الثمانينات تأثرت بالمتغيرات ولامس أدب التسعينات الواقع

المشهد الروائي في الإمارات.. مـــــــــــــســار التجارب السردية البكر

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرفت الرواية الإماراتية، شأنها في ذلك كشأن الرواية في الخليج عموماً، تغيرات عدة في مسار نشأتها، حيث لم تستطع كجنس أدبي تشكيل حضور أمام حركة الشعر، كما عاشت على هامش قريب من القصة القصيرة، فالرواية في الخليج، وكذلك المسرح وفنون القص لم تدخل إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، بعد اكتشاف النفط وتأسيس الدول الحديثة، إثر خروجها من الهيمنة الاستعمارية البريطانية التي كانت أهم أسباب عزل هذه المناطق عن بقية امتداداتها الطبيعية، الجغرافية، والتاريخية، وجذورها المتعددة في الارتباطات المصيرية الأخرى.

فعلى المستوى الخليجي، لعلنا هنا نذكر أن أول روائية سعودية أصدرت رواية مطبوعة بعنوان "بريق عينيك" هي سميرة خاشقجي عام 1963، واستمرت في الإصدار حتى عام 1973 بإصدار روايتها الموسومة "ذكريات دامعة" والتي سببت لها إشكالات اجتماعية عديدة أدت إلى قمعها وإسكاتها وإعادتها إلى حوش الدار، بعد أن حكم عليها بالويل والثبور على حد قول الدكتور سمر روحي الفيصل.

 

بصمات التجربة

ورغم أن التجربة الخليجية أيضاً حديثة في مولدها إلا أن الصورة التي ظهرت بها بين التجارب العربية الأخرى أظهرت عدداً من الروائيين تركوا بصماتهم في فن الرواية على مستوى الوطن العربي، وقد جاءت هذه الإفرازات الروائية لا نتيجة ترف أو تقليد إنما جاءت نتيجة الحاجة المجتمعية إثر الطفرة الاقتصادية التي حدثت في الخليج بشكل متعاقب على دوله، واختلاف وسائل الإنتاج.

 وقد جاءت تجربة الكتابة الروائية في دول الخليج لتكون إضافة نوعية في التجربة العربية، بأساليبها ومضامينها. لقد ظهرت أسماء عديدة يشار إليها وتمتلك تجربة غنية أمثال عبد الرحمن منيف، تركي الحمد، عبد العزيز مشري، رجاء عالم، فهد إسماعيل فهد، فوزية رشيد، د.غازي القصيبي، أمين صالح، عبده خال، علي أبو الريش، ليلى العثمان، عبد الله خليفة.

 

الرواية في الإمارات

لم تستطع الرواية كجنس أدبي من تشكيل حضور متميز أمام حركة الشعر في الخليج عموماً، والإمارات بشكل خاص، كما عاشت الرواية على هامش قريب من القصة القصيرة، التي سبقت ظهور الرواية، ونمت، وتعددت أصواتها ونتاجها حتى استطاعت أن تحتل مكاناً موازياً لحركة الشعر المعاصر.

إضافة إلى أنها ظلت تسير في الظل من نمو القص، فهي أيضاً تأخرت في الظهور، وفي تعدد الأصوات، وظلت تعيش محدوديتها، بل جاء بعض النتاج الروائي من باب التجريب لبعض الشعراء وكتاب القصة، وأحياناً لهواة الكتابة ولم يتركز ككتاب للرواية غير مجموعة صغيرة العدد نستطيع مراجعتها في ملحق الببلوغرافيا المرفق مع هذه الورقة.

وجميع الدراسات أشارت إلى أن "شاهندة" هي الرواية الرائدة في دولة الإمارات وهي يتيمة راشد عبد الله الذي شغل كل حياته في العمل السياسي الرسمي للدولة كوزير لخارجيتها، وظلت روايته الشاهد الوحيد على مبادرته، التي نشرت بعد قيام دولة الاتحاد، بمعنى أنه كتبها قبل عام 1971 أو خلاله، وفي عام 1974 كتب محمد غباش روايته الأولى ولكنه أيضاً لم ينشرها وكانت تحمل التسلسل الثاني على صعيد الرواية في الإمارات، ثم جاءت محاولات علي أبو الريش، ومحمد علي راشد وآخرين ـ كما سنأتي على ذكرهم ـ إلا أن راشد عبد الله يظل هو الذي رمى أول حجر في البحر، وقد عقدت له الريادة على الرغم من أن العمل الدبلوماسي قد سرقه من الساحة الأدبية.

 

مؤشرات مهمة

في الإمارات بلغ عدد الكتاب الذين أصدروا رواية على الأقل 24 كاتباً وكاتبة، وبلغ عدد الروايات حتى الآن حوالي (55) رواية وسجل علي أبو الريش حصة الأسد في هذه الإصدارات حيث بلغت إصداراته 13 رواية ومجموعة قصصية ونصاً شعرياً ومسرحيتين، أما عدد الروائيات فلم يزد على 9 كاتبات ولم تزد أعمالهن على 15 رواية.

وأمام هذا الرصد الببلوغرافي يجد الباحث نفسه أمام تجربة جديدة لم تستكمل أبعادها وإن فرزت بعض التميز لبعض الكتاب عبر هذا التراكم الكمي المطلوب في مثل هذا اللون الأدبي الذي تتعدد أساليبه وفنياته وأبعاده. وهذا ما يضطرنا لطرح أسئلة متعددة أهمها..

أين موقع هذه التجربة بين التجارب العربية التي سبقتها بما في ذلك تجربة الكويت والمملكة العربية السعودية التي بلا شك قد حققت إنجازات عديدة بعضها ليس نسبياً، فترى هل هذه التجربة قد خرجت من مراحلها الجنينية، أو هل هي امتداد لمرحلة تجريب أو مخاض؟

ما هي العوامل الأساسية التي أدت إلى اختفاء التجربة الروائية طيلة هذه السنين وظهورها بحكم التطور الاجتماعي، وتطور عناصر الإنتاج، ودخول رأس المال في الحياة الاقتصادية، ونمو المدن بما يصبح الحاجة إلى الرواية أمراً مهماً جداً، مما يعني علاقة الواقع الجدلية بالرواية، وهي علاقة مباشرة بلا شك تحكمها قوانين عديدة منها لغة الرواية بعيداً عن قوانين اللغة المباشرة أو مصطلحاتها، كذلك علاقة الرواية بالمستجدات على أرض الواقع، ومدى ظهور الفن وغلبته على المظاهر الأخرى.

مفارقات ومقاربات

بلغ عدد من جرّب كتابة الرواية في الإمارات 24 كاتباً وكاتبة، أما الإصدارات نفسها فقد بلغت في الإمارات حتى منتصف 2012 (55 نصاً روائياً مطبوعاً)، أما ما يجمع كل هؤلاء الكتاب في التجربة المشتركة، هو الهم اليومي في دول الخليج، أي الرواية الاجتماعية التي أشرنا إلى أسباب ظهورها عبر التحولات التي حدثت في المنطقة وانتقالها من عصر رعوي قبلي إلى عصر الدولة الحديثة، ومن بدائية الحياة إلى أعلى وسائل التكنولوجيا.

مما يجعلنا أمام شخصيات خليجية تظهر أول مرة في الكتابات الروائية العربية والتي تشكل المرأة والرجل العنصرين الأساسيين إلى جانب الحياة الزوجية على ضوء المستجدات والمهن القديمة وصراعها مع الجديد الذي أهمل وألغى كل المهن المعروفة تقريباً في المنطقة ليحل محلها مهناً جديدة، بمعنى أن تبدل وسائل الانتاج والتطور التقني الكبير جعلنا أمام ضرورة إفراز تجربة أدبية جديدة تتناسب مع حجم التطور والتسارع في ثورات اقتصادية عمرانية وحياتية متسارعة قد لا يستطيع المبدع من اللحاق بها.

وقد رصدنا أيضاً ظهور الرواية التاريخية التي هي الأخرى تحاول إظهار صورة الشخصية الخليجية عبر أبعادها التاريخية وصراعاتها المرحلية السابقة في البحث عن جذور للشخصية المعاصرة عبر تراكمات الماضي وصراعاته وقواه الخارجية.

 

محاولات جادة

إن المشهد الروائي في الإمارات يؤشر لمحاولات جادة ودؤوبة لإيجاد مكان متميز بين أجناس الأدب الأخرى التي توارثت المنطقة بعضها مثل الشعر في شقيه النبطي والفصحى والقص الذي دخل بقوة وبحضور متميز منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، وتعدد أصوات السرد القصصي بشكل ملحوظ حتى وجدت القصة لها مكاناً مجاوراً للمسرح الجديد أيضاً الذي نما وتطور على عدة أصعدة في التمثيل والتقنيات مثلما في الكتابة والمهرجانات والمنتديات، إلا أن الرواية وقد دخلت بخجل شديد في الإمارات عبر شاهندة تجربة يتيمة لراشد عبد الله وتجربة تأخر نشرها لمحمد عبيد غباش "دائماً يحدث في الليل".

وثمة ظاهرة تتحدد في انتقال أدباء عرفوا بانتمائهم لأجناس أدبية معينة إلى جنس الرواية في محاولة للتطور الذاتي أو للتجريب، أو لإثبات القدرات الذاتية، أو لأسباب أخرى تتعلق بالمنتج أصلاً. أو كما أشيع في الدراسات التي أكدت أننا في عصر الرواية، لذا فلا بد من موالية الإشاعة بالدخول في عالم الرواية لإثبات الذات.

فالقائمة تطول نسبياً في هذه التحولات، أمثال: الشاعرة والتشكيلية ميسون صقر القاسمي، القاص والصحفي ناصر الظاهري، الشاعر والقاص ناصر جبران، الشاعر د.مانع سعيد العتيبة، الشاعر كريم معتوق، الباحث والمسرحي الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الشاعر ثاني السويدي، القاصة والكاتبة المسرحية باسمة يونس، القاصة أسماء الزرعوني.

 

تجربة أبوالريش

أما الصحافي علي أبو الريش فقد بدأ قاصاً وتحول إلى روائي ثم إلى كاتب مسرحي ولكنه ظل هو الروائي الأول في الإمارات من حيث عدد إصداراته وجدية تجربته ومحاولاته المستمرة في استثمار التطور الفني لرواياته، وهو بذلك نستطيع أن نعتبره هو الذي يحمل هماً روائياً ومنظوراً ضمن مشروعه في تحقيق النقلة الفنية الروائية، ولعلنا نستطيع أيضاً أن نصنفه ضمن قائمة الروائيين في منطقة الخليج، بل لعله من بين المهمين على مستوى الإمارات والخليج أيضاً، فهو نافذة مفتوحة على مصراعيها على الحياة العامة، والتحولات التي واجهت الإنسان في وطنه الإمارات على طرفي البيئة المحلية بين البحر والبر.

ولعلنا نستفيد في هذا الانعكاس من علي أبو الريش ذاته وهو يصف ارتباطاته المدينية وأثرها في تجربته الكتابية "إنني لا أحقد على المدينة فأنا أعيش فيما يشبه المدينة، لكنني لم أشعر أنها الملهمة في الكتابة فهذه التي يطلق عليها جزافاً بالمدينة، لم تتكون بعد ولم تخرج من القالب، الأسمنتي الفج، ولم تستعد بعد لتمنحني حقي في الارتباط بأشكالها المستقيمة على الأرض كشواهد القبور ولا تزال الرواية عندي قريبة من الروح بعيدة عن المنطقة المحايدة من الفكر، ولا تزال الرواية تفتش عن سر التفاصيل في أسطورة قرية نشأت هنا وتطورت، وغيروا اسمها ظلماً وزوراً فقالوا عنها مدينة".

إن هذه المواجهة التي يضع أحد أعمدة الكتابة الروائية في الإمارات نفسه أمامها هي في الواقع مواجهة مستمرة بين المنتج الإبداعي وبين كل محاولات محو الصورة المتبقية من الحياة والمدن التي اندثر معظمها أو جميعها تقريباً، إلا بعض الشواهد التي لا تقول أكثر من أن في هذا المكان كان شيء ما، وهذا أيضاً ما أكده جابرعصفور في بحثه عن زمن الرواية إذ يقول "إن الرواية العربية هي ملحمة الطبقة الوسطى، لكن في البحث عن هوية لها، داخل مجتمع ينقسم على نفسه، فيتميز من حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله بالقدر الذي تمزق به هوية هذا المجتمع بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثالي في عهد ذهبي للماضي، وحضارة الآخر الأجنبي الذي يشده إلى حلم مثالي مناقض في وعد المستقبل".

 

بين التاريخي والاجتماعي

اكتشف النفط في الإمارات قبل ظهور الدولة الحديثة، وكانت تلك الفترة تعتبر مخاضاً على كل الأصعدة للولادات التي حدثت لاحقاً كان في مقدمتها تأسيس الدولة الحديثة في الثاني من ديسمبر 1971، ومع ظهورها تفجرت الحياة الجديدة، أو بالأحرى بدأت تتفجر ليتزامن معها ظهور أجناس أدبية وفنية غير تلك الأجناس التقليدية التي كانت تتفاوت ما بين النبطي، والفصيح في الشعر والحكايات والسِير والخراريف كبديل للسرد الفني الذي سرعان ما ظهر في القصة القصيرة مع شيخة الناخي وعبد الله صقر، ومن ثم جيل من الشباب أمثال عبد الحميد أحمد، وسلمى مطر سيف، وعلي الشرهان الذين طرزوا المشهد السردي بأسمائهم أما راشد عبد الله فضل منفرداً بتجربته الأولى والأخيرة بروايته "شاهندة" 1971.

 

أصوات جديدة

ورغم أنني لا أريد أن أعتمد على تقسيمات هندسية بالنسبة للسنوات وما ينجز خلالها من عمل روائي، إلا أنني مجازاً أذهب إلى بدايات الثمانينات، حيث شهدت الساحة أصواتاً جديدة ومحاولات جادة ساهمت في إثراء المشهد الروائي امتدت حتى الآن، ولعل علي أبو الريش أهم هذه الأصوات التي ارتبط ظهورها في تلك الفترة بإصداره روايته الأولى "الاعتراف" عام 1982، وفي نفس الوقت تزامن ظهور كاتب آخر هو علي محمد راشد في روايته "جروح على جدار الزمن"، ثم تتبارى الإصدارات بينهما خلال عقد من الزمن، حيث صدرت في العام 1982"الاعتراف" لعلي أبو الريش، وجروح على جدار الزمن لعلي محمد راشد، وفي 1984 السيف والزهرة لعلي ابو الريش، وفي 1986 عندما تستيقظ الأشجان لعلي محمد راشد، وفي 1988 ساحل الأبطال لعلي محمد راشد.

هذه الروايات بمجموعها روايات كانت تحمل في طياتها روحاً جديدة في الكتابة، ومضامين تتقارب مع واقع الحياة التي بدأت تفرز أشكالها على الأرض بسلسلة من المتغيرات الحادة والسريعة على كافة الأصعدة لتتحول المنطقة إلى بقعة حية، تتسارع بها الإنجازات على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية، وتشهد نهضة جديدة على مستوى الإنتاج الإبداعي والاندماج في النسيج الإبداعي العربي.

وقد كان فارسا هذه الفترة هما علي أبو الريش وعلي محمد راشد الذي سرقته الدبلوماسية ليغيب صوته الروائي، في السنوات اللاحقة في حين يظل علي أبو الريش هو الوحيد تقريباً الذي سعى إلى تطوير أدواته وفنياته ليحتل الصدارة بين روائيي الإمارات في العددية والمضامين والتطور التقني للكتابة.

 

تاريخ التحولات

وإذا كانت الثمانينات قد تأثرت بالمتغيرات والتحولات التي طرأت على المنطقة وانعكست في كتابات هذه الفترة، إلا أن التسعينات في القرن الماضي قد شهدت ظاهرة الرواية التاريخية التي بدأها علي محمد راشد في ساحل الأبطال عام 1988، ثم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بالروايات، مثل الشيخ الأبيض 1996، والأمير الثائر 1998، والحقد الدفين 2004.

والشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ليس جديداً أو طارئاً على الأدب، فهو إلى جانب كونه عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات حاكم الشارقة، فهو أيضاً أستاذ جامعي متخصص بالتاريخ الحديث من جامعات لندن، وهو كاتب مسرحي أيضاً له إسهامات في المسرح في الإمارات، ولعله هو أول من كتب نصاً مسرحياً مُثِّل على الخشبة بعنوان "نهاية صهيون عام 1958) ، في تاريخ المسرح في دولة الإمارات، وإلى جانب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي برز روائي آخر في نفس الفترة متزامناً ومكملاً للعقد التسعيني، هو الكاتب منصور عبد الرحمن بروايته الموسومة "ابن مولاي السلطان 1997"، ثم في مسرحيته الثانية المعنونة "الرجل الذي اشترى اسمه 2000".

سفر ممتد

وحتى أعوام التسعينات فالمشهد الروائي يتعثر في تراكماته الكمية على الأقل وأن الأسماء قليلة والنتاج محدود ومتباعد فظل انعكاس هذه الحالة ملازماً للمشهد الروائي كما سنرى من خلال هذا السفر الممتد حتى عام منتصف 2012، وهذا ما يجعل التوصيفات محدودة بحدود المنتج ولا تتيح للراصد أن يؤشر مدى التطور الفكري ـ الموضوعي ـ الفني في تجارب غير مكتملة نسبياً ومتقطعة ومتباعدة، وعلى سبيل المثال فإن الروايات التأسيسية الأولى ظلت في تكوين أسئلتها الجوهرية انعكاساً للحرث العميق لكل البنى في المنطقة بما في ذلك البيئة ذاتها، والنسيج الاجتماعي.

وظلت تتراوح هذه الرؤى بين الالتصاق بالتراث، دون أن نقترب من أسئلة الدهشة، أو الرفض أو حتى القبول لكل تلك المتغيرات الجذرية ما عدا علي محمد راشد في ساحة الأبطال الذي ذهب بعيداً وقليلاً لفترة سابقة لم نستطع أن نسميه "نشوء الدولة" إلا أن فترة التسعينات نجد فيها أن الرواية التاريخية التي أنتجت في هذا العقد قد سافرت بعيداً في عمق التاريخ خاصة في تجربة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في روايتيه "الشيخ الأبيض" و"الأمير الثائر".

 

أسئلة متجددة

إذن فالمشهد الروائي حتى التسعينات ظل بعيداً عن طرح أسئلته التي ينبغي أن تتوالد مع كل ما تعرضت إليه المنطقة من تحولات جذرية طالت بنى كثيرة بما في ذلك بنية التربية والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، ولكن المؤشر ظل دون أن يفيد بأن الأسئلة حتى العقد التاسع من القرن الماضي قد طرحت بشكل واضح إلا ما ندر بما سنتعرض له لاحقاً، ونستثني من ذلك القصة القصيرة كنوع من أنواع السرد قد سبقت الرواية في طرح أسئلتها الملحة ابتداءً من الكتابات الجنينية التي تطورت مع عبد الحميد أحمد، ومريم جمعة فرج، وسلمى مطر سيف، ومحمد المر ومن ثم مع ناصر جبران، وناصر الظاهري، وسعاد العريمي، حتى احتلت القصة القصيرة مكاناً مهماً في التجربة السردية في دولة الإمارات.

 

البعد القومي

إذن فإن اتجاهات الرواية التاريخية كانت من أهم الإفرازات الطبيعية التي صاحبت المشهد الروائي في الإمارات خاصة ونحن إزاء عدة عوامل لبروز هذا الاتجاه لعل من بين أهمها: انتشار الوعي القومي الوطني الذي يمتاز به المجتمع الإماراتي عموماً، والذي انعكس في كتابات عدة أدبية، في القصة والمسرحية والرواية على مدى مسيرة الدولة من قبل تأسيسها وحتى الآن متأثرة بالمد القومي الذي كان مهيمناً على العقل العربي خلال القرن المنصرم.

ونجد ذلك البعد ليس في كتابات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، بل أيضاً منصور عبد الرحمن في روايته "ابن مولاي السلطان" الذي يجمع فيها بين التأثير البيئي للمنطقة إلى جانب التأثير الاقتصادي والاجتماعي مع التأكيد على الحدث التاريخي الذي يدور حول أحد السلاطين الضعاف، والذي يصفه الكاتب بظلمه على الرغم من ضعف شخصيته ووقوعه أسيراً بجمال امرأة أخرى ليتنازل بالحكم لولده أحمد الذي يزيد إلى ضعف أبيه قسوة جديدة تضاف إلى ما كانت عليه الحالة للناس.

 

الرواية التاريخية

نشير في هذا السياق عن تجربة كتابة الرواية التاريخية إلى أن معظم التجارب قد جمعت ما بين فن الرواية ونصوص التاريخ وهو أسلوب قديم قد سلكه الكثيرون من الروائيين في التجربة العربية والأجنبية أيضاً وارتكزت الكثير من الدراسات حول هذه النقطة على وجه الخصوص، والجمع بين حقائق التاريخ وفن الرواية وخلق أجواء فنية ليس انتقاصاً من النص الروائي إنما الضرورات هي التي تدفع الروائي للجمع بين الضدين: العلم، والفن في بوتقة واحدة تعتمد على الروائي في إمكانات دمج كل العناصر.

إلا أن بعض الكتاب يطغى التاريخ منها على المتخيل الفني المساعد لإظهار الأحداث في سرد روائي، أو العكس وارد أيضاً، لذا نجد أن علي محمد راشد لم يقدم لروايته ساحل الأبطال، ويمكن تلمس نسب التاريخ إلى المتخيل دون التقيد بواقعية الأحداث أو الأمانة التاريخية في حين أن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي يأخذ اتجاهاً مغايراً في روايته "الأمير الثائر" حيث يؤكد في مقدمة الرواية على تاريخية حدوث الوقائع.

وينفي أية زخارف أو إضافات أو تخيلات من عمله الروائي، ويريد بذلك أن يؤكد على صدقية الحدث التاريخي " للأمير مهنا" بطل الرواية، ولا يريد أن يشكك بمواقفه وأحداث الرواية، وهنا تتغلب صفة المؤرخ الباحث في علم التاريخ على صفة الروائي وإن كان الكاتب قد استطاع أن يصوغ التاريخ في إطار الفن الروائي، بل إن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي يذهب بعيداً في التأكيد على علم التاريخ، والجانب البحثي التوثيقي بالإشارة إلى "أن كل ما جاء فيها "أي الرواية" من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي".

وقد سلك الكاتب ذاته نفس الأسلوب في مسرحياته التاريخية التي كتبها، بل كان يحاول أن يعطي الأسباب والعوامل والمبررات للأحداث التاريخية التي أثرت بمسار التاريخ العربي في عصور انحطاطه وسقوطه لا أن يكون حيادياً في نقل التاريخ.

 

تنوع الاتجاهات

إذا كان التاريخ قد ساد على عدد من الروايات وأخذ جانباً من تجربة الكتابة الروائية ووفق المشهد العام الذي طرحناه في الفقرات السابقة، فإن المشهد الروائي قد شهد أيضاً أصواتاً عدة ظهرت متداخلة بين تسعينات القرن الماضي والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، هذه الأصوات شكلت بمجموعها مشهداً جديداً ومتنوعاً على الرغم من أن معظم ما سنذكره عبارة عن تجربة واحدة أو اثنتين لكل كاتب، وهي بالتالي تجارب لم تخضع لتراكم النوع والفرز.

ولا تشي بنضوج تجربة ما لأننا لا نملك الكم النوعي الذي نستند إليه، بقدر ما هو موجود في الواقع وهي ظاهرة عامة في الساحة الأدبية أشرنا إليها في سياق الدراسة، خاصة تلك التحولات التي تمت بين الأجناس، على الرغم من إيماني الشخصي بأن الأدب اليوم يمكن أن يشكل انفتاحاً كبيراً بين الأجناس ذاتها، خاصة أن بعضها يلتقي بالآخر من حيث التوصيفات الفنية إلى جانب كون كل الأجناس وسائل تعبير متاحة للمبدع في استغلالها وتوظيفها، وشملت الإحصائية النتاج الروائي، وبعض التوصيفات العامة عن هذه الإحصائية.

وشملت ثاني السويدي في رواية (الديزل)، وراشد عبد الله (شاهندة)، وأمنيات سالم (حلم كزرقة البحر)، وميسون صقر القاسمي (ريحانة)، ناصر الظاهري (الطائر بجناح أبعد منه)، العوي عبد الله خليفة (لن تموت يا ولدي)، مانع سعيد العتيبة (كريمة)، علي الحميري (النبراس)، عبد الله الناوري (عنق يبحث عن عقد)، رحاب الكيلاني (تثاؤب الأنامل)، ناصر جبران (سيح المهب)، علي عبد العزيز الشرهان (عبود تاجر الفريج)، مريم مسعود الشحي (أنثى ترفض العيش).

وفي هذه الإحصائية نجد أن 13 كاتباً كتب 13 نصاً من مجموع 55 رواية هي مجموع الإصدارات منذ عام 1971، منتصف عام 2012، هذا هو المشهد العددي لحركة ديناميكية شابة قد يصعب توصيفها الآن أو التوقع أو تقييم قراءة نقدية تحليلية، لذا يمكن أن نستعرض بعضاً من هذه الروايات كأمثلة.

 

جذور واقعية

معظم هذه الروايات اتجهت نحو الواقعية، بمختلف اتجاهاتها في محاولة لتشكيل أسئلتها اللحوحة عبر كل ما تعرضت له المنطقة من تغيرات جذرية، كما أسلفنا في مكان سابق.

إن اللجوء إلى الواقع هو جزء من البحث عن الشخصية المحلية الوطنية كذلك، فالرواية التاريخية ركزت على الانتماء العربي الجذري، وهذا جزء من إسقاط الواقع عبر ما تعرضت إليه المنطقة من هجرات بالجملة لقوميات مختلفة طلباً لسوق العمل الذي استوعب ملايين من البشر مما أخلَّ بالتركيبة السكانية وهدد الهوية الشخصية، وقيمها، وتقاليدها، وأخلاقها، وطبيعة حياتها، وانتماءها القومي والديني، وقد تناول العديد من الكتاب هذه الإشكالية بأشكال مختلفة تبدأ من الرمزية وتتجه نحو الواقعية بأسلوب شاعري رومانتيكي كما فعل ثاني السويدي في الديزل، إضافة إلى محاولاته في التجريب مما لا يشجع كثيراً في الخوض في الفنيات الأساسية لفن الرواية.

يلتقي مع تجربة ثاني السويدي، صوت شعري آخر كريم معتوق حاول أن يجعل صوته الشعري امتداداً للوصول إلى الرواية فكانت تجربته اليتيمة "حدث في اسطنبول" والرواية تدور حول نقل حدث عاطفي رومانسي عبر وسيط شخصي شاعري، توقعه في غنائية غير مستقرة، أو موظفة إلى جانب تفكك ربط الرواية، أو لنقل تُوقع الشاعر في مطب الخواطر بعيداً عن الفن الروائي.

إن معتوق يحاول مساس الواقع من خلال الشخصية الرئيسية للمرتحل عبر اسطنبول، لكن إلى أي مدى يستطيع أن يتجانس الشعر أو الشعرية مع السرد الروائي في بوتقة متجانسة كما حدث في التاريخي ـ الاجتماعي ـ السياسي في تجارب سابقة للرواية التاريخية أو كما يقول د. محسن الموسوي " يمكن أن تكون الفكرة إعلاء للفن على حساب غيره، وتمهيداً لدوره، لكن شعرية المجازر التي تتوج لغة الهلوسة والهوس والجنون تقود السرد إلى تخوم صوفية وسريالية تبعده عن "التمثيل" صفة الرواية وملازمها".

 

التاريخ كطريق

إن تجربة راشد عبد الله في "شاهندة" قد تبدو أكثر اقتراباً للفن الروائي على الرغم من كونها الحلقة الأولى في التجربة الإماراتية، وهي تلتقي مع يتيمة كريم معتوق وتختلف عنها، وكان النص قد اعتمد على الحب والجنس معاً متخذاً من التاريخ طريقاً وأسلوباً للجمع بين أدب الرحلات والرواية التاريخية، الاجتماعية العاطفية، خاصة في تصوير واختيار اسم شاهندة كامرأة مثيرة وصفاً واسماً ولم تخلُ الرواية من أسئلة الهوية والبحث عن الذات التي كانت قلقة من مجمل النقلة الكبيرة.

والمفاجئة لكل ما كان موجوداً ومسكوناً وساكناً، وفي العودة إلى الديزل نجد أن ثمة إضاءات إلى جانب تلك التي تحدثنا عنها في فقرة سابقة لا تعتبر هذه الإضاءات تناقضاً في تقييم تجربة واحدة بذاتها، فلغته تشكل نوعاً من الحداثة في الطرح على الرغم من الفرق بين السردية والشعرية في تناول ثاني السويدي ليتيمته "الديزل".

وأعتقد أن قراءة خاصة لهذا العمل قد تستنبط منه العديد من الإضاءات التي بالضرورة ستكون إضافة نوعية لا على التقييم النقدي للديزل، بل على مجمل الحياة الروائية في الإمارات، علماً أن القراءات التي تناولت الديزل احتارت في مجملها في التصنيف واختلفت في نتائج الرؤى والتقييم.

 

نص مفتوح

تطرح أمنيات سالم في نصها الذي سمته "حلم كزرقة البحر" أسلوباً آخر يضاف إلى ما تلمسناه في الفقرات السابقة في المشهد الروائي بالإمارات، فهي تقدم نصاً يجمع ما بين النص المفتوح والسيرة والحدث الروائي، بين الذاتي والمتخيل، بين التعايش مع الحلم ورفض الواقع والثورة عليه. إن أمنيات تعطينا صوتاً بالغ الوضوح في الاحتجاج على الواقع المتناقض مع القيم والأخلاق "حسب رأيها"، وتأخذنا معها إلى أحلامها التي تتمناها زرقاء كلون البحر النقي الهادئ بمدياته البعيدة وبأحلام فتاة رقيقة لا بد أن تكون وردية.

إن أمنيات سالم وهي ذات تجربة قديمة في الأدب عبر ممارسة الشعر والقصة، والكتابة بأنواعها تطرح نفسها في هذا النص كروائية قادرة على استيعاب العديد من فنون الرواية الحديثة وبذلك نجد عدة مستويات لاستعمال الزمان وتناوبه مع المكان، ومستويات السرد المختلفة التي نتلمسها في النص إلى تعدد الرواة والاستفادة من المونولوج الداخلي وتوظيفه والدخول في فضاءات يقتضيها السرد الروائي للنص.

إن أمنيات سالم قدمت لنا نصاً مفتوحاً وإن جنسناه بجنس الرواية بطبيعة انتمائه وجنسه لا بعملية قسرية في حشره بالرواية "إنه نص مفتوح، حاولت فيه الكاتبة أن تشعل نار الذاكرة وحرائقها التي ظلت تتابعها حتى المستقبل، ولذلك انفتحت على هذا المستقبل عبر شخصية عالقة في الذاكرة فكانت راوية وشاعرة جعلت من الذكريات بحراً يمتد إلى ما لا نهاية".

 

متغيرات السبعينات

أما محمد عبيد غباش فيعتبر أقدم ثاني كاتب روائي إماراتي أو ربما تزامنت تجربته الأولى مع شاهندة راشد عبد الله وإن نشرت متأخرة ولكنها نشرت على حلقات في مجلة الأزمنة العربية، وله تجربتان في كتابة الرواية هما "دائماً يحدث في الليل" و"مزون" التي نشرت أيضاً أولاً على حلقات في جريدة الاتحاد الظبيانية. ويطرح محمد عبيد غباش روايته الأولى مرتبطاً بكل ما ظهر على الأرض من متغيرات أعوام السبعينات وما لحقها في الثمانينات من القرن الماضي.

إن روايته الأولى "دائماً يحدث في الليل" هي أزمة مجتمع المثقفين الذين واجهوا المتغيرات لا بأسئلتهم فقط، بل بالرفض أيضاً في مواجهة الانفتاح المفاجئ والسريع والحاد على العالم الذي كان سبباً في فقدان توازنات كثيرة ظهرت واضحة وجلية في القصة القصيرة في الإمارات كرد فعل عاجل إلى أن أخذت الرواية مساراتها الطبيعية ونضوجها الفني.

إن محمد عبيد غباش كان يريد أن يجمع كل شرائح المثقفين متأثراً بالمد الاشتراكي ـ القومي الذي شكل الخطاب القومي العربي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي " وبتجمع غريب يقيم الروائي مجتمعاً مثقفاً يتبنى مفاهيم اشتراكية غير معهودة أو مألوفة في خضم هذا المجتمع المحافظ" (12). إن محمد عبيد غباش يحاول التأكيد على الشخصية المنتمية لرفض سياسة الانفتاح من خلال تجميع شخصيات متجانسة فكراً وغير متوافرة بزخم أو بكثرة في واقع الحياة، إنما هي بالضرورة موجودة

بشكلها الفردي لا الجماعي كحزب أو تنظيم، مثل عوض العماني الثائر من ظفار، وأحمد الشخصية الرئيسية ذات الانتماء القومي ـ الاشتراكي وراشد سيىء الحظ، وصاحب المكونات الدينية التي قد تتناقض مع المجموعة الأخرى ذات الانتماءات اللا دينية في محاولة لإيجاد تعادلات فكرية في لعبة الصراع المبني عليها الرواية.

 

غباش في «مزون»

محمد عبيد غباش في تجربته الأولى يطرح أسئلته، ويخلق أجواء روايته ليجدد موقفه الرافض من خلال شخوصه المختلفين والمتناقضين في آن واحد، لكن ماذا يريد أن يقول في تجربته الثانية "مزون" التي اعتبرها الكثير من النقاد فصلاً من روايته الأولى أو على الأقل كما أعتقد أنا هي امتداد لما يحدث في الليل.

من حيث المجتمع الذي خلقه الكاتب، وطبيعة الشخصيات وانتماءاتها وعدد من الشخصيات الهامشية التي تعمل على إبراز الشخصيات الرئيسية للرواية في حين لم يستطع أن يبرز شخصية مزون التي ظهرت وكأنها هامشية وإن دارت الأحداث حولها، والتي تجسم حالة الحنين والرجوع إلى أجواء الماضي في رفض الجديد وإن كان أكثر رفاهية وبهجة وشكل الحياة الاستهلاكية الجديدة التي تعتمد على توفير كل تقنيات المجتمع البرجوازي المترفه.

إلا أننا نتلمس كثيراً من الكتابات الأدبية في أجناس القصة والرواية والمسرحية تنزع إلى الحنين للماضي وأساليبه وقيمه وتكافل مجتمعاته في مقابل الاغتراب والغربة والرفض وبأساليب في منتهى الرومانسية أحياناً، على أن الكاتب يقدم فعلاً نصاً ممتعاً للقارئ بحبكة مقنعة متوازنة، ترتبط بأحداثها المختلفة في زمن النص وفي متنه إلى جانب رسالتها المرتبطة بانتقاد الواقع الاجتماعي الانفتاحي.

والذي انعكس أيضاً على العلاقة الزوجية والنزاعات الآسيوية مع العمال، وأساليب الزواج التقليدية، والعلاقات الجديدة التي ارتبطت بالمصالح بعد غياب القيم القبلية التي سادت مجتمع ما قبل النفط. "إن رواية مزون لا ينقصها الإقناع ولا القدرة على الإقناع والتأثير، ومن ثم فإن بنيتها الروائية قادرة على خوض امتحان التحليل الفني ومجاوزته بنجاح تحسدها عليه غالبية الروايات الإماراتيات".

 

في «سيح المهب»

ناصر جبران الشاعر والقاص الذي صدر له العديد من الدواوين الشعرية حديثة الاتجاه إلى جانب براعته في القص عبر تجربة عريقة أغنى بها المكتبة القصصية في الإمارات يدخل فجأة إلى عالم الرواية في "سيح المهب" التي صدرت في الأسبوع الأخير من عام 2007، وهو الآخر ينضم إلى زملائه في تقديم نص يرتبط من عنوانه حتى متنه بالوضع الاجتماعي وبالوقوف أمام كل الخروقات التي حدثت في المجتمع نتيجة الانفتاح، فقد اختار عنواناً له من الرمزية ما يتناسب ويتجانس مع متن الرواية، وهو يغوص بعيداً في العلاقات الجديدة، والخروقات التي تمارسها العمالة الأجنبية الوافدة.

إن جبران فنان في التعامل مع الأحداث والشخوص أدركها من خلال لعبته مع النص بعد تجربة تعتبر واحدة من بين أفضل التجارب في المشهد القصصي الإماراتي، وقد استطاع أن يرسم شخوصه بواقعية شديدة تتلاقى مع الصورة الأخرى التي لا تظهر على شاشة التلفزيون الملون، إنها الصورة التي ترتبط بالوعي الضمني للكاتب الشاعر الذي يرى كم هي خطرة تلك الجماعات المتسللة عبر الشواطئ واندماجها في النسيج الاجتماعي وهي تحمل كل تناقضاتها الذاتية، وتناقضاتها مع المجتمع الذي اندمجت به وأثرت في بنيته ومستقبله.

 

علي أبو الريش نموذجاً

أما روايات علي أبو الريش وتجربته بشكل عام فهي الأكثر تجذراً، وتمتلك أهمية خاصة ومشروعية تجعل أي باحث عن المشهد الروائي في الإمارات لا يهمل ولا يؤجل الحديث عن تجربة أبو الريش، وأهميته تأتي من كونه أكثر روائي إماراتي جدية ونتاجاً، ولعله الوحيد الذي يهتم بالرواية كجنس فني يحاول أن يركز في نتاجه ويترك بصماته على خارطتها، وأن ينتقل بها إلى أجواء أخرى فناً وموضوعاً واهتماماً، وانتماءً، وهو مرتبط جدلياً بالهم الروائي معلناً في أكثر من حديث عن هذا الانتماء أو الارتباط.

وتأسيساً لذلك فإن من الصعب أن نقرأ كل الأعمال الروائية العشرة "لأبو الريش"، لأنها تتطلب الخوض بالكثير من التفاصيل التي لا تتسعها دراسة بانورامية عن مشهد عام للرواية، وعليه فإن بعض الانتقاءات هي التي ستحدد الصورة التي كوّنها أبو الريش عبر تجربته التي امتدت إلى أكثر من عقدين من الزمن على الرغم من أهمية كل ما أنتجه.

ويشترك علي أبو الريش مع زملائه كونه رجل إعلام وقاصاً وشاعراً تحول إلى روائي، ووظف كل ما لديه من معارف وثقافات متنوعة في تجربته الروائية حتى استحق بجدارة أن يكون رائداً للرواية في الإمارات كونه الوحيد الذي رسخ وأكد على استمرارية التجريب وطرح عدة أشكال فنية لتجربته.

 

الأجناس الأدبية

لقد كان دخول التعليم النظامي وانتشاره عاملاً مهماً في ظهور الأجناس الأدبية والفنية الجديدة، وفي نشر الوعي عند شريحة واسعة من الشباب الذي تعلم في جامعات أجنبية عبر البعثات التي أرسلتها الدولة، إلا أن هذه العوامل جميعها لم تعجل كثيراً في مسيرة الرواية على عكس الأجناس الأخرى، ومن الرواية الأولى لراشد عبد الله عام 1971م، لم تظهر إلا رواية عبدالله الناوري، "عنق يبحث عن عقد" عام 1978، تبعتها رواية محمد عبيد غباش " دائماً يحدث في الليل" والتي يقال إنه كتبها قبل سنوات من نشرها، إذن هذا التحديد مؤشر على بطء الفعل بالنسبة للرواية، وجميع هذه الروايات لم تمس الواقع الجديد بقدر ما ذهبت إلى أزمان سبقت سنوات التغيير، وهذه الحالة رصدناها في الكتابات المسرحية في دولة الإمارات والتي ظلت جذورها واضحة حتى في الكتابة المعاصرة.

 

مشهد

إن المشهد الروائي الإماراتي وإن كان شاباً بنشأته إلا أنه سريع في عملية النمو والتلاقح والتواجد، وهو أيضاً يحاول الاجتهاد بكل عام ليطور أدواته وفنونه ليعطي أفضل ما يمكن أن ينتجه، وعلى الرغم من وجود عشرات الإشكالات التي عانى منها كأي مشهد عربي آخر لم تكتمل تجربته، خاصة وأن فن الرواية حديث لا على المستوى المحلي والخليجي فحسب، بل والعربي أيضاً، فإن المشهد الروائي في الإمارات يراهن بقوة على المستقبل.

 

شاهندة

كانت شاهندة ولادة طبيعية في أسلوبها ومضمونها على أرض بكر لم تسبقها تجربة سردية روائية، في محاولة لتأسيس نوع من الكتابة كان لا بد أن تظهر انعكاساً للتحولات الجذرية التي شهدتها المنطقة، ومن اللافت أن شاهندة بدأت مع الرواية التاريخية، تحمل همَّ الأسئلة الجديدة، ولا تذهب بعيداً ولأقل من قرن من الماضي، وبالتالي حملت صفات الموروث الشفاهي الحكائي إلى جانب الاجتهاد في شكل معاصر للرواية.

ولعلنا هنا لا نقدم قراءة لهذه البداية بقدر ما يهم أن نساير المشهد الروائي، ذلك لأننا سنحتاج إلى قراءة طويلة لبيئة المجتمع الذي كان سائداً يومذاك، بينما يهمنا هنا معرفة الخطوة الأولى التي كانت سبباً ومحفزاً للولادة الأخرى في الرواية والقصة، والتي لم تكن انعكاساتها بالحياة الأولى كتعبير عن الرفض للحياة الجديدة ومظاهر التغير الجذري الذي غير وجه الأرض والمدينة والمجتمع بكل ما يتعلق به من وسائل العيش، أو ارتباطاته القبلية.

 

المكان

كمعادل للوطن

تحول المكان مثلاً عند علي أبو الريش معادلاً للوطن، كما فعلت أمنيات سالم، ومنصور عبد الرحمن، ومن خلال الوطن عند أبو الريش نتلمس كيف تتحول التسميات لتطابق المكانية أو لترمز لها، ولعلنا بالعودة إلى روايته "نافذة الجنون" نجد أن الكاتب يقدم لنا نموذجاً جيداً مقارنة بكل ما هو موجود على الساحة على الصعيدين التقني والموضوعي، فالرواية أصلاً رحلة طويلة في الماضي الذي يريد أن يكشف به ما يعيشه من الداخل وفق حوار داخلي "مونولوج"، وبالتالي فهذا الحوار الداخلي أتاح للكاتب أن ينقل لنا أزمنة مختلفة وينتقل في إطار الزمان والمكان.

ويرسم أبو الريش ضمن لوحة متجانسة أيضاً شخصياته التي تمثل تلك الأزمنة ونتاج تلك الأمكنة وكيف تشوهت من دواخلها ونسيجها عبر كل التحولات التي مرت عليها وفق قانون المتغيرات والمستجدات التي نقلت مجتمع الكاتب.

 

جوهر الرواية

إن جوهر العمل الروائي كما اتفق عليه الباحثون هو في البحث المثابر عن حقائق قد لا تظهر لعيان الإنسان العادي والتي يلتقطها الروائي في مشهده إلى جانب التعرف على ذات الإنسان، وعلاقته بموضوعية الحياة، والعلاقات المتشابكة، بين هذه العلاقات والإنسان، والرواية ملتقى لكل هذه الأسئلة والنصوص والأمكنة والأزمنة والتنوع في السرد، مما يجعلها هي البديل الشرعي للشعر في المنطقة وإن كان الشعر ما زال هو السيد في هذه المجتمعات، الخليجية تحديداً.

 

تقابلات سردية

 

علي أبو الريش لا ينفرد بتجربة واحدة، فهو ـ كما أسلفنا ـ قد راكم العديد من تجاربه الروائية، وبالتالي فإن القراءة تأتي مختلفة باختلاف المنتوج وزوايا التناول، إلا أن إشارات عديدة يمكن الركون إليها عبر عشر روايات ومسرحيتين ومجموعة قصصية تدخل جميعها في حقل واحد وإن اختلفت أجناسها قليلاً، وفي كل عمل يخرجنا أبو الريش إلى عالم آخر، وأطر تختلف عن بعضها كاختلاف الأصابع في اليد الواحدة مع البقاء على انسجام متناغم مع الشكل العام، فمثلاً في روايته "ثنائية الروح والحجر التمثال" يتفنن بما يمكن أن نسميه التقابلات بين المتناقضات في داخل متن الرواية للوصول إلى قراءة ربما تبدو صعبة بقدر ما هي تنغيم للتبادل ما بين القص وعلاقاته بالزمن والمكان في حين يحاول أن لا ينتج سرداً تقليدياً، خاصة عندما يلغي حدود المكان.

انتقالاً إلى بعد صحراوي مفتوح على كل الاحتمالات دون تقاطعات أو موانع أو حواجز، لأنه أراد أن يكون المكان هذا المدى الصحراوي الممتد إلى لا نهاية الروائي في فضاء لا يتقيد مما يعطي شخصيات الرواية حرية الحركة في إطار تناغمية وانفتاحية المديات، وهي الشخصيات التي تتمكن من وضع أسئلتها التي هي أسئلة الوجود في المكان والزمان المعنيين في الرواية.

هذه الأسئلة التي تظل محيرة للشخصية عبر ثنائيات يبني الروائي عليها أحداثه السردية في إطار شخوصه والزمكان الذي اختاره لها، وهو أيضاً يخلق توازنات أخرى مع شخصيات أخرى يجد ضرورة التجانس بينها في المعادل النهائي لوجود تناقضات ثنائية، كما أشرنا إليها في سياق سابق، وقد جاءت هذه الثنائيات بتقارباتها وتعادلاتها، بانسجامها وابتعادها عن بعضها متجانسة ومتواترة مع عنوان الرواية.

وبالتالي أصبح العنوان جزءاً من بنية الرواية الداخلية وأحداثها وليس بعيداً عنها " في اليوم التالي جاء الراعي، وبدون أن يصحب معه القطيع كي يبحث عن الفتى، عن المخلوق الصحراوي الغريب، انتوى البدوي أن يستفهم عن سر المخلوق، ويقطع الشك باليقين، أحس أنه عندما أفشى السر أمام الملأ، زرعوا في صدره، وخزات الريبة، وطرقات الظنون، فوجد نفسه أمام حصن فاعتصم بالصحراء .

 

إلغاء الصراعات

من خلال قراءات روايات علي أبو الريش المتعددة والأصوات الأخرى التي صدرت قبل، وخلال وبعد تجربته نجد أن في العموميات التي يلتقي عندها الجميع تشير إلى أن "المشهد الروائي الإماراتي قد شهد باستمرار محاولات التطور النوعي، خاصة فيما يتعلق بالسرد وأنواعه، أو الشخوص التي يتناولها الروائي في محاولة لتقريبها حتى في غياب أسماء بعض هذه الشخصيات مثلما يحاول البعض إلغاء الصراعات أو الوقوف دائماً مع انتصار عناصر الخير، وهذا الأمر تلقائي في مجتمع كان متصالحاً عبر الحياة البسيطة التي كانت تسود القرى التي تحولت إلى مدن عصرية، أسمنتية كبيرة، وقد اشترك معظم كتاب الرواية في الإمارات في الاجتهاد بتطوير الزمان، والمكان وتبادلهما وعلاقتهما.

 

حراك المدينة

ناصر جبران لامس الإشكالية السكانية الناتجة عن الانفتاح بكل جرأة ووعي، مشيراً إلى خطورة تواجه المجتمع وتهدد القيم والمستقبل من خلال خلل في البيئة السكانية ومواجهة سيل من المهاجرين غير الشرعيين تحت جنح الظلام وعبر سواحل ممتدة على طول الخارطة الجغرافية للدولة.

إن وعي الأديب والمفكر هو الذي يجعل من الروائي ملامساً لواقعه، وهو في روايته "سيح المهب" يكشف عن الخراب الذي حل بالمدينة، والخراب هنا ليس تلك الثورة الأسمنتية الكبيرة والأبراج وناطحات السحاب، إنه يبحث عن ملعبه يوم ولد ومدرسة صباه، عن بيته ومسكنه وملاعب طفولته، التي تغيرت بل وامحت تماماً من الخارطة.

فترى هل فعلاً أن من يملك وعياً ما عليه إلا أن يغادر المدينة العملاقة التي شيدت على بقايا المدينة القرية؟! إن ناصر جبران في هذه الرواية يجمع خبرته الأدبية ويوظفها فناً جميلاً، كذلك يعتصر وعيه وإنسانيته وانتماءه ليقدم رفضه الصارخ من خلال نص أدبي لا يعاني من خطابية بقدر ما يقدم صرخة مكتومة وقراءة لواقع يعيشه إنسان هذه الأرض بعد أن تفجرت تحت أقدامه مدينة عملاقة مخيفة .

Email