هل ننتهي مثلما انتهى بلير؟، الأهداف السامية أصبحت سيئة لأنها بيد أميركا

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 28 رجب 1423 هـ الموافق 5 أكتوبر 2002 هل الأزمة حول العراق أزمة تتعلق بالعراق؟ الإجابة بسيطة وواضحة : كلا ، إنها تتعلق بالولايات المتحدة. وبالنسبة لغالبية البريطانيين واليسار الأوروبي ، فإن الحرب مع العراق لابد وأن تكون عملاً سيئاً لأن أميركا التي يتزعمها بوش هي التي تريدها. أمابالنسبة للغالبية العظمى من اليمين البريطاني فهي عمل سيئ لأن الولايات المتحدة هي التي تقف وراءه. إن توني بلير وهو يتأرجح بين اليسار واليمين ، يسعى مرة أخرى نحو إحداث انقسام - على الرغم من أن الشقة لابد وأن تكون قد اتسعت بنفسها الآن على نحو مريح. أماصديقه جرهارد شرويدر فقد فاز بالانتخابات الألمانية بالوقوف في وجه الولايات المتحدة باسم السلام. في حين كانت السياسة الفرنسية ، كالعادة ، تدور برمتها حول الموقف الديغولي المتستر تجاه واشنطن. فيما تبقى روسيا والصين على موقفهما الرافض للحرب - لسبب هام هو الولايات المتحدة. إن ما عليك إلا ان تقول لي لأي أمريكا تنتمي لكي أخبرك على أي ارضية تقف. فإذا كانت الدولة الأقوى في تاريخ العالم تملك برنامج عمل هو بمثابة الرسالة لتلبية المصالح الوطنية التي ضخمتها هجمات 11 سبتمبر لتتحول الى شعور وطني بحالة الحرب ، فإن أي التزام خارجي تقدمه لابد ان يتعلق بذلك - وكذلك رد الفعل. غير أن هذا يشكل ايضاً تهديداً حقيقياً. إن هاجس الولايات المتحدة - لا سياسة واشنطن الحالية وحدها فقط وإنما سياسة أمريكا التي نختزل لها صورة في أذهاننا - بإمكانها ان تعمينا عن القدرة على إصدار الأحكام. وبالتالي فلابد لنا من أن نستحضر ما قاله أورويل حول ضرورة تنقية تفكيرنا. ثم حاول أن تردد هذه العبارة ببطء ووضوح ، لوكنت يسارياً ربما كان هذا هو الصواب،حتى وإن كانت الولايات المتحدة هي التي تقف وراءه. أعتقد بأنه كان من الصواب استخدام التهديد بالقوة لحمل صدام حسين على القبول بعودة مفتشي الأمم المتحدة الى العراق. إن صدام طاغية ووجوده يشكل خطراً. وقد استمر في خرقه لقرارات الأمم المتحدة على مدى عشر سنوات. ثم أنه يسعى الى تطوير أسلحة دمار شامل. وأنا أشك في أنه كان سيسمح بعودة المفتشين لولا تهديد الولايات المتحدة له بالحرب. إن مهام التفتيش التي تقوم بها الأمم المتحدة يجب أن تكون قوية وصارمة وغير متمهلة - وواضحة للعيان كما يجب أن تكون هناك ضمانات لسلامة أولئك الذين يقدمون معلومات لفرق التفتيش. إضافة الى أن مهمة التفتيش يجب ان تقضي على كل أنواع الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. ولكن هل هذا هو ما يطلب من دولة ذات سيادة؟ أجل هذا هو. غير أننا نريد عالماً تكون فيها السيادة محكومة ببعض القوانين الدولية ، يعرف من خلالها صدام وميلوسيفيتش و بينوشيه وعيدي أمين أنه ليس من صالحه أن يستمر في المماحكة وإلا عرض بلاده لخطر القصف بالصواريخ وانتهى به الأمر للوقوف أمام محكمة لاهاي.ان المشكلة بالنسبة لنا نحن ليبراليو الوسط على مستوى العالم هي أن هذه الأفكار الجريئة التي نحملها والتي ظهرت خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة قد أصبحت مربكة الى حد الخطر خاصة في عالم ما بعد أحداث 11 سبتمبر ، وأفكاره المتعلقة بأمريكا. وحتى أفكار اليمين الأمريكي المطالبة بالدفاع العدواني عن النفس والسعي الإمبريالي المنفرد المعلن باسم الدين الذي يبرره الدفاع عن المصلحة الوطنية ، تعطي معنى كلياً جديداً لعبارة المسيحية العضلية. كما أنه على الرغم من تنامي الشعور الأمريكي بالحرب، إلاأن هناك ايضاً آراءً منتقدة ، ومعادية وأحياناً هاجسية وحتى جنونية مضادة لأمريكا في باقي أنحاء العالم. إن هذه الورطة تهدد بتدميرمشروع عظيم. خذ على سبيل المثال محكمة جرائم الحرب الدولية. هذا المشروع لن تكون له مصداقية إلا إذا انضمت اليه الولايات المتحدة وسلمت جنودها للقضاء الدولي. أو خذ مشروع التدخل الإنساني. لقد كانت فكرة صائبة تماماً بأن يتدخل الغرب عسكرياً في البوسنة في وقت متأخر جداً - وكذلك في كوسوفو وكان من المؤسف أنه لم يتدخل في رواندا لوقف المذابح الجماعية- إلا أن الدوافع السياسية للتدخل كانت مشوشة في كل الأحوال. وهكذا كانت باستمرار. حقيقة أنه عندما يفعل السياسيون الشيء الصحيح ، فغالباً ما يكون الدافع لذلك أسباب غير صحيحة ، غير أنه كان هناك منطق أخلاقي واضح. وهذا ما يعني أنه لو ارتكبت دولة شيئاً يشبه أعمال الإبادة الجماعية ، بالقتل أو التطهير العرقي لعدد كبير من مواطنيها فحينئذ يصبح للدول الأخرى الحق في أن تتدخل لوقفه بأي وسيلة تراها ممكنة، وبتفويض من قرار صادر عن الأمم المتحدة. إلا أنه بهذا الشكل الذي يعارضه الروس والصينيون وموقفيهما من الولايات المتحدة فلن يكتب لهذا القرار أن يصبح على شاكلة القرارات الصادرة حول كوسوفو. وأياً كان فقد وصفت الحملة من أجل كوسوفو على نحو حاد بأنها غير شرعية ولكنها مشروعة. إن التوقيت الملائم للبدء بهذا التدخل وإن كان يبدو اليوم وكأنه قد أتى في وقته حيث هناك ما يشبه أعمال الإبادة الجماعية. إلا أن هذا المنطق يبدومظلوماً بإرغامه على تبرير التدخل العسكري الأميركي البريطاني المحتمل ضد العراق.لقد أيقظ توني بلير مؤخراً فكرة المذابح المرعبة التي استخدم فيها الغاز في حلبجة ، وقتل ومحاربة مئات الآلاف من الأكراد في شمال العراق. أجل هناك ما يشبه أعمال الإبادة الجماعية ، غير أنها كانت قد وقعت في وقت سابق جداً في سنة 1988 ، ولم يتدخل الغرب. وعندما شجع الأكراد العراقيون على النهوض ، في اعقاب حرب الخليج ، وقامت قوات صدام بسحقهم شعر الغرب بالإستحياء فأنشأ منطقة حظر الطيران التي تنجز الآن مهمة حماية كردستان المتمتعه بالحكم شبه الذاتي. حقيقة أن صدام يدير نظاماً ظالماً إلا أن هذا النظام بفرض منطق حظر الطيران أصبحت جرائمة لاترقى للمستوى الذي يتطلب التدخل الإنساني بالقوة. وبالتالي فإن محاولة تبرير التدخل العسكري بهذا الأسلوب تسيء الى فكرة التدخل الإنساني برمتها.ثم أن هناك فرق التفتيش على الأسلحة. ومرة أخرى فإنها فكرة جيدة تفيد العالم. كما أن لك أن تأخذ هذا الشيء وتفكر به : قد تكتب لك مشاهدة حرب نووية في حياتك. وبما أن الأسلحة النووية تتوالد، وتصبح قابلة للتصنيع والحيازة ، فإن فرص استخدامها من قبل شخص ارهابي أو دكتاتور ستتزايد. وعلى الرغم من أنه من الصعب بمكان الحيلولة دون ذلك إلا أن إحدى الوسائل الكفيلة بالحد منه هي التي تقضي بسن قانون دولى لقيام فرق تفتيش صارمة ومفروضة بالقوة. وبالطبع فإن هذه الفرق لن تتهاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا أو الصين وعلى أي حال فإن هذه الدول التي تنعم بالإستقرار هي الأقل تفكيراً في استخدام اسلحتها النووية في واقع الأمر. وعلى الرغم من أن الدول غير المستقرة ستسعى دائماً الى التملص والمراوغة - كما سيفعل صدام - إلا أن فرص فرق تفتيش كهذه في الحصول على القبول الواسع أصبحت تتضاءل. منذ أن صار ينظر اليها باعتبارها أداة في يد السياسة الأميركية العدوانية.. هذه هي المعضلة. إلا أنه على الرغم من أن الجميل والضرورى أن يشرع المرء بممارسة تمرين أورويل الذهني ليطرح على نفسه هذا السؤال: على أي نحو سيكون تفكيري لو أن الولايات المتحدة لم تكن متورطة؟ إلا أن الولايات المتحدة متورطة بالفعل ، في كل مكان تقريباً. كما أنه لايمكننا أن نقول فقط إن علينا أن نسقط دور الولايات المتحدة. وإذا كانت العلاقة بأميركا التي يتزعمها بوش ستفقد المشروع الليبرالي العالمى بريقه فما هو الحل إذاً؟ هل هو السعي الى حمل الولايات المتحدة على اتخاذ موقف معتدل، وبالتأكيد مناشدة الأمريكات الأخريات الموجودات الى الآن باتخاذ الموقف نفسه؟ أم السعي الى بناء صوت أوروبي أكثر قوة؟ الإجابة نعم كليهما. وهكذا ننتهي مثلما انتهى توني بلير، إحداث انقساما. وهذا غير مريح قطعاً. بقلم: تيموثي غارتون آش ترجمة: مريم جمعه فرج عن «غارديان»

Email