لؤي كيالي ..الحزن الجميل لوحات تـعبق بدلالة اللون وروح المعنى

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تفلح صور الحزن الإنساني في مناخات التشكيل العربي، في عكس عمق الألم في وعاء تعبير مؤثر فريد، إلا مع نماذج إبداعات التشكيلي السوري الراحل، لؤي كيالي، الذي استطاع أن يسطر خلال سنوات عمره، القليلة، لوناً بهياً لروح المعنى.

بينما هو يرنو إلى بلوغ الخلود في عوالم اللون والكتلة، مستفيداً من تملكه إمكانات وعي جمالي نافذ، أفلح معه في جعل رسوماته (شجرة، مركب، إنسان، حيوان)، مجسدة وفق عمق زاوية نظر أفقية، تمدنا في قراءتنا الفنية، بقدرة إدراك جوهر مضمون اللوحة، ودلالاتها الكامنة. لنجد ذواتنا متأثرين بها ومتفاعلين معها، بقوة. فتكسبنا بهذا، جرعات عالية من "الجمال الحزين"، كما كان يؤثْر لؤي نفسه، تسميته.

 

كامدٌ ولامع.. ظلٌّ ونور.. حدُّ سكِّين. هكذا هو لؤي كيالي (1934- 1978)، في إبداعاته الفنية التشكيلية.. فطالما كان دائباً على إظهار الوجه في لوحاته، سواء أكان لامرأةٍ أو رجلٍ أو صبي، يتصلَّب مرَّةً ويرِّق أخرى. وربما انه كان يحيلنا إلى رمزية وجود اتصال مضمر في الوجه الإنساني، بين التصلُّب والرقة. ولا نبتعد عن صواب التحليل، حين نرجح أن لؤي، كان يهدف من ذلك، إلى إظهار التأثُّر. إذ طالما بقي يزرع في لوحاته (الحدث الجنيني) الذي تستمر ولادته/نموه، ما استمرَّ نظرنا إليها.

وذلك لتحقيق (البعد الروحي)، وهو بعد خامس. وغير آبه في خضم ذلك، بالمكان أو العمق أو المنظور. فشخصياته التي رسمها على الغالب، رهينة قضاياها الإنسانية، أكثر من ما هي رهينة آلامها/ أحزانها. وهي تذهب إلى أقصى مداها.

 

صدمة وتأثيرات

اختار لؤي كيالي أن لا يرسم انفعالاتٍ عاطفية، أكانت مركَّبة أو مختلطة، بل تابع رسم الألم: الحزن الجميل. وذلك بقصد أن يُحدث لدينا الصدمة/ التأثيرات الإنسانية، فنستيقظ. لأنَّه يعرف كيف يدفع الظلام والنور في صراعهما الأزلي مع بعضهما في لوحاته، فيتزاوجان ويتعانقان ويلتحمان، ليمنحا الصورة عمقاً قوياً يخلع على شخصيات لوحاته حياةً لا عضوية، كون آلامها لا نهائية.

لا نحار أو نتعب في تبين كنه المواجهة والتناقض، في إبداعات لؤي.. لنجد معها أنه يجسد إنساناً لا حيادياً، يجب أن نرى إحساساته البصرية حين لا نستطيع أن نصوِّر إحساساته الحسِّية والحركية.. فلؤي هنا لا يرسم خطوطاً مقطَّعة أو منكسرة أو منحنية، تشير إلى بريق بصرٍ أو أصابع يدٍ متشنِّجة أو امرأةٍ مسترخية على كرسي أو في حالة استلقاء على الأرض أو...أو.

وإنما هو يسألنا عبر ما يصوغ: بماذا نحس أو نشعر.. فاللوحة إما تكون مليئة بالأحاسيس والمشاعر أو لا تكون؟ ثمَّ لماذا لا نفكِّر؟ وبدورنا نسأل: لماذا خط الحزن في لوحاته في صعود؟

مهما حاولنا، لا يمكن أن نلتقط في الوجوه التي رسمها كيالي، تفكيراً إجرامياً. بل نرى وجوهاً متوهجة بحرارة (الفكرة)، ناعمة أو خشنة.. عنيفة أو رقيقة. كما نرى وجوهاً متأمِّلة. ولكن تحت تأثير فكرة ما، حتى لو كان الموت ينتظرها. إنَّما نسأل: لماذا يرسمها لؤي هكذا بكثير من الدهشة وليس وهي في حالة ذهول؟

أظن السبب هو لأنَّ وجوهه ليست متجمِّدة، ولا من ركام ثلجي.. إنَّها وجوهٌ تعبيرية لا تكثيفية، بغاية الموضوعية والجدلية. ومرسومة بخطوط وملامح متباينة وموزونة، وبانفعالات نفسية خاصة، وبضوء وظلٍ متلاحمين. فنراها، رغم قوَّة الحزن، وجوهاً متألقة ومشعَّة ومتلألئة.

 

حدود قصوى

نجد، وبوضوح نادر، أن ألوان لؤي كيالي، الباردة والحارة، إن في لوحات بائعي اليانصيب أو ماسحي الأحذية أو الزهور، أو حتى التي استخدم فيها الفحم/ الظل (الأسود): "في معرضة - في سبيل القضية 1967- أو لوحة - ثمَّ ماذا 1965-)، مدفوعة إلى الحد الأقوى من الامتلاء والإشباع. لدرجة أنَّها تخرج إلى الفضاء الواقعي المحيط بها واقعنا، فتشغلنا. ونلاحظ أنَّ الأصفر بتدرجاته التي يقترب فيها من البرتقالي، استغرق أعماله وكأنَّ عقله في الأصفر.

وهو ما يذكِّرنا بـ (فان جوخ). والأزرق لديه، لون بارد أخف من الأحمر الساخن، مضموم في نقطة واحدة: أزرقه وأحمره يتعانقان - أي بارده وساخنه - فنرى الأحمر أقرب من الأزرق الذي يبدو وكأنَّه انسحب إلى الخلف، مع انَّهما مِنْ وفي مركز ثقلٍ وبعدٍ واحد. لؤي يذهب إلى الأصفر المغمَّس بالأحمر- البرتقالي. وهو، كما ذكرنا لونٌ ساخن. فالأصفر البرتقالي في لوحة أمام باب المقهى "بائع اليانصيب"، يؤثِّر فينا نفسياً، فيبعث الحزن، رغم أنه لونٌ متحرِّك حيوي، بعكس الأزرق الذي في لوحات: بائع الجرائد، الزهور، ماسح الأحذية. وغيرها من الأعمال.

"لون فلسفي"

إن الأسود/ الظل، في أعماله التي نفَّذها بالفحم أو التي رسمها بقلم بالرصاص، يبدو لون روحه التي احتجزها الأبيض الكاذب /الضوء الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وربَّما الفلسفي، خاصة في لوحات معرضيه: "في سبيل القضية 1967" و "لوحة ثمَّ ماذا 1965". إن الأسود عند لؤي كيالي، ليس لون (الشر) أو لون تعطشه للعنف.

. إنَّه لون التمرُّد الذي يريد أن يعيد إلينا الأبيض/النور. فالأسود هنا هو الذي يحتجز الأبيض، وهو الذي ينقلنا من الفضاء الفيزيائي إلى الفضاء الروحي، إلى اللاَّممكن الذي لا سطوة للممكن عليه: السلطة الاجتماعية والسياسية بصفتها سلطة قهرية. لؤي حتى في أعماله التي رسمها بالأزرق والأحمر والأخضر، وإلى آخر الألوان، لا يرسم صورة بالألوان السطحية/ صورة ملوَّنة. حتى الأحمر لديه موسوم بسمات خاصة : فما كلُّ أحمر هو دم..

وما كلُّ أبيض هو حليب.. وما كلُّ أزرق هو سماء أو بحر. إن الألوان عند لؤي ليس لها رموز بقدر ما هي ألوانٌ تمارس وظيفة. تمارس دوراً قد يكون ضارياً. فلو قرأنا لوحة "ثمَّ ماذا"، المليئة بالأسود، فإنَّنا سنرى فيها تراجيديا نفسية عنيفة: وجوه لتسع نساء يلبسن ثياباً سوداء، في مشهد كأنَّه مسرحي.. وهناك طفلان على جانبي اللوحة، أحدهما في يده حمامة بيضاء، بينما أن كل الوجوه في وضعيات حركية:

تنتظر، تتأمِّل، تفكِّر، تستغيث. وتبدو وجوهاً لا تلتفت إلى الوراء، لكنَّها تتحرَّك فلا تظهر ميتة أو ثابتة، بل كأنَّها تصرخ وإن أغلقت أفواهها وشفاهها.. وهو الحدث الدامي، حتى لو لم يكن من دماء في اللوحة. ثمَّ إنَّ لؤي في هذه اللوحة أراد أن يُظهر ويُؤكِّد، أنَّ الوجوه تلك، هي رهينة قضيتها، أكثر من ما هي رهينة آلامها.

وذلك قبل أن تصبح أو تتحوِّل إلى ضحية أو شهيدة. لؤي عندما رسم هذه اللوحة فإنَّما رسمها بتعبيرية واقعية صريحة، مشبعة بعناقيد الحزن، وإن استخدم الظل الأسود في البعد الأوَّل والأصفر البرتقالي في الخلفية. فالتعبيرية تذهب إلى الأبيض/ البياض/النور.

ولكن للؤي في هذه اللوحة، غرض عاطفي: أراد أن يتصارع الأبيض مع الأسود، حتى لا يتحوَّل الأسود/ الظل، إلى امتداد لا نهاية له. إن "ثمَّ ماذا"- ،1965 وإن كانت فضاءاتها شاحبة، يكشف الأبيض/النور، فيها، الحزن الكارثي المرعب والفظيع، ونلمح بجلاء مدى سطوعه في الوجوه.

 

 

نبذة

 

ولد الفنان الراحل لؤي كيالي، في مدينة حلب عام 1934. وانتسب إلى كلية الحقوق بدمشق عام 1954. ثم أوفد ببعثة دراسية إلى أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1957. وحصل على شهادة التخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما - قسم الزخرفة، عام 1961. وعاد إلى سوريا، إذ عيّن مدرِّساً لمادة التربية الفنية في ثانويات دمشق عام 1961. ومن ثم نقل إلى كلية الفنون الجميلة - المعهد العالي في دمشق، لتدريس الرسم والزخرفة، عام 1962.

 

 

 

Email