عوالم ثقافية اندثرت

حين تستجدي ذاكرة المكان المبادرات

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تكوّن لدي، بفعل معايشاتي وتجربتي في مساقات الإبداع وساحاته ضمن الإمارات، وعبر أكثر من ثلاثة عقود، هاجس الخوف والتوجس من خطر عدم احترام ذاكرة المكان، جراء ما خبرته من ألوان لزحف العمران عليها. إذ شاهدت كيف طمست البلدوزرات معالم أمكنة عديدة، كان لا بد من حفظها حية نابضة مع إحداث لمسات تطوير عصري ملائم يصون نسيجها ومضمونها الأصلي. ذاك كي تعود إليها الأجيال المتعاقبة، وتتعرف معها على مفردات بانورامية متنوعة تشكل في جوهرها، ذاكرة المكان وثقافته وهويته.

 لست هنا، وفي هذه المساحة المحدودة من الكتابة، بصدد تعداد وحصر بياني لتلك المساحات والأمكنة التراثية والأثرية، المهمة، التي غابت بفعل التوسع العمراني غير المحتكم إلى خطط عمل تراعي الجوانب الفكرية المجتمعية، ما أدى إلى طمس روحية معالم بارزة تمثل ذاكرة ثقافية براقة. ولكنني لا أجد مناصاً من ضرورة الإشارة إلى بعض تلك المراكز الحيوية.

والتي طالما جسدت بؤرة حيوية، تجمع المثقفين والمسرحيين. إذ لكل من مبدعي الحقلين، من مجايليّ، ذكريات وأحداث عذبة شائقة، ترتبط بها. فخذ مثلاً، قاعة إفريقيا في الشارقة، حيث تتسع لأكثر من ألف كرسي، بطابقيها الأرضي والبلاكون..

وطالما مثّلت بيتاً لجميع المسرحيين في الدولة. وأيضاً، لا أعتقد أن أي فرقة مسرحية لم تقدم على خشبتها عرضاً ما. وكذا يعرف مبدعو هذا المجال، كافة، تميز دور هذه القاعة العتيدة، التي تتلون مشاهد ذكرياتها، بالنسبة لهم، بوقائع وقصص وأيام، سماتها العذوبة والطلاوة والفرح والعطاء.

 دلالات وركائز ثقافية

أحداث وفعاليات، كبيرة ومهمة، شهدتها قاعة إفريقيا في الشارقة، اختبرت وعايشت معها، جملة دلالات ثقافية، وكذا عرفت في خضمها، ولادة قامات فنية بارزة. ذلك خاصة وأنها لم تقتصر في مؤدى وصبغة نشاطاتها، على المسرح والثقافة فقط، إذ بنيت أساساً، لتكون مقراً لأعمال المؤتمر الإفريقي، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

لا أدعي أن قاعة إفريقيا نموذج فريد حصري، لتوافر الأجواء الطبيعية والمثلى للأعمال المسرحية. فنحن عهدناها فقيرة في مكون أثاثها وإمكاناتها، حيث لم تك تمتلك، على سبيل المثال، كراسي ثابتة ومريحة للمشاهدين، وإنما من النوع الرخيص. فتجد الكراسي متراصفة بنسق وراء الآخر، مباشرة، قبل العرض المسرحي. وبشكل طبيعي، شابهت تجهيزاتها الفنية تلك الحال، فلا معدات أو أشكال لافتة، تضمنتها بهذا الصدد..

وربما أن ما يمكنني ذكره هنا من معدات وجدت فيها، بار حديدي معلق في مواجهة خشبة العرض. وبناء على تلك الاعتبارات ومستويات البنية التحتية، اقتضت العملية، من الفرق المسرحية التي كانت تبتغي عرض مسرحيتها في القاعة، إحضارها أجهزة متكاملة، من بروجكترات وديمير.. وما إلى ذلك.

وهذا شكل عبئاً وحيرة كبيرين، كون معظم الفرق،، ليس لديه، حينها، القدرة على امتلاك تلك الأجهزة، فقط باستثناء مجموعة منها، مثل: مسرح الشارقة الوطني، مسرح رأس الخيمة الوطني. وتلك طبعاً، كانت أجهزة متواضعة وبدائية ومستهلكة .

كما غابت عن المسرح في القاعة، الخشبة بمفهومها الفني الفعلي، كونها لم تبن على أساس أنها مسرح، بقدر ما كان الغرض منها توفير مكان لتجمع وفود سياسية، وعقد اجتماعات ونشاطات أخرى متنوعة. وبذا فإن الخشبة، أضيفت إلى المسرح، مع الستارة، لاحقاً. ولا تفوتني الإشارة إلى أن قاعة إفريقيا، كانت تابعة، آنذاك، لبلدية الشارقة، لا لدائرة الثقافة.

 علاقة قديمة

تمتد علاقتي بقاعة أفريقيا، إلى الفترة الزمنية السابقة لإقامتي في الشارقة. إذ كنت قد ترأست وفداً فنياً ثقافياً عراقياً، في عام 1979، قدم إلى دول الخليج العربي، ومنها الإمارات( وتحديداً في أبوظبي ورأس الخيمة والشارقة). واقتضت مهامي، حينها، التعامل مع برامج وفعاليات محددة، تقام في قاعة إفريقيا، وأبرزها : الإشراف والمتابعة للعروض الفنية التي قدمتها فرقة البصرة للفنون الشعبية.

ولعل من أهم الشخصيات التي تعرفت عليها في هذه القاعة العتيدة، سمو الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، رئيس الدائرة الثقافية، حينذاك. وكذلك عبد اللطيف القرقاوي، الذي كان يعمل في بلدية الشارقة، والصحافي المشاغب عبد الله العباسي. ومن ثم مجموعة من شباب المسرح الإماراتي: ناجي الحاي، عمر غباش، جمال مطر، أحمد راشد ثاني، يوسف خليل، وغيرهم.

ولا أبالغ هنا، حين أجزم أن قاعة إفريقيا، ورغم فقر إمكاناتها، وتواضع بنيتها التحتية، جسدت، وبشكل مثالي، مصدر غنى وإثراء، وذخر وسند لماهيات العمل الثقافي. وتبرز في هذا الصدد، امتدادات وتأثيرات إسهاماتها، المترجمة في الوقت الحالي، في ظهور وولادة مهرجانات وفعاليات وبرامج من نسغ وعينة ما كانت تقدمه، ذلك ضمن شتى مساقات العمل الثقافي والمسرحي، وهكذا فإنها شكلت رصيد منجز حيوي للفكر الوطني .

لا يمكن لأحد، أن يغفل أو يتناسى، ما خبرته وعايشته جدران قاعة إفريقيا من مخاضات وتطورات وارتقاءات عملية لمستويات العمل الثقافي الإماراتي، حملت في نهاية المطاف، مقومات وعناصر النجاح التي نعيشها اليوم. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن الصورة كانت مشرقة تماماً، تخلو من الانتكاسات والانكسارات الفنية المسرحية.

فكثيراً ما كان تميز الأعمال التي احتضنتها، ثمرة مخاض إخفاقات وعرقلات وخيبات لا تنتهي. لكن الثابت الوحيد، أنها بقيت عنواناً للوفاء كحاضنة وبوتقة إبداع، فامتد دورها هذا طوال عقدين من الزمن.

ولكن المؤلم أنها أهملت، لاحقاً، بل تركت لتغيب فتمسح من الذاكرة، عقب ظهور مؤسسات وقاعات عصرية فخمة، منها: قصر الثقافة، القاعات المسرحية الأخرى في المريجة، القاعات التي انتشرت في مدن المنطقة الشرقية (مثل خورفكان وكلباء والفجيرة). والمؤكد في هذا الصدد، أن بروز تلك المقار العصرية، لم يك سبب محو أو تغييب دور وتاريخ وقيمة قاعة إفريقيا، بل إن عدم الاهتمام الاستراتيجي المنظم والمدروس في هذا الشأن، هو مكمن الخلل.

فتلك المشروعات العصرية، كانت تطويراً وإذكاء فريداً للثقافة والفن، إذ استحدثت كنوع من ترجمات وصور اهتمام الدولة بالمجال. وكان بارزاً في هذا الخصوص، الجهود المثالية والدعم اللامتناهي لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كون سموه اعتنى جدياً، بإحداث نقلة نوعية على صعيد تطوير بنى ومقومات العمل الثقافي والفكري العام.

 نداء يتكرر

لا تزال قاعة افريقيا موجودة وقائمة في وسط مدينة الشارقة، إلا أن أحداً لم يهتم بها. ولم تفكر أية جهة في إعادة تأهيلها وتجهيزها وتأثيثها، وكذا إرجاع الرونق والبريق لستائرها كي تتراقص مع العروض المسرحية. ومن ثم تصبح واحدة من أهم البنى التحتية للبيت المسرحي. وأنا على يقين تام بأن جميع المسرحيين يتمنون ويثمنون أية مبادرات ترمي إلى ترميمها وبث الحياة والنور فيها.

وكثيراً ما رددت وكررت الدعوة إلى مثل هذه الخطة، في وقت سابق. وأعود في هذه السطور، لأعيد ندائي.. فذاك المكان( قاعة إفريقيا)، ذاكرتنا ووترنا وشجوننا. إنها مرتع ولادة وارتقاء الإبداعات التي لن تغيب.. لا بل هي عقل وقلب أهل المسرح، وأيضاً بيتهم القديم.

 ز س

يتجسد الأثر المسرحي الآخر، الذي اندثر ولم يعد يذكر، بمسرح خالد، الذي كان يقع مقابل مصلى العيد في الشارقة. وفي تلك الأيام، كانت جمعية الشارقة للفنون الشعبية مع مسرح خالد، ضمن مبنى واحد قديم يضمهما، يشتمل على مسرح عرض وقاعة ( هي الأخرى لم تكن مؤهلة بشكل جيد). إلا أن عروضاً كثيرة أقيمت على خشبة مسرح خالد، تبقى حاضرة ومؤثرة.

ولعل تجارب وعروض مسرح خالد، الذي تغير اسمه إلى المسرح الحديث في الشارقة، لا يمكن لأي تجارب أن تمحوها. وأذكر منها مجموعة أعمال المبدع يحي الحاج مع المسرح الحديث. ويمكن أن نقول ان أقوى وأكثر براهين وضرورات تمسكنا الشديد بإعادة ترسيخ حضور ذكرى وقيمة ودور مسرح خالد، أنه طالما مثّل المقر الحيوي لبروز عدد من الفنانين الفطريين، الذين زاولوا الفن الشعبي، جنباً إلى جنب، مع مهامهم ومسؤولياتهم الحياتية في البحر : ن

واخذة وفي غيص ونهاهيم (جمع نهام). وكان لي شرف الجلوس، مرات كثيرة، لاستمع إلى أحاديث بوسماح، رحمة الله عليه، والتي لا يمكن أن تصدق، على الرغم من واقعيتها. وطالما سعيت مع المسؤولين في دائرة الثقافة في الشارقة، في حينها، إلى العمل على إطلاق مبادرة لتسجيل أحاديث بوسماح.

إضافة إلى ما بقي في ذاكرته من المواويل البحرية التي كانت جزءاً من فنون البحر. شهد مسرح خالد في الشارقة، أحداثاً كثيرة، تعد نوعية وركيزية، على صعيد تطوير الحركة المسرحية. ومنها: الدورة التدريبية المركزية التي نظمتها وزارة الثقافة والإعلام، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بإشراف المنصف السويسي، إذ انقسم المتدربون ما بين قاعة إفريقيا ومسرح خالد.

وهناك، أيضاً،دورة مسرحية أخرى مشتركة، أشرف عليها يحيى الحاج ومسرحي انجليزي( لم أعد أذكر اسمه في ذاكرة بدأت تتضاءل بعض الشيء). أما الدورة الأكثر شهرة، والتي نظمت في مسرح خالد، فهي تجربة جواد الأسدي مع مقهى بوحمدة، حيث استمرت من الأشهر الأخيرة لعام 1986، إلى غاية موعد العرض في 23 أبريل عام 1987.

وكذا الأيام التي تلتها، ذلك لاستكمال العرض. وتعد التجربة، حيوية ومفصلية في تاريخ المسرح في الإمارات، إذ إن الدورة التي قادها جواد الأسدي كانت من نوع آخر، غير ما اعتاده المسرحيون من نشاطات أخرى. وشارك فيها: أحمد الجسمي، أحمد الأنصاري، حسن رجب، بسام عبد الله، عبد الله المناعي، ناجي الحاي.

كما استضاف مسرح الشارقة الوطني، معها، الفنانة السورية منى واصف. واحتلت مكانها الفنانة المبدعة سميرة أحمد، بعد أن عادت الأولى إلى دمشق. حصلت سميرة، حينها، على جائزة أحسن ممثلة. وكذلك فعل أحمد الجسمي في مهرجان قرطاج الدورة الثالثة عام 1987.

عايشت شخصياً كل مراحل تجربة جواد الأسدي مع مقهى بوحمدة، وكتبت وجهة نظري في ما كان يحدث من تحولات، سواء كان مع الممثل أو مع النص أو المكان، حيث كان المكان بطلاً عند الأسدي، لذلك تعرض للمتغيرات حسب البعد الرؤيوي الذي يسود لديه. كان العمل متعباً للغاية، وممتعاً أيضاً بدرجة التعب نفسها. وألفت هنا إلى أن للبروفة عند جواد الأسدي، أهمية خاصة لا تقل عن نظيرتها في العرض.

لا شك في أن ذاكرة المكان مهمة.. كما أن الاحتفاظ بالأثر مهم.. وبذا فإن استمرار إهمال الذاكرة الثقافية المكانية، وعدم الاهتمام بالمواقع ذات التاريخ، أمور تعرضنا إلى مزيد من الخسارة، كونها تكبد المدن كلفاً باهظة، تدفعها من رصيدها المعنوي، إذ تغدو مجرد كتل وساحات وأبنية بلا تاريخ أو جذور أو ذخر وأثر..

 إن قيمة المدينة هي في أبعادها التراثية والتاريخية. جميل أن تعيد الشارقة منطقة المريجة لذاكرتنا، وكذا أن تعيد دبي منطقة الشندغة. ولكن هذا لا يكفي إذا لم يقترن بخطط وأعمال الحفاظ على الأمكنة، التي لها أهمية في تاريخنا الثقافي.

Email