبق على الصلف أيضاً». إن الزعيم البريطاني يعرف وهو في ساعاته الأقل بصيرة الآن، ان بريطانيا ليست سوى قوة متوسطة على المستوى الاوروبي، وان علينا امتلاك قوات مسلحة أكبر للقيام بدورنا الجلادستوني الجديد. وهنا يظهر توني تشرشل. بالتأكيد يرغب كل رؤساء الوزراء البريطانيين في أن يكونوا ونستون تشرشل آخر. ورجل كان في المدرسة في الستينيات ونشأ وهو يعيش في ظلال تشرشل كبير يرغب بذلك أكثر. لكن تشرشل لم يكن زعيم حرب فحسب، فقد اتخذ هذا الزعيم الذي أدرك ان بريطانيا أصبحت قوة متراجعة قراراً تاريخياً. وكان ذلك القرار صياغة علاقات خاصة مع الولايات المتحدة لنفعل بعونها ما لم نعد نستطيع فعله بدونها. وبالتأكيد في بلير، دفاع عن هذا المتحالف مع واشنطن تذكر أمام الحضور في بلاكبول: «أين تمت صياغة هذا التحالف: هنا في أوروبا، في الحرب العالمية الثانية حينما انضمت بريطانيا وأميركا وكل مواطن أصيل في اوروبا للقوات التي قاتلت لتحرير أوروبا من الشر النازي». وهكذا، وبطريقة الانغام التاريخية القديمة نفسها، سمعنا من جديد: بلير = تشرشل، بوش = روزفلت.. لكن على رسلكم.. روزفلت؟ إذا ما أردنا عقد المقارنات فعلينا ان نذكر الاختلافات المنسية. عملياً، حتى تشرشل وجد ان اللعبة التي اخترعها صعبة بل واحياناً مذلة، ففي احدى المرات وهو يتباحث مع روزفلت حول الدعم الاميركي المالي للمجهود الحربي البريطاني، انفجر تشرشل غاضباً: «ما الذي تريدني أن أفعله؟ أن أقف أمامك واستجديك مثل فالاه؟». وفالاه هذا كان كلب روزفلت. كما تميز تشرشل غيظاً، ولديه المبررات، من تملق روزفلت لروسيا الستالينية. وقال عن نفسه مرة: «أسد صغير كان يمشي بين دب روسي وفيل ضخم أميركي عملاق». والآن قد تقلص الدب الروسي وتبهدل. غير ان الأسد البريطاني أصبح أصغر ايضاً فيما الفيل الأميركي تضخم. وبينما كان بيل كلينتون يلعب متألقاً دور روزفلت في مؤتمر حزب العمال، فقد كان للرئيس جورج بوش وجهة نظر مختلفة جداً عن النظام العالمي الجديد. ليس صحيحاً انه ليست هناك جلادستونية الآن، بل انك إذا قرأت المبدأ الأمني الأميركي الجديد لرأيت فيه الكثير منها. لكن هناك ايضاً بعض الاصوات المختلفة: الانفراديون، الامبرياليون الجدد، ولنقل دزرايتلي بمقاتلات اف 16. هل هناك شيء آخر يستطيع رئيس وزراء بريطاني ان يفعله لتغيير التوازن داخل ادارة بوش؟ ربما ليس كثيراً، لكن ماذا عن الانصات أكثر قليلاً للصوت الأوروبي؟ إذ أن تشرشل وجلادستون كلاهما وظف رؤية «أوروبا موحدة» لدعم خططهما الأوسع، لقد كانت اوروبا غائبة تماماً عن كلمات بلير بخصوص العراق. فيما كانت هناك الكثير من الاشارات لمحادثات مع بوش، لكن القليل جداً أو لا شيء عن محادثات مع شيراك أو شرويدر، فما بالك بسولانا أو برودي. في خطابه بالمؤتمر قال بلير: «إننا نؤمن بأوروبا، لكننا لم نصبح بعد في مركزها: «صحيح تماماً، لم نصبح بعد، لكن هذا لا يعني ان نبقى كذلك ايضاً. صحيح ان أوروبا تعيش حالة فوضى في موضوع العراق: بلير يلعب دور تشرشل في واشنطن وشرويدر يلعب دور بسمارك ضد واشنطن وشيراك يضغط بقوة ليؤثر في اللعبة وبروكسل لا تفعل أكثر من الكلام. إن لأوروبا مواقف متعددة ازاء الوضع العراقي، لذلك فهي ليست بذات موقف. ويمكن للمرء فهم الاحباط من هذا الوضع. لكن لا يحتاج الأمر للتوضيح بأن الأسد البريطاني الصغير يتمتع بفرصة أكبر قليلاً في أوروبا لتغيير اتجاه الفيل الأميركي، والذي حدث بحق المساء لكل الزعماء البريطانيين الذين اعترفوا علناً بدعمهم للخيار الاوروبي، أين هو هذا الرجل الذي كان طموحه حين أراد السلطة أن يحل الشكوك التاريخية حول موقعنا في أوروبا؟ بلير يحاجج محقاً بأنه ليس هناك من خيار واقعي آخر غير مسايرة أميركا مهما كان حاكمها، فأوروبا ليست قوية وموحدة بما فيه الكفاية لتعمل بالاعتماد على نفسها. لكن مبدأ المخيف يبدو انه الآتي: مع التراجع الكبير للقوة البريطانية وعدم امتلاكه للهيبة الشخصية التي كانت لتشرشل، فإنه لايزال قادراً بشكل أو بآخر على «القيام بدور تشرشل» واغراء واشنطن بوش بالسير وراء برنامج جلادستوني عالمي. إنها نوع من المقامرة، والخطر هو في أن يخسر جلادستون وينتهي بلير على هيئة تشرشل فحسب، دون قوته. بقلم: تيموثي غارتون آش ترجمة: جلال الخليل عن «غارديان ويكلي»

Email