واثق السامرائي.. سندباد البصرة يصـوغ ألق المسرح في الإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

رسا بوم خشبي على خور دبي، قادماً من البصرة، تحديداً في الـ 22 من إبريل عام 1963. قيل، حينها، إنه يقل شاباً عراقياً مجهول الهوية.. ولم تطل بنا المتاهات حتى علمنا أن القادم ذاك، هو شاب عراقي اسمه واثق السامرائي، والذي ظل يمثل بالنسبة للكثير منا، لغزاً محيراً وجاذباً، رغم تعدد وتنوع، مناسبات وأشكال حديثنا، عنه ومعه.

 

تحمل حكاية واثق السامرائي في طياتها، أسئلة لا تعد أو تحصى، ففي فلكها تدور تساؤلات جمة، تحتاج إجابات ملحة. ومن بينها:

أولاً، لماذا جاء السامرائي في مثل ذلك التوقيت، من منطقة تعيش بوادر نهضة حيوية، إلى أخرى كانت لا تزال، آنها، بعيدة عن الأضواء، إلى حد ما؟ فما الذي دفع السامرائي، آنئذ، يا ترى، إلى الرحيل عن العراق المزدهر.. وماذا عن طبيعة الوضع السياسي في بلاد الرافدين حينذاك؟

ثانياً، ما أسرار هذا الشاب؟ وكيف يمكن أن نحلل تلك الطريقة التي وصل بها، خاصة وأنه شكل، بعد أيام على وصوله، أهم مرحلة متوسطة ناهضة في تاريخ المسرح في الإمارات، إذ انتقل به إلى مطاف تطور نوعي عاش في ظله، فترة ذهبية لا يزال يشار إليها حتى الآن.

 

حيرة وتساؤلات

جميع تلك التساؤلات، تمثل في إجاباتها ووحي تداعيات الأفكار التي تطرحها، نقاط كشف وتعريف مفصليين.. إلا أن المحير، هو كون السامرائي، والذي أفلح بفضل قدراته المتميزة، في صوغ مسار فريد لنماذج نهضة المسرح الإماراتي ورفعته خلال فترة محدودة اتسمت بالإنتاج والاندفاع والحماس، اختار أن يغادر الساحة الفنية والثقافية عموماً، التي كانت مفتوحة أمامه على مصراعيها، ليستقر في مطرح مغاير، أراد معه أن يقبع وحيداً في الظل.

وذلك بينما هو بقي يقيم في مدينة العين في أبوظبي. وأصبح مع الحالة تلك، لا يظهر إلا في مناسبات تلبية دعوة ما، وطبعاً، غالباً ما كان لا يتم ذلك. فغدا ظهوره، بهذا، أمنية وشغفاً ملحين، لدى أهل المسرح، خاصة لمن عرفه من جيله، أو من تعرف عليه لاحقاً.

 

مرحلة مريرة

يشكل واثق السامرائي، قصة جميلة متميزة، لابد من الحديث عنها خارج سياق تداعيات التاريخ. فمنذ وصوله الإمارات، أبى إلا أن يقدم كل ما يملك من طاقات ومعارف وخبرات في حقل «أبو الفنون»، ليفيد بها المسيرة المسرحية والفكرية في الإمارات.

ولكن، تبقى لحكاية قدومه من بلده، في تلك الفترة، سمات خاصة وظروف محددة. إذ كان العراق يعيش أقسى الأوقات وأمرها، منغمساً خلالها، في دوامة صراعاته الحزبية والسلطوية، إثر انقلاب عسكري قاده عبدالسلام عارف ضد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم، والذي كان قد قاد ثورة 14 تموز عام 1958، فأطاح بالحكم الملكي.

وكان عبدالسلام عارف، مساعده وخليفته ونائبه، لكنه سرعان ما اختلف معه، وبدأ صراع مرير، انتهى بانقلاب عسكري قسّم العراق إلى معسكرين متحاربين بشتى أنواع الأسلحة، فمات المئات من العسكريين والمدنيين، وغدت بغداد نصفين: الأول: الرصافة، التي كان يسيطر عليها عبدالكريم قاسم (أصبح مقره ضمنها في وزارة الدفاع)، وبمعيته الأحزاب الوطنية والحزب الشيوعي، إضافة إلى قطعات من الجيش العراقي. الثاني: الكرخ، وتبع لعبدالسلام عارف والأحزاب القومية والناصرية وحزب البعث.

وكان عارف قد أخضع لسيطرته إذاعة وتلفزيون بغداد. استمرت حالة هذه الحرب الأهلية، أكثر من أسبوعين، شهد العراق فيها، أبشع أنواع القتل والتدمير والفتك بكرامات الناس وأعراضهم. ومن ثم انتهت باغتيال عبدالكريم قاسم في محطة الإذاعة، على يد عبدالسلام عارف شخصياً، والذي استدرجه إلى الحوار، ولكنه لم يحاوره، إنما قتله بدم بارد.

وكان تاريخ تلك الحادثة في العام 1963م. وإثر تداعيات سقوط عبدالكريم قاسم وجبهته، وكذا تعرض جميع من ناصروه وأسهموا في حركته وتبنوا توجهاته، للاعتقال والسجن، علاوة على عمليات القتل والتصفية. إذ استمر ذلك إلى غاية العام 1965، حين وقع انقلاب آخر، قاده عبدالسلام عارف نفسه، موجه ضد الأحزاب التي ساعدته في استلام الحكم من رفيق دربه عبدالكريم قاسم. وهكذا، نتبين أنه، وبالضرورة، ربما كان مجيء واثق السامرائي، بالبوم، من العراق إلى دبي، سياسياً في دافعه، ذلك نتيجة الأحداث تلك حينها، وتأثيراتها المباشرة عليه،.

وكذا تعرضه للأخطار.. إذ يحتمل أنه كان من الجبهة التي خسرت المعركة، أي في صف عبدالكريم قاسم. إلا أن هذا بالعموم، ربما لا يهمنا محورياً، في سياق موضوعة بحثنا حول واثق السامرائي، فما تعنينا أكثر، حركته الديناميكية، منذ وصل دبي، حيث اتصل ببعض المقيمين العرب فيها، وجهد في محاولاته المتنوعة، لتتويج اندفاعته العملية، بإقامة مسرح في دبي. ولكنه أحبط، بداية، وتلاشت أحلامه بتأثير من رفضوا الإصغاء إليه.

 

محطة الانطلاق

اختار واثق السامرائي، في يوم 11 مايو عام 1963، الانتقال إلى الشارقة، فاستأجر منزلاً، لقاء عشرين روبية في الشهر الواحد. ومن ثم اكتشف في 16 مايو، مقهى يقع في مقابل منطقة الرولة في الشارقة، تعرف ضمنه على شباب إماراتيين، وفي مقدمهم: محمد صفر وشقيقه عبدالرحمن صفر، واللذان تجاوبوا معه، إلى أبعد الحدود، فكانت انطلاقته الفعلية، من هذا المقهى، الواقع قبالة الرولة.

أخذ الأخوان صفر، ومعهم مجموعة من الشبان، السامرائي، إلى نادي الشعب. وهناك بحث مع المسؤولين، فكرة تأسيس فرقة مسرحية. وبناء عليه، دعاه الشيخ صقر القاسمي، إليه، وأعرب عن دعمه الفكرة، لا بل تبناها وتبرع بكل ما تحتاجه من أموال. وبعد أيام قليلة، ذهب واثق السامرائي، صحبة الشيخ صقر القاسمي، إلى السوق، واشترى ما يحتاجه لبناء المسرح، من أخشاب وستائر ومواد أخرى، إذ دفع الشيخ صقر القاسمي، المبالغ المالية للتكلفة المادية لجميع تلك المشتريات.

واجه واثق السامرائي، مشكلة عدم توافر الأيدي العاملة الحرفية، التي تجهل كيف تبني مسرحاً. ولكنه استطاع أن يتصل ببعض النجارين المصريين العاملين، آنئذ، في شركة «اتحاد المقاولين العرب». فقدموا له المساعدة إذ تبرعوا ببناء المسرح الذي كان يخطط له ويحلم به. ويوضح واثق في حديثه الذي نشر في جريدة الخليج، في 8 يناير عام 1981، أنه في يوم 22 يونيو 1963، استكمل بناء أول عمود للمسرح في الإمارات، في «نادي الشعب الرياضي». بدأ واثق كتابة نصه المسرحي الأول:

«من أجل ولدي»، عقب تلك المرحلة، وشرع إثرها في تدريب الممثلين على النص، وانطلق العرض الأول في الـ 19 من شهر أغسطس عام 1963. وحضره ولي عهد الشارقة حينذاك، صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي. إذ ألقى سموه كلمة شكر، أثنى فيها على جهود أعضاء الفرقة، مبيناً أهمية المسرح وما يحققه من أثر إيجابي نوعي في المجتمع. وواصل فريق العمل المسرحي ذاك، عمله، بقيادة السامرائي، فقدم عملاً آخر، بعنوان» العدالة»، في 23 سبتمبر عام 1963.

 

.. إلى دبي

اشتهر واثق في الأوساط الثقافية في الإمارات، في تلك الأثناء، وبات معروفاً لدى الفعاليات والجهات المتخصصة، بمجملها.. وهكذا زاره، كل من أحمد صالح الخطيب وعبدالرحمن الفارس، وعرضا عليه العمل في دبي، وتشكيل فرقة مسرحية فيها.

وكما يقول واثق، إنهما كانا مبعوثين من قبل المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ مكتوم بن راشد، الذي كان يومها، رئيساً فخرياً لنادي الشباب (كان نادي الشباب يقع قرب سوق الذهب). وبناء على ذلك، شرع واثق في ترتيب وتحضير ما يتطلبه تشكيل فرقته الثانية تلك، في نادي الشباب، بدءاً من الخامس من شهر نوفمبر لعام 1963م.

وكان من بين أعضائها: جمعة غريب، أحمد صالح الخطيب، عبدالله بالخير، أحمد العصيمي، عبدالرحمن الفارسي، ربيع خليفة، سالم حمد، بطي بن بشر. ولم تطل الفترة الزمنية تلك بالسامرائي، حتى بدأ مع هذه الفرقة، بروفات مسرحية جديدة كتبها: (سامحيني)، وذلك تحديداً في التاسع من نوفمبر في العام نفسه. ومن ثم بدأت عروضها في الـ12 من ديسمبر. ولكن هذه الحلقة من ملامح تجربة واثق في دبي، لم تكتمل. إذ سافر، فجأة، إلى قطر، ومكث ثلاثة أشهر هناك، لم يغب خلالها عن المسرح، حيث قدم فيها مسرحية «من أجل ولدي».

ولم تدم أيام واثق في قطر، كثيراً، فسرعان ما حن إلى دبي، وهكذا عاد إليها ليلتصق بفريقه المسرحي عينه. ومن ثم انكب على التمرس والتدريب المكثفين، ضمن بروفات عمل خاصة بمسرحية بعنوان «خالد بن الوليد». وحينها، استأجر فريق العمل، مقراً له، فوق سطح فندق «شط العرب»، أقام ضمنه، أيضاً، مسرحاً خاصاً. وعرضت المسرحية في دبي، وكذلك على مسرح سينما رأس الخيمة، عقبها، حيث حضرها المغفور له الشيخ صقر القاسمي.

 

توقف مفاجئ

فقد واثق السامرائي حماسه المسرحي، على حين غرة، عقب أن أسس شركة مقاولات، وانغمس في أعمالها ومشروعاتها، وذلك إلى حد، أجبرته معه، التخلي عن هوايته ومسرحه، ليتفرغ لمقتضياتها. وبذا خسر المسرح أحد أهم أعمدته، آنها.

ولكن الأمر لم يكن يمكن له أن يتوقف أو يثبت على هذا النحو. وهكذا عاد السامرائي إلى الساحة المسرحية، تحت ضغط جمعة الحلاوي في أبوظبي، ليقدم مع نادي الفلاح الرياضي، مسرحية «طبيب في القرن العشرين»، والتي حضر عرضها، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

تابع واثق السامرائي نشاطه الفني المسرحي، بعدها، بشكل مكثف، في أبوظبي. فقدم مجموعة أعمال كتب هو نصوصها، تتمثل في: (مطوع خميس)، (لو العمة تحب الكنة كان إبليس دخل الجنة)، (مد ريولك على كد لحافك). ولكن أعماله المسرحية توقفت فجأة، في تلك المحطة، بفعل ضعف أو غياب الدعم المادي لفرقته في أبوظبي، آنها، كما يذكر.

إن واثق السامرائي، يجسد، وبحق، منوال حكاية فريدة، وكذا ظاهرة متميزة، لا مفر من العودة إلى عذوبة حبكتها ومفاصلها، بين الحين والآخر، بغرض اكتشاف بعض جوانب تلك التجربة الثرية، إضافة إلى تحليل الأوضاع المحيطة والقائمة يومها في العراق، على الصعيد السياسي، والتي ربما كانت من أهم أسباب هجرة السامرائي من بغداد إلى البصرة، ثم إلى دبي، عبر سفينة بوم..

فتلك لم تكن رحلة ترفيه سياحي، إنما مغامرة كبيرة، دفعها، بلا أدنى شك، شعور أكبر بالخطر، تملك ذاك الشاب، فدفعه إلى خوض غمار تجربة هجرة الوطن، عبر مغامرة بحرية، وكأني به السندباد يقلع من البصرة، مصارعاً أمواج البحر وعواصفه وأخطاره. غاب جيل واثق السامرائي عن الساحة الفنية والفكرية، حالياً، إلا اننا معنيون، بقراءة وتقليب مضمون وتشويق تلك الأيام، لترسيخ مفاهيم عديدة، ربما نكون فقدنا حضورها وأضعنا وحيها ووهجها. أو أننا، وعبر استعادتها في مثل هذا القالب، بمقدورنا توثيق وتثبيت جملة رؤى ومنجزات، سطرها واثق السامرائي.

وجيله من الرواد، في كتاب الإنجاز المسرحي النوعي في الإمارات، إذ شكلوا ظواهر مهمة. ومن هؤلاء: جمعة غريب، جمعة الحلاوي، عبدالله بالخير، عبدالرحمن فارس، ربيع خليفة، سالم حمد، بطي بن بشر. كما لا يفوتنا أن نشير إلى أهمية وقيمة الدور الكبير، لحكام الإمارات، سابقاً وحالياً، في رفد وتقوية مسارات نهوض الحركة المسرحية والثقافية عموماً. إذ لقي واثق بفضل هذه الرؤى، كبير الدعم والتشجيع.

 

 

 

 

 

 

 

حاجة وقيمة

 

غاب جيل واثق السامرائي عن الساحة الفنية والفكرية، حالياً، إلا أننا معنيون، بقراءة وتقليب مضمون وتشويق تلك الأيام، لترسيخ مفاهيم عديدة، ربما نكون فقدنا حضورها وأضعنا وحيها ووهجها. أو أننا، وعبر استعادتها في مثل هذا القالب، بمقدورنا توثيق وتثبيت جملة رؤى ومنجزات، سطرها واثق السامرائي، وجيله من الرواد، في كتاب الإنجاز المسرحي النوعي في الإمارات، إذ شكلوا ظواهر فريدة.

 

 

حكاية وإنجازات

 

يعد واثق السامرائي، قصة جميلة متميزة، لابد من الحديث عنها خارج سياق تداعيات التاريخ. فمنذ وصوله الإمارات، أبى إلا أن يقدم كل ما يملك من طاقات ومعارف وخبرات في حقل «أبو الفنون»، ليفيد بها المسيرة المسرحية والفكرية في الإمارات.

Email