الجدار لن يحمي إسرائيل، رئيس وزراء الكيان يأخذ الأراضي والأرواح ويريد الجميع انتحاريين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 25 رجب 1423 هـ الموافق 2 أكتوبر 2002 الجدار الفاصل يسلب ما تبقى من اراضي القرى الفلسطينية المحاذية للخط الاخضر ويتركها بلا مصدر رزق أو متنفس تعتاش منه، الامر الذي سيضر بأمن اسرائيل حسب رأي سكانها. ناصر قزمار، ابن الثلاثين عاما، قلل من الكلمات خشية ان يسيطر البكاء على صوته. صوت انسان في حالة عزاء وفقدان بعد ان جاء الاسرائيليون وبدأوا اعمال بناء الجدار الفاصل بين القرى على مسافة 20 مترا من المنازل السكنية ليشق بساتين الزيتون والدفيئات والآبار. الجرافات أخذت تقتلع اشجار الزيتون وتحفر في أرض عائلته مقتربة من البيارة التي زرعها والده قبل أربعين عاما. في رام الله بعيدا عن قرية عائلته المسماة عزبة سلمان في منطقة قلقيلية يوجد له أخ آخر واسمه خالد، وهو ايضا تحدث حول الامر بصوت حزين يعبر عن الفقدان. ناصر عاش سنوات طفولته بين اشجار الزيتون المتناثرة على تلال لينة رخوة، وفي الاماكن الجرداء التي قام شقيقه بتمويل مشترك من أبناء العائلة بتنظيفها لاقامة دفيئات للخضروات عليها، وبين المراعي المشتركة لكل أبناء القرية. ناصر يخشى أكثر ما يخشاه على والدته المريضة بالقلب حيث قام أفراد العائلة باخفاء أمر دخول الجرافات للعمل في الارض عنها خوفا من ردة فعلها. أقل من ثلاثة اسابيع مرت منذ ان أعلم الجيش سكان القرية بصورة رسمية ان الجدار الامني الفاصل سيمر من اراضيهم - حالهم كحال 30 قرية حدودية اخرى محاذية للخط الاخضر في منطقتي طولكرم وقلقيلية. الجدار نفسه لن يلتهم الا عدة مئات من الدونمات التي تعود لهم، ولكن الأدهى من ذلك ان هذا الجدار سيترك من جهته الغربية مساحات واسعة من اراضيهم، أما الآخرون الذين ستكون اراضيهم قريبة جدا من الجدار فلن يتمكنوا من الوصول اليها حسب تجربة الماضي. الجغرافي خليل التفكجي الذي يدرس سياسة مصادرة الاراضي والاستيطان الاسرائيلي منذ سنوات أجرى حساباته ووجد ان 80 ألف دونم تعود لـ 23 قرية - من سالم غربي جنين حتى جيوس شرقي قلقيلية - ستضيع هباء منثورا. وحسب رأي التفكجي ستجد 12 قرية من القرى الثلاث والعشرين نفسها شرقي الجدار الفاصل، أي مساحتها المبنية، هذا بينما سيبقى الجزء الأساسي من اراضيها في المسافة الموجودة بين الجدار الفاصل والخط الاخضر.كما ان 11 قرية من القرى في شمال غرب الضفة ستجد نفسها في المساحة الموجودة بين الخط الاخضر والجدار الفاصل (بأراضيها ومنازلها وسكانها». يعيش في هذه القرى 26 ألف نسمة يعتاشون من الارض. وفي وزارة الحكم المحلي الفلسطيني يقولون ان هذا يلحق الضرر بـ 80 في المئة من اراضي القرى. والـ 11 قرية المذكورة سالفا هي: رمانة، خربة الطيبة، عانين، برطعة الشرقية، طورة الغربية، أم ريحان، العقبة، نزلة عيسى، نزلة أبو نار، باقة الشرقية والجاروشية. وسكان هذه القرى ورؤساء السلطات المحلية فيها لا يعرفون حتى الآن وضعهم القانوني وكيف سيديرون حياتهم بين الخط الاخضر والجدار، هل سيحصلون على بطاقات هوية خاصة؟ وكيف سيتمكنون من الوصول الى القرى المجاورة الواقعة شرقي الجدار والى مدن المحافظة؟ وما هي قيود التنقل التي ستفرض عليهم الى جانب تلك المفروضة على كل سكان الضفة؟ التفكجي دقيق في حساباته، وهو لم يشمل عزبة سلمان والقرى المجاورة لها جنوبي قلقيلية في حساباته هذه لان الاوامر العسكرية التي استلموها في وقت متأخر نسبيا لم تصل الى يديه بعد. في يوم الخميس، الموافق الخامس من سبتمبر، ترك الجنود في مسجد القرية خارطة وأمر بمصادرة الاراضي للأغراض العسكرية. البيان الذي أكده المسجد دعا المواطنين للمشاركة في جولة في الاراضي التي ستجري مصادرتها في اليوم التالي، أي يوم الجمعة. اغلبية سكان القرية لم يشاركوا في هذه الجولة وذلك لانهم علموا ان الامر بات محتما. «ولماذا نشارك؟ حتى يرى ممثلو الادارة المدنية والدي ابن السبعين عاما وهو يستند الى شجرة الزيتون مخفيا دموعه؟ وهل سيغير أحد في اسرائيل رأيه لهذا السبب؟ هل سيعتقد أحد في اسرائيل انه ربما كان من الأفضل اقامة الجدار على الخط الاخضر بالضبط؟» قال شخص ما في القرية. بعض المواطنين الذين شاركوا في الجولة رغم ذلك قالوا ان المساحين أحضروا معهم صوراً جوية تحتوي على كل شيء وكل شجرة. سبعة ايام فقط هي المهلة التي أعطيت للسكان حتى يقدموا اعتراضاتهم للادارة المدنية في كدوميم: أي ان يبحثوا عن وثائق يبرهنون فيها عن ملكيتهم للارض وحتى يتشاوروا مع المحامين ويصوروا نسخا من الخرائط - كل هذا في ظل الحصار والاغلاق، وحيث يتوجب عليهم ان يلتفوا على الحواجز والاغلاقات والدوريات العسكرية. في نهاية الاسبوع الماضي اتضح ان سوء الفهم بين المحامي وبين السكان حال دون تقديم الاعتراض في الوقت المناسب. مع ان هذه الاعتراضات لم تكن لتغير من القرار وانما تتسبب في تأجيل النهاية فقط. بعد ذلك بعدة ايام وبعد ان ترك الجنود أمر المصادرة في المسجد جاء المساحون ليضعوا علاماتهم الحمراء على الاراضي والاشجار كعلامة فارقة للبدء بالعمل كما استنتج سكان القرية وفهموا.واستنتاجهم كان ان كل ما وضعت عليه اشارة حمراء قد ضاع وذهب. ولم يحاولوا حتى تكليف انفسهم عناء عرقلة العمل، ولو كانوا قد فعلوا لكسبوا عدة ايام اخرى قبل تنفيذ الحكم، ولكن سكان عزبة سلمان وقرية بيت أمين المجاورة لها لا يؤمنون بالمعجزات لادراكهم ان يومين أو ثلاثة ايام لن تغير من الامر شيئا. الجرافات مدعومة بالسيارات العسكرية جلبت للمكان ووضعت بجانب مستوطنة اورانيت للشروع في العمل. ناصر قزمار توقف عن ري خياره وحمضياته منذ ان شاهد العلامات الحمراء التي وضعها المساحون. ولسوء حظ قزمار جاءت كل دفيئاته بما فيها مستودع المياه الكبير الذي بناه غربي الجدار الفاصل. قزمار كان قد عمل لسنوات طويلة مع أشقائه في اعمال البناء في اسرائيل، وقسم من المال دفع لتمويل دراسة بعض الأخوة والأخوات، أما الباقي فقد استثمر في الارض. السلطات الاسرائيلية كانت قد حظرت على سكان القرية القيام بأعمال بناء في التلال الغربية منذ عشرين سنة في السابق ذلك لان هذه التلال مقابلة لمستوطنة نيريت الجديدة القريبة. ولكنهم لم يحظروا على السكان فلاحة الاراضي والعمل فيها. قبل عشر سنوات شرع ناصر وأعمامه بفلاحة الارض ونقلوا أطنانا من الأتربة الحمراء الخصبة، ومن ثم شيدوا الدفيئات. العائلة صرفت على هذا المشروع عشرات آلاف الدولارات حيث واصل الشبان العمل في اسرائيل طالما كان ذلك متاحا، بينما تركوا العمل في الدفيئات لايام العطل والاجازات. الدفيئات تحولت في العامين الاخيرين الى مصدر رزقهم الوحيد، الا انه آخذ في النضوب بسبب الحواجز والاوضاع الامنية. وفي السنة الماضية لم تتمكن مبيعات المنتوج الزراعي من تغطية نفقات ري البيارات. ومن هنا جاء قرار قزمار بعدم ري المزروعات التي وضع عليها شريط المصادرة الاحمر حتى لا يهدر ما تبقى من نقود في حوزة العائلة على مزروعات ستداس عما قريب تحت أسنان الجرافات الاسرائيلية. ناصر وشقيقه زهير يتسكعان بين الدفيئات التي سيتم اقتلاعها ويشيران الى اشجار الصبار الموجودة على مسافة كيلومتر فوق التلة المقابلة، ويقولان ان هذا مكان منزلهما قبل عام 1948 حيث كان واقعا على الخط الاخضر بالضبط. في حينه سألوا العائلة أين تريد السكن في اسرائيل أم في الاردن، فاختارت العائلة الجانب الاردني من المنطقة ذلك لان الاراضي التي ستبقى لهم اذا اختاروا الجانب الاسرائيلي تبلغ 57 دونما فقط، أما في الجانب الاردني من الحدود فكانت لهم 600 دونم، والآن سيفقدون نصف هذه المساحة مع الجدار الفاصل. عائلة قزمار شاهدت منذ الثمانينيات عملية بناء المستوطنات من حولها: نيريت من الغرب على نباتات الصبار التي كان منزلهم موجودا فيها، ومن الجنوب داخل اراضي الضفة بنيت اورانيت التي تتوسع باستمرار والى جانبها مستوطنة شعري تكفا التي تصل منازلها حتى منازل قرية بيت أمين المجاورة، هذا رغم ان سكان بيت أمين منعوا من البناء على الاراضي القريبة من بيوت المستوطنين، القرية تكافح منذ عشرين سنة ضد قرار مصادرة، الا انه تمخض في نهاية المطاف عن مصادرة 20 دونما كانت تستخدم كمراع مشتركة للقرية وأصبحت الآن منطقة عازلة بين اراضيهم واراضي اورانيت. ورغم قربهم من الخط الاخضر ورغم وجود المستوطنات من حولهم الا انهم غير مربوطين في شبكة المياه. والناس دفعوا وما زالوا يدفعون الضرائب لاسرائيل الا انهم لم يتلقوا خدمات مقابلة في مجالات التنمية. وقبل شهر فقط تم ربطهم بالكهرباء بينما كانوا يولدونها حتى الآن من مولد كهربائي. ومؤخرا تم ربط خط كهربائي بين اورانيت والفيه منشه فأخذ يمد قرية عزبة سلمان بالكهرباء ايضا.قبل سنة أقامت السلطات الاسرائيلية جدارا يفصل بين عزبة سلمان ومستوطنة اورانيت على ان يسمح لهم بالوصول الى اراضيهم وفلاحتها، الا ان ذلك لم يطبق على ارض الواقع. وفي الاسابيع الاخيرة أدركوا ان مصيرهم لن يكون مختلفا عن مصير القرى الاخرى مثل جيوس وفرعون والراس والجلمة حيث كانوا قد التقوا مع سكانها في عمليات احتجاجية غير مجدية أمام الدوريات والجرافات.من المتوقع مثلا ان يصادروا من اراضي جيوس 10 آلاف دونم من بين 13 ألف دونم مصادرة في اطار عملية بناء الجدار. أبو احمد، من الجلمة، قدم حتى قرية عزبة سلمان للتظاهر حتى يودع الـ 750 شجرة زيتون والبيارات والدفيئات التي يملكها على الأقل. «هل هذا ما يريده شارون، هل يريدنا ان نصبح جميعا انتحاريين، انه يأخذ ارضي ويأخذ روحي، فأية حاجة للجسد بعد ذلك؟ اذا أخذوا كل شيء مني فهم يريدونني ان اكون متسولا، فمن أين سأطعم اطفالي الصغار؟ عندما يبكي صغيري طالبا الطعام فأمامي واحد من أمرين: إما ان أسرق، وإما ان أموت. وأنا لن أسرق. لقد أمضيت كل شبابي في أبو ظبي حتى أبني لي ولعائلتي مستقبلا، وها هو أحدهم يأتي ويسلب مني كل ما بذلته خلال السنين. كيف سيكون السلام؟ عملت في المستوطنات طوال خمس سنوات، وكان الناس يتركون لي مفاتيح منازلهم ويتركون اطفالهم معي ولم أشعر انني عدو لهم، أما الآن فها هم يحولونني الى عدو. هل تعتقدون ان هذا الجدار سيزيد من أمنكم؟ انه لن يفعل الا عكس ذلك، ذلك لانكم تتركوننا بلا شيء». قزمار قضى الاسابيع الاخيرة وهو يتأمل في مزروعاته التي تموت موتا بطيئا ورأى ان الجدار الفاصل متعرج الى هنا وهناك، والهدف فقط هو ابقاء المستوطنات داخل الخط الفاصل في المنطقة الاسرائيلية. «لو كانوا يرغبون حقا في ضمان الأمن لاسرائيل، لشيدوا الجدار على الخط الاخضر تماما، الا ان ما يريدونه هو استلاب المزيد من الاراضي». ووالده العجوز الذي زرع المزروعات بيديه الاثنتين قبل اربعين عاما نظر لاشجار الصبار البعيدة وقال «هذا مسلسل بدأ منذ عام 1948». بقلم: عميره هاس عن «هآرتس»

Email