عبدالوهاب البياتي ظاهرة الشعر العربي الحديث

ت + ت - الحجم الطبيعي

بلغ الشاعر العراقي، عبد الوهاب البياتي، مكانة رفيعة متقدمة، بين الشعراء العرب في القرن العشرين، خط معها، ملامح تجربة فريدة سمتها تميز الأسلوب وغنى الطروحات والأفكار، إلى جانب تجلي رسوخ انتمائه ومنهجية تأسيسه الجذري في ساحات الإبداع الشعري، وذلك في خضم أجواء ونتاجات، جيل مبدعين ثري بحضور القامات البارزة، كبدر شاكر السياب (حتى وإن كان بدر قد سبقه بمراحل لا نختلف في حجمها).

 لم يكتف عبد الوهاب البياتي( 1926- 1999)، بكونه شاعراً مبرزاً. بل طالما بقي عنواناً للأديب الخلافي الرافض للمسلمات، الراغب بالتجدد والتجديد، إذ طالما احتار النقاد في إمساك الزاوية التي بمقدورهم معها، الحديث عنه..

وقل ما كنت تجده، عادة، في نهاية خيمة الماغوط، عند وجوده في دمشق. إلا أن إشكالية البياتي، الأبرز، تتبدى جلية، في واقع أنه كان يلغي شعراء العربية، واحداً تلو الآخر. فمع كل ليلة يقيم فيها حفلاً خاصاً، في جلسات صخب اعتادها، يتحلق حوله معجبوه ومريدوه، فيشرع في حذف وتهميش الشعراء الأحياء، مع ولوجه أول محطات عوالم الكيف التي درج عليها.. وهكذا يبدأ تفنيد مثالب الأموات الذين عرفهم وعاش معهم، ومن ثم يشرع في إلغاء الشعراء العرب الكلاسيكيين، بالتتالي، إلى أن لا يبقى شاعر في صفحات تاريخ العرب القديم والمعاصر، إلا شاعر واحد وحيد: عبد الوهاب البياتي.

نقد وإنصاف

لم تغب النرجسية عن شخصية البياتي، يوماً.. وربما أنها كانت تمتد وتتطاول، لتبقى جذوتها متقدة بينما هو يرتاح على وسادته أو يغط في نومه ويهنأ باستقراره.

وطبعاً، ليس معنى تلك الحالة التي نذكر، أن البياتي، كان مدعياً الإبداع وغريباً عن سمة الفرادة. إذ إنه، وبحق، صاحب أسلوب شعري تميز به عن غيره من شعراء عصره.

قرأت مرة، مقالاً للدكتور عبد العزيز المقالح، يبين فيه أنه كتب دراسة هاجم فيها نزار قباني، حيث كان في القاهرة. وقرر إرسالها إلى مجلة فصول. وجلس في مقهى ليشرب الشاي، إلى حين حلول موعد ذهابه إلى إدارة المجلة. وفي تلك اللحظات، إذا بنزار قباني يدخل المقهى نفسه، ويجلس إلى طاولته عينها. ثم، وبعد دقائق قليلة، وبمحض الصدفة، دخل البياتي.

وهكذا جلس الثلاثة معاً، على طاولة واحدة. واندلع، آنئذ، حوار عميق، بين البياتي والقباني، على إثرها، امتد إلى أكثر من يومين، بدت فيه بوضوح، إنسانية قباني وقوميته.. وذلك بخلاف ما قيل أو كتب عنه. ويقول المقالح، في هذا الخصوص: إنني وجدت أن كل ما كتبتـــه عن نزار، بعيد وغير منطقي. فمزقت الدراسة في الحال. وبدأت أكتب من جديد، الصورة التي تعلمتها من عمق الحـــوار، بين البياتـــي ونزار نفســـه.

سجال حول مبدع

إن هذا السجال، يذكرني شخصياً، بآخر مشابه، كان موضوعه تجربة البياتي الشعرية. ودار فيه نقاش حاد بين: الدكتور كمال أبو ديب والدكتور محسن الموسوي. وكانا، حينها، محكمين في فعاليات الدورة الرابعة (1994-1995) لجوائز العويس . وكان معهما في لجنة التحكيم ذاتها : محمد مصطفى بدوي، حسين عطوان، عبد الفتاح كيليطو، توفيق بكار، عبد الخالق عبدالله، أحمد صدقي الدجاني.

قضت مداولات وآراء لجنة التحكيم، آنذاك، جميعها وبالإجماع، بفوز عبد الوهاب البياتي بجائزة الشعر في الدورة تلك. لكن، وقبل أن تنهي اللجنة أعمالها، اعترض أبو ديب: لا مانع لدي من فوز البياتي، إلا أن لي وجهة نظر يرجى الاستماع إليها. واتضح في كلامه، مراده في تفاصيل الفوز الذي يردي، إذ إنه يوافق على فوز البياتي بالجائزة، لكن شرط أن يشاركه شاعر آخر، من جيل جديد، ومن مريديه أيضاً.

استغرب الجميع هذا الطرح الذي تظهر فيه روح الطعن في شخص البياتي، لا في شعره أو شاعريته.. وطلب عبد الحميد أحمد، الأمين العام لمؤسسة العويس الثقافية، في تلك الفترة، والذي كان يترأس الجلسات، أن يباشر المحكمـــون حـــواراً هادئاً يفضي إلى الوصول لقرار مشترك مناسب. وعلى الفور، طفق كمال أبو ديب، يشـــرح وجهة نظره، إزاء ما قدمه من رأي، مبرراً ذاك، بهدف وغاية ضروريين، مرماهما.

كما ذكر، العمل على تقزيم الأنا لدى البياتي، وذلك من خلال فوز آخر معه- مشاركة، في جائزة الشعر (ضمن جوائز العويس). ولحظتذاك، انبرى محسن الموسوي للدفاع عن البياتي، عن الوجه الآخر في هذه المسألة الخلافية. فارتجل دراسة نقدية، بقراءات متعددة، تعرض نصوع وتميز جوانب شاعرية البياتي وتجربته، مؤكداً، خلالها، أن البياتي كيان متكامل، ذلك بما يحمله مـن إبداعات وانكســــارات، كونه مبدعاً استثنائياً، وصاحـــب تجربـــة حيوية، في الشعر المعاصر.

 يومان نقاشاً

تفرعت ودقت مجريات وعناوين حوار الموسوي وأبو ديب، حول البياتي وقرار طبيعة فوزه بجائز الشعر في جوائز العويس الثقافية. وكانا، في أثنائها، هادئين يتحاجان بجدية ومنهجية نقدية رزينة، يكللها سمو أسلوبهما في أدبيات الحديث، وكذا علو خلقهما، حتى وهما يسوقان مجموعة حجج ودلالات وإسقاطات، استغرقت في سردها وتفنيدها، ساعات كثيرة، شائقة ولافتة، على مدار يومين أو أكثر، على ما أظن. واتضح في تلك العملية الحوارية، أن الموسوي كان، وفي كل خطوة، يكسب احترام أبو ديب، وذلك إلى أن وصل الحوار نهايته.

حيث اعترف الثاني، بأرجحية البياتي للفوز وحيداً بالجائزة. كما أيد أبو ديب، جميع ما ذهب إليه الموسوي، من آراء نقدية إيجابية تماماً حول البياتي، حين أدرج تفاصيل تقييمه لتجربته الشعرية طوال عقود، والتي نهلت من حداثة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب. ومـــن ثم خرجت عنهما، إلى واحـــات تجربة جديدة رسمـــت مفاصـــل شاعريـــة تغـــرد في عوالـــم تميز لا يجارى.

 روحية نوعية

لا شك أن الجميل في هذا الحوار، لم يك هو ذاته فحسب، بل الروحية التي كانت سادت وحكمت تعاطي جميع من في لجنة التحكيم، وبشكل خاص: الموسوي وأبو ديب، اللذان ظهرا في غاية التأدب واللباقة، والأسلوب الحضاري، بينما يتبادلان وجهات النظر الخلافية. وبديا في ذاك الخضم، مفعمين بموجهات أسس الجد والموضوعية، بعيداً عن الإسفاف والتهجم أو المساس بشخص البياتي، أو حتى تجريح أحدهما بالآخر..

وهكذا جافيا الصغائر، فترجما مسلكهما الفكري، وروحية رقيهما العقلي، واقعاً مفعماً بالركائز النقاشية العقلية المنطقية، التي تغتذي بنسيج القناعات والدلالات والإسقاطات. لذا، وحين أدرك كمال أبو ديب، خطأ قراره، القاضي، كما أورد، بالحاجة إلى جعل الجائزة مناصفة، بين البياتي وشاعر آخر، سعياً إلى تأديب البياتي، كما قال، استوعب جيداً، أن جائزة العويس الثقافية، تمنح للمبدعين لتكريمهم، لا لتأديبهم أو الانتقاص من شخصياتهـــم..

وعلى هذا الأساس، انتهت تلك الإشكالية. فأعلنت الأمانة العامـــة للجائزة، فـــوز عبد الوهاب البياتي بجائزة الشعر. وكان من المعتـــاد في تلك المرحلة من برامج الجائزة، أن تنظم المؤسسة، أمسية شعرية للشاعر الفائز، إلى جانب أماس أخرى للفائزين. وهنا، شخصت إشكالية جديدة، لم تكن في حسبان الأمانة العامة .

مبدع لا يتغير

كانت الأمسية في الطابق 18 في فندق هوليداي انترناشيونال في الشارقة، وكلفت الأمانة العامة، الشاعر كريم معتوق، إدارة الجلسة، كما أوكلت إلى الدكتور صلاح نيازي، تقديم ورقة أولية، يتحدث فيها عن تجربة البياتي. وكانت هذه بحد ذاتها، إشكالية لم تدرك كنهها، مبكراً، الأمانة العامة .

كان مساءً مطيراً.. وجلس معتوق بين نيازي والبياتي.. وشرع يقرأ، كعادته، من شعره.. ثم من شعر البياتي.. وعاد، عقبها، ليقرأ نماذج من شعره، وذلك في باب تقديمه للشاعر عبد الوهاب البياتي( الفائز). وبعد أن زاد قليلاً عن الوقت المتاح له، طلب من نيازي أن يتحدث ويقدم ورقته التي كتبها خصيصاً لهذه الندوة. وفي تلك الأثناء، برزت المفاجأة، إذ إن صلاح نيازي، كشف عن موقف ذاتي خاص مع البياتي..

فقدم ورقة، وإن كانت موضوعية في ما طرحته من آراء نقدية، تكشف عن حيثيات علاقة متوترة، بين الشاعر والناقد، وذاك من دون أي علم للأمانة العامة، أو حتى من غير أن يعتذر نيازي عن تقديم الورقة. وبذلك وقع البياتي، بين مطرقة صلاح نيازي وسندان كريم معتوق.

وبناء عليـــه، لم يتردد، حين دعاه معتوق إلى تقديم قراءات من شعره، في الاقتضـــاب إلى أبعـــد الحـــدود. ومن ثم ترك المنصة، متعمداً عدم مصافحة زميليه. وقصدني معاتباً، وأشار إلى موقفه المحرج بين قصائد معتوق وتطرف نيازي في رؤيته النقدية، والتي أفعمت بالصبغة الذاتية.

 حقيقة

لا جدال، أبداً، في أن عبد الوهاب البياتي، إشكالي في حياته وشعره وتصرفاته ونزقه ونرجسيته.. فهو خلطة فريدة لمجموعة من خيوط التميز الإبداعي الذي تصاحبه مواصفات نفسيه وحياتية هي لهذا الشاعر وحده. هكذا هو البياتي، إن نقبله بكل إبداعاته، نحن ملزمون باستيعاب وقبول كافة انعكاساته الأخرى، والتي ربما لا يستطيع هو أيضاً التحكم بها.

انتقل البياتي إلى رحمة ربه، بعد أن أعاد إلى الأذهان، في الأشهر الأخيرة من حياته، حبه الأزلي، الأول، لفرخندا. وذلك مثل ما ظل مرتبطاً، بشكل صوفي، مع صاحبه ابن عربي، والذي خطط، لا بل أنه هاجر، كي ينام إلى جواره في دمشق...

إن للبياتي ألف حكاية وحكاية.. ولا بد أن لدى من عرفه، قصصاً، ثرية متنوعة، عن المواقف التي تنم عن شخصيته: غير المستقرة، القلقة .

عبد الوهاب البيـــاتي مثّل، ويبقــــى، ظاهرة مهمـــة، حيوية ونادرة، في الشعر العربي الحديث. ففي حضرته تتوارد مجاميع الحكايات والطرف والنوادر، بل والإشكـــالات. لكنه يظــــل ذلك الشاعر الخالــــد الذي لا ينضــــب معينه، حتى وإن رحــــل عن هــــذه الدنيا الفانية.

 واحد ووحيد

 تجسدت إشكالية البياتي، الأبرز، في أنه، كان يلغي شعراء العربية، واحداً تلو الآخر. فمع كل ليلة يقيم فيها حفلاً خاصاً، في جلسات صخب اعتادها، يشرع في حذف وتهميش الشعراء الأحياء. ومن ثم يأخذ في إلغاء الشعراء العرب الكلاسيكيين، بالتتالي، إلى أن لا يبقى شاعر في صفحات تاريخ العرب القديم والمعاصر، إلا شاعر واحد وحيد :عبد الوهاب البياتي.

 

Email