هؤلاء كانوا معنا.. أسماء تتحدى النسيان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكمن جوهر العجب، في أن ذاكرة النسيان تبقى تهزم التذكر. وذواكرنا ممسوح منها، إلا ما ندر، تذكر من رحل. لكننا، وفي العموم، متهمون بالنسيان، لا بل ندعي أيضاً، أنه سلاح خطير يمكن توظيفه واستغلاله حسب ما نريد. إلا أن ذلك، جميعه، ومهما كانت السياقات والمبررات، لا يمكن أن يجعلنا نهمل أهمية إدراكنا ضرورات إعادة تذكر بعض من رحل، والتطرق إلى سجاياه وأعماله، أو حتى الإشارة إليه .. فالمثل يقول: "أذكروا محاسن موتاكم...".

 

مثّل المسرحي والروائي الراحل، السوداني يوسف خليل، عنواناً للمبدع المعطاء الذي لا يتوقف، فكان لولباً حيوياً في البيت الثقافي، تحيط به مجموعة شباب نوعية. واستمر ينتقل من مسرح إلى آخر، ومن عرض إلى ندوة، غير عابئ بالمتاعب والجهود الكبيرة. كما انه لم يك صامتاً يحجب ما لديه منه درر، فعقله ولسانه، وكل ما يملك، من معارف، كانت توظف لصالح المسرح والثقافة، معتنياً، على نحو فريد من الجدية والدقة، بتعليم طلبته ومريديه، تقنيات المسرح، وإمدادهم بأدوات ثقافية ومفاهيم فكرية، ذات قيمة عالية.

 

تعرفت شخصياً على يوسف خليل، من خلال عمر غباش وناجي الحاي وجمال مطر، في إطار فريقهم المسرحي، يوم كانوا صبيةً يعشقون هذا الفن. وجسد يوسف بينهم، دور المعلم والمربي والمرشد والمشرف.

كان كاتباً مسرحياً. فأغنانا بكتاباته.. وكان مخرجاً فأمدنا بالكثير من معين علمه الغزير. وإضافة إلى ذلك، كان كاتباً روائياً أنتج روايات عديدة منشورة، وأتوقع أن له باقة إبداعات في الحقل هذا، لم تنشر بعد رحيله.. لا يمكن إلا أن نصفه، فعلياً، بالموسوعة الثقافية، التي اغتذت من علوم الغرب (تعلم في أوروبا)، ثم اختارت أن تزودنا بأدوات الحداثة العلمية.. إنه، وفي النهاية، نموذج العنصر الفاعل في الحياة الثقافية.. فأينما حلّ، كان يسطر قيمة تميزه الإبداعي في أي مساق للمحافل الثقافية: في المسرح كما في الأدب.

أكثر ما شدني في شخص وإبداع يوسف خليل، أسلوبه في سرد ما يريد أن يروي.. فطالما أجاد فن الحكاية، وطالما أبهر من حوله في نمط قصه لما يحكيه من مواقف وقضايا.. ففي ما يعرضه عليك كنت لا تدرك أنك تغوص في عوالم متعة وتشويق، لن تدرك أو تعي الوقت والمحيط معها، لتشعر في الختام، وكأنك قرأت رواية كاملة، من خلال ما يقدمه لك (حكياً ورواية).

يعد يوسف خليل، أحد الروائيين المتميزين في السودان. واشتهر بامتلاكه خصوصية أدبية، سمتها تمكنه من مهارة المزج بين واقع بلده والأساطير الإفريقية وكذا الأحلام. وتفرد بسمة دقة وعمق الغوص في ملامح شخصياته الروائية، العربية السودانية، فكان يسبر أغوارها، كاشفاً عن أصولها وأسماء القبائل التي تنتمي إليها، ذلك حتى وإن كانت تؤمن بالشعوذة والتعاويذ والخرافات.

وكان قد كتب لي يوسف خليل، في إهداء وقعه على نسخة من روايته "نشيج الدخل":

(منذ قديم التاريخ .. هاجرت قبيلة إلى الأدغال من سواد العراق.. وصارت العربية لسان أمنا.. فما أروعها من لغة وما أخصبها من أم .. مع خالص تقديري).

 

رجل متفانٍ في سبيل الإبداع

قليل من المسرحيين يعرف المبدع الراحل عبد الواحد الإمبابي، ولعل الجيل السابق من بين أعضاء مسرح الشارقة الوطني، هم الأكثر معرفة به. لم يك الإمبابي ممثلاً ولا مسرحياً، بل حجة في اللغة العربية وأساليبها.. وكان عضواً فاعلاً في اللجنة الثقافية التي شهد المسرح من خلالها، أنشطة نوعية عديدة. وكان الإمبابي مرشد هذه الأنشطة والموجه للشباب.. وأثمرت تلك الفعاليات، إصدار أول مجلة للمسرح في الخليج: "الرولة".

ولم يشكل الجانب المادي، عائقاً أمام صدور هذه المجلة، إذ تغلب الإمبابي، ومعه محمد عبد الله، على ذلك، من خلال طباعة الونيو التي كانت منتشرة يومها، ولم تكلف مبلغاً مالياً يذكر. ولكنها انقطعت الآن، بعد التقنيات الجديدة في الاستنساخ، إلا أنها تركت، بلا شك، أثراً كبيراً ضمن تاريخ المسرح في الإمارات. وجئت أنا العبد الفقير، بعد الإمبابي في تحمل مسؤولية إصدار "الرولة"، ومن ثم تحويلها إلى مجلة متكاملة في شروطها المهنية، وفي المستوى الثقافي.

لم يعمل الإمبابي في مؤسسة ثقافية محددة، بل كان موظفاً في بلدية الشارقة، وكان لابد لأعضاء المسرح من زيارته في مكتبه، وكأن زيارته جزء من الواجب اليومي، بل إن بعض الأعضاء كانوا يعملون تحت قيادته في البلدية، من أمثال: ماجد بوشليبي، محمد عبد الله.

رحل الإمبابي بهدوء، من دون صخب، حتى إن أحداً، لم يعرف برحيله، إلا بعد إعلان وفاته رسمياً.

 

هوية تشكيلية لن تغيب

حمل الفنان التشكيلي الراحل، السوري عبد اللطيف الصمودي، ثقافة عميقة، كما تميز بفرادة تجربته في المجال. وبرزت لوحاته كعنوان لانتماء واحد وهوية بارزة، لا تحتاج تسمية مباشرة: لوحات الصمودي. وحدث لي، حين زرت حلب.

وبينما كنت أقف عند منطقة الاستقبال في الفندق، أن شدتني من بعيد، لوحتان معلقتان على جدار خاص، فقلت مخاطباً الموظف: إنها أعمال الصمودي. فرد متسائلاً: كيف عرفت هذا؟ أجبت بأن أسلوب الصمودي وألوانه وضربات فرشاته، لا يمكن إلا أن تشير إليه وحده فقط.

كنا، باستمرار، على موعد دائم مع الصمودي، في بيت الفنون التشكيلية في الإمارات، فطالما بقي عنواناً براقاً لحيوية الإبداع ضمن فعاليات الأنشطة والمعارض الفنية، مشاركاً مداخلاً ومنتدياً. كان لا يعرف أن يوقف مشاركاته وحواراته في أي من البرامج. ولم تغب حيويته الممزوجة بالاندفاع والحماس، خلال ذلك.

لكن هذه الشعلة، ويا للحسرة، أطفأتها يد القدر، فجأة. فتلاشى بذلك، وهج فريد، وتوقف قلب طيب كبير، رغم أنه لم يعلن، مرة، عن تعب أو مرض أو إجهاد. قرر الصمودي، أو قرر عنه القدر، مغادرة الدنيا وهو في قمة عطائه وشبابه .. وهكذا رحل ونسيناه.. أو تناسيناه.

كان الصمودي قد تخطى مرحلته الإبداعية الفنية التشكيلية، فبدأ يرسم في عوالم لا تنتمي إلا إلى المستقبل، شأنه شأن مبدعين كثر، تجاوزوا مرحلة إبداعهم وتحدوا أنفسهم. وأذكر في هذا الصدد، طرفة جميلة، حدثت بينه وبين زوجتي، إذ أهدانا، مرة، لوحة جميلة رائعة، تنتمي إلى مساق تجاربه اللونية الأخيرة، غير أن زوجتي اشترطت عليه، بأنها لن تعلقها على الجدار، إلا إذا قدم لها شرحاً حول ما تعنيه. وحينها، ضحك عبد اللطيف، وأجاب:" اعذريني سيدتي.. هي التي تشي بما فيها.. لا أعلم أسرارها أعذريني .. أنا عاجز عن التعبير بدلاً من اللوحة".

 

خارج دائرة الضوء

ينتمي الشاعر الراحل عبد المنعم عواد يوسف، إلى جيل مهم من بين الأدباء العرب، ومنهم: أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، لا بل إنه سبقهم في النشر ضمن مجلة "الآداب"، وهي الشهادة التي كان يحملها الشاعر والأديب، لنشر نتاجه في هذه المجلة الرائدة.

قدم عبد المنعم عواد يوسف، إلى الإمارات، مع البعثات التدريسية الأولى، الوافدة إلى الدولة. وظل فيها طوال أربعين عاماً. ثم عاد إلى مصر، فمكث قليلاً، قبل أن يستقر في رحلة خلوده، إذ لم يعش في موطنه، بعد تقاعده، إلا سنوات قلائل، حتى ودع الدنيا، ذلك بعد أن قضى معظم حياته في الإمارات، وكان دوره في المسرح المدرسي فيها، واضحاً وجلياً، من خلال إشرافه وكتاباته وتوجيهه الطلبة إلى هذا المجال الحيوي والمهم. وكتب للمسرح المدرسي مسرحيات عديدة.

وأما عن دوره في الحياة الأدبية، فتشهد بذلك، الساحات الثقافية، كاشفة دوره الفاعل، إذ طالما تنقل بين أوساط الشعر، وبقي زميلاً للمبدعين الكبار من شعراء الإمارات. كما أصدر الكثير من الدواوين الشعرية والمسرحيات الشعرية. وكان حاضراً في جميع محافل الأدب والمسرح والثقافة في الإمارات.

لم تعرف الأوساط الثقافية المصرية، عبد المنعم عواد يوسف، كما عرفت تجربة دنقل وعبد الصبور وحجازي، ذلك لأنه كان خارج الأقواس واللعبة، وخارج مصر، أو حتى خارج دائرة الضوء، فخسر الكثير من التقييم لتجربته الشعرية، بل فقد هو ذاته، مواقفه الشعرية التي كان ينبغي أن يحل فيها، فظلم نفسه وظلموه وظلمناه، وحين عاد إلى مصر، عاش على الهامش، رغم حضوره في قلب مشهد الفعاليات الثقافية، وكثيراً ما كنت التقي به فيها، إلا أنه لم يك النجم الذي عاد إلى المجرة، في خلالها.

وأهم ما صدر من دواوينه: عناق الشمس، أغنيات طائر غريب، الشيخ نصرالدين، الحب والسلام، للحب أغني، الضياع في المدن المزدحمة، تنويعات على الأوتار الخمسة (بالاشتراك)، هكذا غنى السندباد، بيني وبين البحر، كما يموت الناس مات، المرايا والوجوه، عيون الفجر (للأطفال). كما قدم مسرحيات شعرية للأطفال، صدرت تحت عنوان (الطفل والزهرة).

 

رائد الأدب الإسلامي

يعد الطبيب نجيب الكيلاني، أشهر من كتب في حقل الأدب الإسلامي، إذ ظل حاملاً همه، إلى حين رحيله.

وهو من جيل نجيب محفوظ، ولا يقل عنه مستوى، تجربة وإبداعاً.. ولكنه لم يجد في الواقعية السحرية أسلوباً لكتاباته.. فاجتهد لإيجاد ما سماه الأدب الإسلامي.. وأنتج عشرات الروايات والقصص والكتب، في هذا الاتجاه.

جاء الكيلاني إلى الإمارات، مبكراً جداً. وكان في الأساس، طبيباً متخصصاً في الحميات. وأسهم في تأسيس البنى التحتية الصحية في الدولة، لا كطبيب متخصص فحسب، بل كاستشاري في الصحة وبنيتها. وكان له أثر كبير في الحياة الصحية والتأسيسات الأولية لمعظم المنشآت الصحية. وهكذا، عاش طويلاً في الإمارات، ربما تجاوز في إقامته فيها، فترة العقود الخمسة، إذ عاد في السنوات الأخيرة من حياته، إلى مصر، ولم يطل به الزمن حتى فارق الحياة.

رحل الكيلاني عن الحياة، بهدوء تام، ولكن رحيله من دبي، كان مدوياً، إذ احتفلت به، تكريماً له ولنهاية خدماته، معظم الدوائر الصحية والمؤسسات الثقافية وندوة الثقافة والعلوم، وأيضاً جمعيات النفع العام.. حتى إن الاحتفال بوداعه، دام أكثر من شهرين، احتراماً وتكريماً لدوره وشخصه وجهوده وإخلاصه.

ظلم الدكتور نجيب الكيلاني، في محافل متنوعة، وكان من بين ما لاقاه، الجور الذي وقع بحقه، في ماهية التقييم الأدبي لنتاجه الزاخر. إذ إنه كتب معظم نتاجه في الإمارات، بعيداً عن دائرة الضوء الوهاجة التي كان يحتلها زملاؤه: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، في مصر. وأبى النقد العربي، إلا أن يظلمه، فلم يتناول نتاجه كما ينبغي، أو كما تناول نتاج محفوظ وإدريس وغيرهما.

أصدر الكيلاني روايات عديدة، منها: الطريق الطويل، اليوم الموعود، في الظلام، قاتل حمزة، نور الله، ليل وقضبان، رجال وذئاب، حكاية جاد الله، مواكب الأحرار، عمر يظهر بالقدس، ليالي تركستان، عمالقة الشمال، أميرة الجبل.

وكذلك لديه قصص كثيرة، من بينها: عند الرحيل، موعدنا غداً، العالم الضيق، رجال الله، فارس هوازن، حكايات طبيب، الكابوس. كما أنه قدم مباحث فكرية نوعية، في إطار مؤلفات أخرى، مثل: المجتمع المرضي، الإسلام والقوى المضادة، الطريق إلى اتحاد إسلامي، مدخل إلى الأدب الإسلامي، الإسلامية والمذاهب الأدبية، آفاق الأدب الإسلامي، الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق، تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية، لمحات من حياتي (سيرة ذاتية)، إقبال الشاعر الثائر، شوقي في ركاب الخالدين، في رحاب الطب النبوي.

 

 

Email