أعمال واضحة يجسدها المهمشون والمرضى

الفن الخام.. حين يرفض الإبداع ثوب الـرمزية والمواربة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تحفل حركة الفن التشكيلي العالمي المعاصر، بالعديد من الاتجاهات والتيارات والظواهر الفنيّة التي لم تلقَ الاهتمام اللازم، إذ ظلت على الهامش بعيدة عن الأضواء، رغم أنها ذات قيمة تشكيليّة ودلاليّة مهمة. ومن بينها: (الفن الخام Artbrut) الذي ظهر نحو العام 1945، على يد الفنان الفرنسي جان دوبوفيه، إذ عرّفه بأنه نتاج مجموعة من الناس، لا تملك ثقافة فنيّة، ما يجعل نتاجها، من كل الجوانب، يمثل شخصيات مبدعيه الذين لا يخضعون إلى قواعد الفن المعروفة، ولا إلى أسسه، أو التيارات والنزعات الفنيّة السائدة.

 

 

يجسد الفن الخام، نموذج فن يزاوله، المهمشون اجتماعياً والمتخلفون عقلياً والسجناء والمرضى النفسيون، إضافة إلى غريبي الأطوار والوحدانيين، وجميع الأفراد الذين تحرروا من قيود الثقافة، وما ينتجه هؤلاء من فن، يبقى خارج تصنيفات ميادين الفنون التشكيليّة، ولا يضع في حسابه المتلقي، ولا يحمل أهدافاً وغايات محددة، على العكس من الفن الساذج والبدائي والطفلي، إذ إن لهذه الفنون، أغراضاً وغايات ماديّة ومعنويّة مختلفة.

ويُشترط في منتجيها، وجود موهبة واستعداد كي يؤدونها بشكل صحيح وسليم، في حين أن الفن الخام، يُسهم في إطلاق المواهب والاستعدادات الكامنة في الإنسان العادي، ويقوم بتحريرها في حال كانت مكبوتة، أو متوارية داخله، لأسباب عديدة.

 

محطات وتواريخ

ركز الفنان دوبوفيه، في العام 1945، على البحث عن أعمال الفن الخام في مستشفيات المرضى النفسيين، في كل من سويسرا وفرنسا. ثم جمعها وقدمها للناس، عبر معرض مهم، أقيم في قصر يوليو في مدينة لوزان السويسريّة، عام 1976. وضم المعرض، مجموعة فنيّة بارزة، سرعان ما تنامت ليتجاوز عددها، خمسة عشر ألف عمل فني، ذات تنوع في الصياغة والتقانة والموضوع.

وفي خريف عام 1948، أسست صالة عرض خاصة بالفن الخام، في العاصمة الفرنسية باريس، حملت اسم (رابطة الفن الخام)، أسهم في إنجازها الفنان دوبوفيه ومؤسس الاتجاه السوريالي في الفن والأدب أندريه بريتون. وكذلك الفنانون: جان بولهان، شارل راتون، ميشيل تابييه. وأما القيّم على الأعمال الفنيّة التي ضمتها صالة العرض، فكان الفنان سلافكو كوباك.

وفي نوفمبر من العام 1949، عرضت صالة ريميه دروفين، 200 عمل فني، عائدة إلى ستين فناناً وفنانة. ورافق هذا المعرض، دليل أنيق ومهم، حمل عنوان (الفن الخام أفضل من الفنون الثقافيّة)، وصف فيه دوبوفيه، ماهية الفن الخام وأعمال المعرض: (نقصد بهذه الأعمال، تلك المنفذة من قبل أناس لم تطلهم الثقافة الفنيّة، ما جعلهم يُعبّرون بصدق عن دواخلهم، وليس كالمثقفين المحكومين بمبادئ الفن الكلاسيكي وأسسه، أو بقواعد واتجاهات ونظم، الفن المعاصر).

 

نقاء

يؤكد دوبوفيه، الذي كان في طليعة الذين اهتموا ورعوا الفن الخام، وكذا أحد منتجيه المثابرين، أنه وجماعة هذا الفن، يمارسون من خلاله عملية فنيّة نقية صرفة، وأن ما ينتجونه من فن على هذا الصعيد، يقدم نفسه عبر سيرورة الابتكار، وليس عبر مسلمات الفن ونظمه وقواعده الثابتة.

وفي العام 1951، طاول التفكك مجموعة الفن الخام، وأرسلت أعمالها إلى منزل الرسام ألفونسو أوسوريو، في مدينة (لونغ أيلاند) في الولايات المتحدة الأميركيّة، وبقيت هناك ما يربو على عشر سنوات، من دون أي مسوغ أو مبرر قانوني أو فني، وفي العام 1962 اشترى دوبوفيه، بناءً خاصاً في باريس، بهدف إعادة تأسيس جماعة الفن الخام، بشكل جديد وقوي. وتالياً، إعادة الأعمال الفنيّة المنضوية في هذا الجنس من الفن، الموجودة في الولايات المتحدة الأميركيّة، إلى موطنها الأصلي فرنسا.

وبالتدريج، بدأت الروح تدب في جماعة الفن الخام، وأخذ يزداد عددها، ومن ثم الأعمال الفنيّة التي ينتجونها، إذ وصل عددها إلى نحو ثلاثين ألف عمل في العام 2001، وذلك كله بفضل دوبوفيه الذي يعد الرائد الأول في هذا المجال، المرتبط، أصلاً، باسمه، إذ صار مجرد ذكر هذا الاسم، يستدعي بالضرورة الفن الخام، والعكس صحيح أيضاً. فبمجرد أن نذكر اصطلاح (الفن الساذج)، يستدعى اسم دوبوفيه.

 

إبداع التوازن

نجد أن عملية إنتاج هذا النوع من الفن، ونظراً للبنية الجسديّة الفيزيولوجيّة والسيكولوجيّة لممارسيه، تحقق جملة من الأغراض، لها علاقة مباشرة بحالة هذه البنية، وما تعانيه من أمراض. فهذا الفن يُعوّض المهمشين اجتماعياً، جانباً من إهمال المجتمع لهم، ويجعلهم في دائرة الضوء، الأمر الذي يكشح عن أحاسيسهم الشعور بالغبن، ويُعيدهم إلى ميادين حراك الحياة الاجتماعيّة اليومي، من خلال الحوار الذي يفتحونه عبر فنهم، مع قطاع واسع من الناس.

وكذا قيام المتخلف عقلياً بممارسة هذا الفن، يساعد الأخصائيين والباحثين والأطباء، على إيجاد منصات يمكن الانطلاق منها، لمعالجة جوانب عديدة وخطيرة من أمراضهم، التي ربما لا تشفى تماماً، لكنها تخفف من معاناتهم، وهذا ما ينسحب على المرضى النفسانيين وغريبي الأطوار، حيث يجدون في الفن الذي يجترحونه (أثناء إنجازه وما بعده)، ملاذاً آمناً لأرواحهم، ومتنفساً للكثير من الإحباطات الضاغطة عليها.

وبانكبابهم على مزاولة الفن بأجناسه وتقاناته المختلفة، يتحايل السجناء على فقدانهم حريتهم، وإحساسهم بالحركة البطيئة والقاتلة للوقت في حياتهم المأسورة، إذ يشكّل الفن الذي ينتجونه في هكذا حالة، نوافذ يُطلون من خلالها على نوعٍ من الحرية الخاصة، ويمارسون به وعبره، تجزية سعيدة للوقت. وممارسة الفن الخام، تمنح الوحدانيين أحاسيس عميقة وبهية، جوهرها الانتماء إلى مجتمعاتهم.

 وتخفف من وطأة العزلة والوحدة على أرواحهم، وتفعّل عملية تواصلهم مع الناس، عبر الحوارات المباشرة وغير المباشرة، بينهم وبين قطاع واسع من الناس، والتي ترافق عملية إنتاج الفن وعرضه. كما أن الوقت الذي يمضونه في عملية اجتراح الفن، يؤسس لاستنهاض قنوات اتصال وتواصل، مع الدائرة الأوسع لمجتمعاتهم، الأمر الذي يخلخل أسوار العزلة الداخليّة والخارجيّة، المحيطة بأجسادهم وأرواحهم، فاتحة فيها نوافذ يتواصلون من خلالها مع الآخرين، ما يُوجد لديهم، إحساساً غامراً بسعادة المشاركة معهم، وبالتالي إيجاد مبررات جديدة ودائمة للاستمرار في الحياة وحبها.

Email