الفنان ديفيد روبرتس

رحلته إلى بلاد الشام وثقت تاريخها البصري

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيد معرض بلاد الشام للفنانين المستشرقين الذي أقيم في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر بمتحف الشارقة للفنون واستمر لمدة شهر، ذكرى أعمال فريدة، إذ ضم 171 لوحة بالطباعة الحجرية لأكثر من 30 فناناً مستشرقا، توجهوا في القرن التاسع عشر إلى كل من فلسطين ولبنان وسوريا والأردن بهدف رسم تلك المناطق أرض العديد من الديانات والحضارات القديمة، ومن أهم الفنانين الذين وثقوا طبوغرافية المنطقة بصورها ديفيد روبرتس.

 

يعتبر الفنان الاسكوتلندي ديفيد روبرتس 1796- 1864 من أبرز الفنانين المستشرقين الذين افتتنوا ببلاد الشام ، والذي تميز بغزارة انتاجه بعد زيارته لها عام 1839، حيث بدأ برسم ما لا يقل عن ثماني لوحات لقمة جبل موسى ودير القديسة كاترين المبني على قمة شاهقة الارتفاع من الصخور، ويليه الفنان هـ بارتليت، الذي حقق حلم روبرتس في زيارة سوريا، والفنان تيرنر، الذي تميز بقدراته في رسم النور والبحر.

ولد دافيد روبرتس في اسكوتلندا عام 1796، واستطاع بعد استقراره في لندن من تعزيز مكانته كرسام ذي سمعة طيبة، وذلك قبل سفره إلى مصر. وقام بعد وصوله إلى بلده من نشر أعماله بالطباعة الحجرية وذلك بالتعاون مع الفنان المختص بهذه الطباعة لويس هيغ، من خلال 6 مجموعات.

والتي ضمت 284 مطبوعة لونت باليد. ضمن الألبومات الثلاث الأولى رسوماته عن مصر، أما الثلاث الباقية فكانت عن الأراضي المقدسة كما كانوا يسمون بلاد الشام. وبيعت المجموعات عن طريق الاشتراكات، وحققت نجاحاً فورياً. وساهم نجاحه في إدخاله إلى الأكاديمية الملكية حيث تابع السفر والرسم حتى وفاته عام 1864.

استطاع الفنان والرسام الكبير ويليام تيرنير إقناع ديفيد روبرتس الشاب بالتخلي عن رسم المناظر الطبيعية للمسرح وتكريس نفسه للفن. وبعد الإعداد لرحلته طيلة فصل الصيف، وسحب كل مدخراته لتأمين احتياجات ونفقات الرحلة، سافر في 31 أغسطس عام 1838، وذلك بعد رحلة المعماري أوين جونس بسنوات معدودة.

كان هدف روبرتس من السفر إلى مصر وبلاد الشام رسم العديد من السكيتشات المسودات لاستخدامها لاحقاً لمواضيع لوحات زيتية ورسوم يتم طباعتها بالليثوغراف أي الطباعة الحجرية ليتم بيعها للعامة. كانت مصر وبلاد الشام غير واضحة الصورة بالنسبة للبريطانيين والأوروبيين في ذاك الزمن. وكان المسافرون والمقتنون ومحبو الأونتيكا يهوون شراء الأعمال المستلهمة من الشرق أو تلك التي تصور المناطق الأثرية أو الدينية.

 

مصر

بدأ روبرتس ، من مصر ليتجه من النوبية إلى سيناء فالأراضي المقدسة ومن ثم الأردن ولبنان، ورسم خلال رحلته التي قاربت من العام عددا كبيرا من الدراسات والرسومات المائية. واستضاف الباشا محمد علي روبرتس خلال عودته عن طريق الاسكندرية في 16 مايو 1839.

يذكر على لسان على الرحالة الأجانب القول التالي، في منطقة الاستراحة المقدسة تلك، يطيب للمريدين التدرج أو التأمل والتجول بأزيائهم الشرقية التي تضيف إلى جمال المشهد. كما يحيط بأطراف صحن الجامع العديد من البيوت الصغيرة للصلاة بعزل. استغرق وصوله إلى الاسكندرية بالسفينة ما يقارب من الشهر.

وفي القاهرة تواصل مع الدبلوماسيين مستعيناً برسائل التوصية التي يحملها للحصول على تصريحات السفر المطلوبة والمأمونة. وبدأ باكتشاف النيل متجهاً قدر ما أمكنه عكس التيار، ومن ثم العودة بإيقاع بطيء ليضيف عدة تفاصيل على رسوماتها التي أنجزها خلالها قبل رحلة الإياب.

ولدى عودته في شهر يناير، استأجر بيتاً في القاهرة لمدة 6 أسابيع، ريثما يعد الترتيبات لبقية الرحلة. وتعرف في تلك الفترة على جون بين وجون كيير لتربط بينهم صداقة وطيدة ويسافروا معاً بقية الرحلة، واستطاعوا إقناعه بإقامة جولة غير مدروسة إلى المنطقة مدينة النبطيين الأثرية بتراء، التي أعيد اكتشافها حديثاً آنذاك. وقرروا عدم انتظار وصول التصاريح التي تسمح لهم بدخول القدس والتي انتظرها روبرتس مدة طويلة بسبب الحجر الصحي الذي فرض على المدينة لانتشار الطاعون فيها.

 

سيناء

وهكذا انطلقت قافلتهم في 6 فبراير عام 1939 متجهين إلى سيناء أولا ليقرروا بعدها الخطوة الثانية. وحرص الثلاثة على ارتداء الزي الشرقي التركي، لتناسبه مع الطقس الحار وكذلك لحماية أنفسهم وتفادي قطاع الطرق. وضمت قافلتهم 4 جمال إلى جانب مستلزمات السفر ومخزون من البندقيات والمسدسات والخناجر لإثارة الرهبة أكثر من استخدامها. كما اتفقوا مع 15 عربيا لمرافقتهم كحراس وكشافين للطريق، ليقودهم الشيخ حسين من قبيلة بني سعيد، لتضم القافلة بالمجمل 18 رجلاً و25 جملاً.

كان هدفهم الأول الوصول إلى دير سانت كاثرين في جبل موسى بمنطقة سيناء. واكتشف روبرتس ومن معه استحالة الوصول إلى الدير بالطريقة التقليدية، حيث اعتمد الرهبان الدخول إليه عبر رفعهم بالحبال إلى أعلى الجبل حيث مبنى الدير، وذلك خوفاً من قطاع الطرق والعصابات. ويصف روبرتس هذه التجربة في مذكراته بقوله، خيم الليل علينا قبل وصولنا الدير. وكان المدخل الوحيد من خلال فتحة في الجدار على ارتفاع 30 قدما.

وبعدها بوابة معدنية منيعة لم يتم فتحها من قبل أحد الرهبان إلا بعد التأكد من هويتنا. وعندها أنزلوا إلينا ضوءاً بحبل مع حزمة عيدان لاحراقها وإنارة طريقنــا. أشعلنـــا العيدان وتـــم سحبنـــا إلى الأعلى بالحبال، واحداً تلو الآخر وأصبنا خلال رحلة الصعـــود بالخدوش والكدمات. وبعد وصولنا أدخلونا في أروقـــة ودهالــيز ليتـــم استقبالنا من قبال كبار الرهبان. كان العشاء رزاً وتمـــراً مجففـــا. ونمت في تلك الليلـــة كما لـــم أنم فــي رحلاتي السابقة.

ومن سيناء تابعــوا رحلتهـــم إلى العقبه فبتراء، ليصلوا في 6 مارس. وكان روبرتس مذهولا بالمدينة النبطية وتحسر على بقائه فيهــا لمدة 5 أيام فقط، وفيها رسم عدداً كبيراً من أعماله التي وثقت تلك الأمكنة قبل تأثرها بالعوامــل الجوية في السنوات التالية.

اتجهت القافلة بعد تحركها شمالاً إلى غزة ويافــا ومنها إلى القدس. لم يكن روبرتس واثقاً من تحقيق حلمه بزيارة تلك المدينة، خاصة وأن الحجر الصحي بسبب وباء الطاعون كان لا يزال قائماً لدى وصولهم أسوارها. خيمت القافلة عند أسوار القدس بعدما استبدلت الجمال بالخيول على أمل رفع الحجر. وأصر على البقاء عسى أن تتحقق أمنيته برسم الأمكنة التي ذكرت في الانجيل.

القدس

ولحسن حظ روبرتس فتحت المدينة أبوابها في صباح اليوم التالي، واستقبل محافظ القدس المسافرين بالترحاب. وقام روبرتس خلال الأسبوعين الأولين برسم عدد كبير من المسودات للمدينة وآثارها، مع رحلات إلى بيت لحم، والبحر الميت ودير القديس سابا. وبلغ عدد الرسومات الخاصة بالطباعة الحجرية عن القدس وأمكنتها المقدسة 20 عملا، وهو أكبر عدد من الرسومات لمكان واحد في مجموعة الأراضي المقدسة.

ويتجلى في أحد رسوماته لكنيسة المهـــد ما قاله في دفتر مذكراته في 6 أبريل، بينما كنت أرسم كنيسة المهد، وصل رجل من القدس يحمل معه النار المقدسة التي يقول الكهنة أنها مــن الجنـــة، وأستقبلـــه جميع العرب المسيحيون بريات الترحاب وفي مقدمتهم الكهنة، أما في رسوماته لكنيسة البشارة في الناصرة، فتبدو المنطقة معزولة باستثناء الكهنة. وفي 15 أبريل عام 1839، غادر روبرتس القدس إلى لبنان محطة رحلته الأخيرة . وخلال سفره وصـــل واديـــاً في الأردن قام برسمه ليتابع باتجاه الساحل.

 

الساحل ولبنان

كانت خطة روبرتس السابقة التوجه إلى دمشق وتدمر، لكنه شعر لدى وصوله إلى بعلبك بالتعب إضافة إلى نقص المؤونة. ووقع صريع المرض، وحينما سمع بتوتر الأوضاع الأهلية في دمشق، قرر قطع برنامج رحلته والعودة. وهكذا ما إن انتهى من رسم بعلبك وآثارها التي أذهلته كما هي آثار مصر، عاد إلى بيروت ومنها عبر البحر إلى مصر. وبعد لقائه بمحمد علي باشا بالاسكندرية، حجز طريق العودة إلى لندن، التي وصلها أخيرا في 21 يوليو بعد غياب ما يقارب العام.

 

الإصدارات

كان روبرتس قد اتفق شفهيا قبل مغادرته انجلترا مع أحد الناشرين بشأن طباعة رسوماته في كتاب، غير أن الناشر بدا غير متحمس بعد عودته، وعليه بحث عن ناشر آخر، واتفق مع إف. جي. مون الذي طبع الكتاب بصورة فاخرة وحجم ضخم حسب طلب الرسام. كمــا تعاون مع الفنان البلجيكــي ورائد الطباعة الحجرية آنذاك لويس هيغ، الذي حفر رسومات روبرتس على الحجر ومن ثم طباعتها.

أصر ديفيد على أن تكون الطباعــة فاخرة واستخدام تقنية الحجر الملون الحديثة آنذاك، وإضافة الألـــوان لاحقا باليد. وافق الناشر مون على طلباته بشرط تأمينه عددا من الاشتراكـــات مع دفعات مقدمة لتغطية النفقات. حقق الكتاب نجاحاً فاق توقعات الفنـــان والناشر، حيث سجلا ما يقارب مـــن 400 اشتراك بدفع مقدم من زبائنهم بما فيهم الملكة فيكتوريــا وقيصر روسيا وعدد من الشخصيات الملكيــة الأوروبية.

Email