تحدث عن تجربته في المنفى وتاريخه مع روافد الترجمة

كاظم جهاد: العرب يستهلكون الأفكار ولا ينتجونها

ت + ت - الحجم الطبيعي

بأعماله المتنوعة يقود الكاتب والشاعر الدكتور كاظم جهاد القارئ العربي، إلى عوالم مختلفة، باعتباره واحدا من أبرز المترجمين العرب، فمرة يفتح عالم دانتي من جديد عبر ترجمته لـ»لكوميديا الإلهية» ومرة أخرى يترجم شعر رامبو، إلى جانب العديد من ترجماته الفلسفية، ودراسته البحثية والنقدية، وكتابته الشعرية، ولكل اتجاه إبداعي أو بحثي من كل هذا، دوافعه وطقوسه عند جهاد الذي كشف عن بعض منها خلال حواره مع «مسارات»، مؤكدا أن انشغالاته بالتعليم والترجمة تأخذ أغلب وقته، لكنه يحاول أن يبتعث شرارة الشعر من جديد، ويعيد جذوته.

 

كيف أثر المنفى على تجربتك الشخصية، خاصة وأنك تعيش في باريس منذ العام 1976 ؟

أنا أكتب الشعر من فترة طويلة وبطبيعة الحال، ومثل أكثر الشعراء الذين عاشوا بعيدا عن أوطانهم، مررت بأطوار عديدة من حيث النمو النفسي والثقافي، والتطور الشعري إذا أمكن القول، وفي المرحلة الأولى كان هناك تعبير شبة خام عن مشاعر أولية يشهدها الفرد، مثل الحنين المباشر والكأبة المعاودة التي تسيطر على الإنسان حين يجد نفسه خارج المشهد الأليف.

وبعد ذلك حصل تطور ونوع من السعي إلى تنقية اللغة الشعرية من المباشرة، ومن العاطفة الفجة، أو الطرية أكثر مما يلزم للتوصل إلى معالجة أكثر داخلية، أو أكثر فلسفية لظاهرة المنفى، وفي أشعاري الأخيرة، ومجموعة "معمار البراءة" هناك قصيدة طويلة تغطي ثلاثين صفحة وتتوزع على ثلاثين مقطعا، حاولت أن أتجاوز فيها التعبير الشعوري عن المنفى إلى محاولة تشكيلية لإعادة المشهد العراقي، عبر إعادة رسم المشهد الأليف الذي وجدت فيه طفلا وصبيا، هي محاولة لالتقاط الأشياء الأولى ضمن علاقة بريئة للكائن الصغير بهذه الأشياء، ونوع من استبطان المشهد الطبيعي والبشري، خارجا من الإسقاطات الطبيعية للمكان.

 

ترجمة الفلسفة:

قدمت ترجمات فلسفية لـ جاك دريدا وجيل دولوز وهذا النوع من الترجمة يتطلب معرفة مختلفة، عن طبيعة الترجمات الأخرى فما الأسس التي استندت إليها في هذا النوع من الترجمات؟

ترجمة الفلسفة ترجمة صعبة، وتتطلب مسؤولية وقضية انتباه دائم إلى عمل المفردات، من حيث شحنتها الفلسفية، ومن حيث أدائها الأسلوبي أو الأدبي، لأن جميع الفلاسفة المعاصرين خصوصا في فرنسا هم في الحقيقة أصحاب أسلوب، وجميع الفلاسفة الكبار في تاريخ الفلسفة كله، سواء تعلق الأمر باليوناني أفلاطون أو بالعربي ابن رشد، كلهم أصحاب أسلوب، خصوصا بالتاريخ المعاصر، لأن مسألة الكتابة بدأت تطرح نفسها بشكل عميق وأساسي، حتى المفكر يجب أن يكون له أسلوب كاتب، ودريدا إلى جانب كونه فيلسوفا، يعتبر من أكبر الكتاب.

والاشتغال عليه تطلب مني نوعا من الصبر في مواجهة العثرات، وعندما ترجمت دريدا كنت قد تجاوزت الثلاثين وحضرت العشرات من دروسه وقرأت له وعنه، ومع ذلك أعتقد لو أعدت طباعة ترجماتي له الآن، سأقوم بفتحات كثيرة لأن المسألة الأساسية في نقل دريدا هي مسألة الوضوح.

وهناك العبارة المعقدة والعبارة الطويلة والمتراكمة، هذه مسألة أولى والمسألة الثانية هي مسألة التراكم الثقافي والمعرفي في الغرب، ودريدا آت من "كانط" وآت من الفكر الشرقي القديم، لا يمكن الإحاطة بها بالضرورة لأن حياة إنسان عمر لا تكفي لهذا كله، لكن يجب الإحاطة به من خلال عناوينه الأساسية، من خلال أفكاره الكبرى وصولا إلى فكر دريدا نفسه، بشكل عام الفلسفة تحتاج إلى عناية وإلى صبر وإلى اطلاع.

كيف تنظر إلى ترجمة العرب للفلسفة منذ القديم إلى الآن؟

ساهم العرب في نقل الفلسفة اليونانية، وأوصلوا الكثير من عناصرها إلى الغرب واحتفظوا بمخطوطاتها وأضافوا لأنفسهم فلسفة، ويعني هذا أنهم لم يكتفوا بنقل الفلسفة اليونانية، بل صنعوا فلسفة كاملة وأساسية، أما العرب المعاصرون قد يكونوا أقل إسهاما في التأسيس الفلسفي، من الشعوب الأوروبية حاليا، نحن في الحقيقة مستهلكوا أفكار لا منتجوا أفكار بالأساس، مع العلم أنه لدينا أفكارنا .

وليس هناك من ثقافة بلا أفكار، لكن يغيب الإنتاج الفكري بمعنى تقديم رؤية للعالم واضحة ودقيقة وممحورة، في إشكالات فلسفية ومطروحة في أسئلة فكرية، فالذي قدمه قدامى العرب يبدو غير واضح في المرحلة الحالية، بينما تراكمت عند الغرب مفاهيم ومصطلحات وأفكار ومدارس، وهذا كله يستدعي الإحاطة.

تأويلات فكرية

قمت بترجمة الكوميديا الإلهية لـ"دانتي" وهي الترجمة الثانية بعد ترجمة الدكتور حسن عثمان، فما الاختلاف بين الترجمتين؟

بداية ترجمة الدكتور حسن عثمان ترجمة مهمة، فقد أمضى عقدين من الزمن في ترجمة عمل "دانتي" ووفق بترجمته في لغة فترته، وظهر الجزءين الأولين "الجحيم والمطهر" في خمسينات القرن الماضي، وبعد ذلك بسنوات ظهر الجزء الثالث المعنون "الفردوس" والذي حصل أن لغة الدكتور عثمان لغة كلاسيكية متبحرة، وكانت مشبعة بالروح القديمة للعبارة العربية.

فهي مفرطة بالكلاسيكية وجميع الأدباء الذين قرؤوها بعد ترجمتي، قالوا هي بالفعل مشبعة بحساسية عربية كلاسيكية، وقد تكون العربية الحالية قد تجاوزتها نوعا ما، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تبدأ دعوته بعاتقة اللغة العربية، أو البيان العربي الذي صاغ به حسن عثمان ترجمته الرائعة لـ"دانتي".

هذا بالنسبة للغة هل هناك فروق أخرى بالنسبة لترجمتك "دانتي"؟

هناك مسألة الإيقاع والإيقاع الشعري، والتي تهمني جدا، يعني ليس اختيار الشاعر لعبارته اختياريا اعتباطيا، فعندما ينشئ الأديب أو الشاعر عبارات موجزة متسارعة ومتلاحقة، فهو يقصد أثرا معينا، على نفسية المتلقي، وعندما يعمل بخلاف ذلك كأن يكتب جملا طويلة ومتشعبة وشبه لا نهائية، فهو يقصد آراء آخرى.

إذا إيقاع العبارة الإبطاء أو السرعة، الإيجاز أو الإطالة، هذا لا يشكل مسائل بلاغية بسيطة، بل يشكل عصب القراءة وجوهر أثر فعل القراءة على المتلقي، فالذي حصل عند عثمان، أنه مزج كل ثلاثة أبيات قصيرة، في عبارة طويلة واحدة.

وكنت قد تكلمت عن ترجمة عثمان بشكل إيجابي جدا، وأظهرت الفوارق، وكتبت مقدمة طويلة تقع في 136 صفحة لترجمته أي المقدمة تشكل كتابا، وتوقفت عنده بإعجاب ولكن أيضا باختلاف.

تحدثت عن بعد تأويلي كان واحدا من أسباب ترجمتك "الكوميديا الإلهية" فكيف يمكن تفسيره؟

بالفعل هناك بعد يتعلق بتلقي العمل وتناوله، وهو البعد التأويلي، وهو منذ خمسينات القرن الماضي إلى الآن أي ما يقارب من ستين سنة، صدرت تأويلات جديدة وأعمال فكرية وفلسفية، وتاريخية قدمت لتجربة "دانتي" إضاءات كثيرة، لم تكن موجودة في زمن الدكتور حسن عثمان، وكان يجب الإفادة منها، وجاءت ترجمتي مدعومة بمقدمة طويلة تكاد تكون كتابا.

وبمئات من الحواشي استعرتها من مترجمة "الكوميديا الإلهية" الشاعرة الفرنسية جاكلين ريسيه"، والتي وضعت أحدث ترجمة لـ"دانتي" لأن هناك ما يقارب من عشر ترجمات لـ"دانتي" بالفرنسية، وهو ما يعني أن تعدد الترجمات ظاهرة صحية.

 

تنوع

أصدرت كتبا باللغة الفرنسية وترجمت إلى العربية، فمتى تكتب بالفرنسية؟

لم أضع كتبا أدبية بالفرنسية أي لم أكتب قصائد ولا روايات بالفرنسية، إنما كتبت أبحاثا، باعتبار أني مقيم في فرنسا لأكثر من ثلاثة عقود، وباعتبار أني أعمل هناك في ترجمة الأدب العربي القديم وشعرية الترجمة، وكان يجب أن أكتب بالفرنسية، فهناك أطروحات لا تقبل إلا بالفرنسية، والأستاذ عندما يعين في جامعة أوروبية لا يكتفى منه بالتعليم، بل ينبغي أن يكتب أيضا، فالأستاذ لا يسمى أستاذا إلا عندما يكون باحثا.

والسبب الأهم الرغبة، وهي رغبتي بتعليم الثقافة العربية ومحاولة نشرها في العالم، ومحاولة تسليط نظرة جديدة بقدر الإمكان على تطور الثقافة العربية لهذا السبب وضعت خمسة كتب فكرية أو نقدية أو تحليلية، فهي دراسات تحدثت عن الرواية العربية، وعن الشعر العربي الحديث من السياب إلى اليوم، وتحدثت عن الشعر العربي القديم.

كما قدمت قراءات لأدب المتصوفة عند ابن عربي وعند التوحيدي وآخرين، والكتاب الوحيد الذي ترجم لي إلى العربية وهو دراسة ضخمة وضعتها بعد أطروحة الدكتوراه، فجاءت تطويراً للأطروحة في شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب.

نشرت العديد من الدراسات عن الشاعر الراحل محمود درويش، فهل تفكر مستقبلا أن تصدر كتابا تجمع فيه كل دراستك عن درويش؟

وضعت عن محمود درويش دراسات بالعربية والفرنسية، وفي مجلة "الكرمل" التي أسسها الفقيد درويش وأشرف عليها طلية عشرين سنة، نشرت في عددها الأخير الذي صدر بعد وفاته بشهور، وأشرف عليها المفكر الفلسطيني حسن خضر والذي كان آخر سكرتير للمجلة، نشرت ما يزيد على ثلاثين صفحة في محاولة لرد الاعتبار لقصائد محمود درويش الأولى والسابقة، لخروجه من فلسطين.

كما وضعت عنه دراسات عديدة بالفرنسية وبالمناسبة في العام الماضي وفي العام الحالي كان الدرس الأساسي الحديث للمتسابقين على شهادة الأستاذية بالعربية في فرنسا والتي تدعى شهادة التدريس تنصب على أشعار درويش الأخيرة، وخصوصا "كزهر اللوز أو أبعد" وأنا من يعلم هذه المادة في جامعة السوربون إلى جانب صديق لبناني هو الدكتور صبحي البستاني.

 

انطباعات خاصة

وبحكم الصداقة مع درويش كوني اشتغلت إلى جانبه طيلة خمسة عشر عاما في مجلة الكرمل، وبحكم المواكبة الطويلة لأعماله تشكلت لدي بالفعل انطباعات خاصة لتطور شعرية درويش، وبرأيي من أكثر الشعراء العرب نشاطا فكريا.

وأكثرهم تحولا في كل مجموعة يصدرها هناك نبرة جديدة أو نمط جديد، لكن هذه الاستنتاجات عبرت عنها في مقالات متناثرة متعددة، أتردد في جمعها في كتاب لأنها تبدو شديدة التباين والمراوحة، بعضها يقع في خمس صفحات وبعضها يقع في خمسين صفحة، وأعتقد أن هذا يحتاج إلى تجميع وإلى إعادة معالجة ولدي رغبة أن أجمع هذه الكتابات وأضعها في صياغة موحدة.

متى تكتب الشعر؟

أنا مقل في كتابة الشعر، لكثرة انشغالاتي الأخرى، مثل التعليم والترجمة، وأحاول أن أبتعث شرارة الشعر، أو جمرة الشعر، لأنها مسألة حساسة جدا فالشعر من الفنون النادرة التي لا يتحرك إليها المرء بقرار، فالشاعر لا يقدر أن يقول أني الآن أريد أن أكتب قصيدة. فهناك مسألة تشرب.

ويحاط من يكتب القصيدة بجو شعري، ويريد أن يدخل نفسه بأجواء وإيقاعات شعرية ويقرأ الكثير من الشعر، وأن ينظر إلى العالم بعين شاعرة، إذا هي مسألة استعداد داخلي ويتعلق بمسألة تأسيس علاقة مختلفة مع العالم.

 

 

 

Email