المشغولات الشعبية.. روح الفن تماهــــــــــــــــــــــــــي جسد الحرفة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تحفل حياتنا العربيّة المعاصرة، بعدد كبير ومجهول، من المبدعين الذين يمارسون شتى ألوان الابتكارات العلمية، والأدبيّة والفنيّة والحرفيّة، بدرجة عالية من الإتقان والصدق والتفرد، تترافق، وللأسف، مع إهمال إعلامي ومؤسساتي، وكأن هؤلاء المبدعين يعيشون في كوكب آخر، في الوقت الذي يحظى فيه، أنصاف المواهب، وشطار استغلال الفرص، بنعيم الأضواء، والاعتناء الفريد.. وتبرز في هذا الخضم، الفنانة سحر صالح قنطار، التي تعد واحدة من المبدعات السوريات المسكونات بالحرفة المتماهية بالفن.

 

تعكف سحر قنطار، ومنذ سنوات، على إنتاج مشغولات يدويّة متقنة وجميلة، توثــق وتؤرخ من خلالها، للحياة الشعبيّة السوريّة، بكل أطيافها وألوانها ومناطقها. ومع ذلك، تقبع في الظل والإهمال هي وأعمالها التي صارت عملية إبداعها لها اليوم، المبرر الأهم لاستمراها في الحياة! الفنانة قنطار من مواليد قرية (كناكر) في محافظة السويداء، حصلت على الشهادة الثانوية بشكل حر.

ودرست التربية وعلم النفس في جامعة دمشق، وعكفت على ممارسة هوايتها الفنيّة في وقت مبكر من حياتها، أما انطلاقتها الفعلية في هذا المجال، فبدأتها منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتوجتها اليوم، بمئات المشغولات التي باتت المصدر الرئيس لتأمين أسباب عيشها، وإرضاء حاجات أخرى في روحها ووجدانهـــا، أكـــثر إلحاحاً وسطوة على كيانها من الحاجات الماديّة المباشرة، أي أن استمرارها في إنتاجها، بات يُشكّل المظهر الرئيس لوجودها.

 

توثيق الحياة الشعبيّة

تنجز الفنانة سحر صالح قنطار، نماذج مجسمة لرجال ونساء بأحجام مختلفة، يصل ارتفاع بعضها إلى متر، وذلك من مواد وخامات مختلفة، بينها:

الخزف البارد والمعادن والخشب والقماش والأسلاك والخيطان والألوان والنباتات والزجاج .. ومواد أخرى لم يسبق لأحد أن استعملها في هذا المجال الحرفي الفني، الغني الجميل واللافت، وكذا المتمحور حول البيئة الشعبيــة السوريّـــة الأصيلة، بتلاوينها ومفرداتهـــا كافة، بدءاً مـــن الأزياء الشعبية التقليدية وانتهاءً بمظاهر الحياة اليوميّة، التي غابت أو تكاد، من حياتنا المعاصرة، مثل:

المضافــة، الخبز على التنور، الجلسات الاجتماعية الحميميّة في حفلات السمر والأعياد، المناسبات الاجتماعيّة التي تحولت إلى عادات وتقاليد شعبيّة أصيّلة شائعة وراسخة في حياتنا العربيّة المعاصرة، لاسيما التقليديّة منها.

 

مقاربة الواقع

لا تكتفي الفنانة قنطار، بإنجاز مجسمات إنسانيّة لرجال ونساء يرتدون أثواباً شعبية وملحقاتها: (غطاء الرأس، الزنار، الحلي، الحقائب) من المواد والخامات التي تُنجز منها في الواقع، بل تقوم بوضع هذه النماذج ضمن بيئتها الواقعيّة، بكل ما تضم من عناصر ومفردات ووسائل عيش واحتفال، كالآلات الموسيقيّة وأوعية الطعام والشراب والأثاث والمشغولات المتوارثة.

وحتى بعض الحيوانات الأليفة، مثل: الأغنام. وكي تُكرس الواقعية التسجيليّة المدهشة في أعمالها، تلجأ إلى تزويد بعض ابتكاراتها بمحركات صغيرة مخفية في داخلها، تقوم بتحريك أطرافها، لتمارس حركة ما: (رق الخبز، العزف على العود أو الربابة، الغناء الشعبي بوساطة آلة تسجيل صغيرة).

وذلك إمعاناً منها في التركيز على وضع المتلقي ضمن الحالة الطبيعيّة الواقعيّة، للحياة الشعبية السوريّة، بكل ما تحفل به من تفاصيل تراثية أصيلة قامت الحياة المعاصرة بقضمها، أو هي في الطريق إلى فعل ذلك.

وهذه الإنجازات كافة، وبمختلف موادها وخاماتها، تقوم الفنانة قنطار، بإنجازها بنفسها، وبكثير من الدقة والصبر والصدق، والعشق الفريد لهذا العالم الحميمي الأصيل، الآيل إلى الغياب، وفي الوقت نفسه، تعشق حرفتها المتداخلة بالفن، حيث تمارسها بسعادة مطلقة، وفرح نادر، لا يشعر به إلا كل مبدع حقيقي.

 

واحة الموهبة

شاركت الفنانة سحر صالح قنطار في مهرجان تدمر السياحي، ومعرض دمشق الدولي، وسافرت أعمالها إلى العديد من دول العالم، إضافة إلى سوريّا، ولشدة حبها وإخلاصها لعملها وما يمثله من موروث شعبي أصيل وحي، بات عملها يختزل حياتها السعيدة، وفرحها الحقيقي، ما يؤكد أننا حيال فنانة حقيقية، مسكونة بالموهبة.

وبفعل انكبابها المجتهد والمتواصل على الإنتاج، تصعّدت وتبلورت ونضجت هذه الموهبة، محولةً حياتها إلى واحة جميلة ونديّة، تداخلت فيها الحرفة الرفيعة بالفن الساحر، وفي ظلال هذه الواحة، تمضي حياة هذه الفنانة، هادئة، سعيدة، ومليئة بالمتع التي لا يدركها إلا المبدع الحقيقي الذي يتعمد إبداعه بالتعب، قبل الوصول إلى الفرح الحقيقي، وفي ذلك تتضاعف متعها التي تحصل عليها من عملية انكبابها الدؤوب والمستمر على إنتاج هذه الدمى التي تحرص على أن تجسدها فيها ومن خلالها، الأزياء الشعبيّة وملحقاتها من أغطية الرأس والحلي.

إضافة إلى موجودات البيت الشعبي العربي، من الحرف والمشغولات اليدويّة التي تُسعف إنسان هذا البيت، لممارسة حياته اليوميّة، بسلاسة ويسر، وفي الوقت ذاته، تُرضي حاجاته الجماليّة، من خلال ما تحمل من زخارف وتزويقات ومحسنات بصريّة عديدة، أضافها الحرفي الفنان إلى سطوحها وهيكليتها وطرزها وتصميمها بحيث يُصبح استعمالها أيسر عليه.

وكذلك، تسهم في إرضاء حاجاته ونزوعاته الجماليّة، عبر إرضاء ذائقته البصريّة التي نمت وترعرعت في رحم الحياة الشعبيّة، مكان تناسخ التراث الحقيقي واستمراره في الحياة التي تُدخل عليه تجديدات دائمة، لكن من دون التفريط بملامحه وأصوله ومرجعياته التي تكونت عـــبر مراحـــل تاريخيّة موغلة في القدم.

التأريخ والتوثيق بالدمى

تعكف جهات رسميـــّة وخاصة، في العديد من دول العالم، على التأريخ والتوثيق لملامح من تراثها الشعبي الذي تتفرد به، ويميزها عن غيرها من الدول والشعوب، إذ إنه بمجرد أن تقع العين عليه، يذهب بها مباشرةً إليها، وذلك من خلال وسائل عديدة، من بينها الدمى التي تُنفذ من مواد وخامات مختلفة كالخشب والأقمشة والخزف والبلاستيك.. وغيره.

وبأحجام وقياسات متعددة. وتُناط بهـذه الدمى مهام ووظائف كثيرة، لعل من أبرزها صون التراث الشعبي للأمم وتعميمه على الشعوب الأخرى، عن طريق رفد السوق السياحيّة بها، فأول ما يبحث عنه السائح في البــــلاد التي يزورهـــا، المشغولات والحرف اليدويّة المتمثلة لخصائـــص وسمات التــــراث الأصـيل لبلدها.

 

تجربة لافتة

تحرص سحر قنطار، على تجسيد جوانب من التراث الشعبي السوري، وفق منهج عمل متقن، يرتكز على أسس دقيقة وحرفية في تصميم الدمى أو العرائس، وذلك بوجهة تعكس، وكما تفعل زميلتها أميمة ألوسي التي حققت ريادة في هذا الشأن، ولعها الشديد بالأزياء الشعبيّة السوريّة والعربيّة. إذ حاولت بطريقتها الخاصة، التوثيق لهذه الثياب.

والإشارات والرمز والمفردات التي تؤكد خصوصيّة المنطقة التي جاءت منها: كالسلال والأطباق والجرار والسيوف والأوسمة والشعارات، بشكل تكون فيه أعمالها الفنيّة المجسمة (الدمى)، مطابقة للواقع التراثي الحقيقي، ومتقاطعة معه إلى حدٍ بعيد.

 

مهمة ملحة

 

تؤكد دراسات متخصصة، عديدة، على أنه من الضروري الحفاظ على الحٍرف والمشغولات اليدويّة التراثيّة، وتغذيّة السوق السياحيّة بها، لأنها مطلب ومقصد للسائح، في البلاد التي يزورها.

 

رعاية وعناية

 

على الجهات الرسميّة والخاصة المعنيّة، ضمن البلدان العربيّة، رعاية المواهب الحٍرفيّة، وتوفير الفرص السليمة لاستمرارها بالإنتاج، ونقل معارفها وخبراتها إلى الجيل الشاب.

Email