الموسيقى والرسم يتحديان لغة العصر وشروطه

الهامشيون.. صيغ إبداعات غرائبية ترفض الواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمثل الهامشيون، في المجتمعات الغربية الحديثة، فئات ذات مسلك غرائبي، ترفض الواقع وتجابهه بأسلوب سلمي. وهم يتصفون بسمات إبداعية جنونية الطابع. ونشأت جماعات الحركة، كرد فعل على قضايا عصرية مربكة، وعلى الأزمات الاقتصادية وبعض الظواهر الاجتماعية، ومن بينها: الكلوشار، البانك، الروكرز، الباباكول، عصابات المودس.

 واشتهرت تلك الجهات بكونها تعيش على ضفاف المجتمع، وتمتلك نمط حياة خاصاً.. إذ يظهر أفرادها كأصداف صقيلة قذفت بها أمواج البحر إلى الشاطئ.. وتبقى تسكن في أعماقهم، رغبتان: حب البقاء على الهامش، إرادة الدخول في عمق المجتمع.

 

الرحلة إلى أعماق أولئك الهامشيين الذين يتجنبهم كثيرون في حياتنا اليومية، ليست إلا رحلة في أعماقنا تجعلنا نستكشف كنه ذواتنـــا، ونبحر في لجــــة التساؤلات الوجودية.

فما الـــذي يجعل أولئك البشـــر سعداء، يا ترى، حتى من دون أن يكون لديهم مورد أو مأوى؟ وذلك خصوصاً في ظل محيط عالمنا العصري الذي بتنا معه، نحمل أرقاماً نختصر بها جملة قضايا، فغدا كل شيء يدل علينا، يلخص بإحصاءات نختزلها في إشارات من أصابعنا: رقم السيارة! رقم التلفــــون! رقـــم الدار! رقم الضمان الاجتماعي! رقم عقد العمل! وغيرها من الأرقام.

إن الهامشيين هـــم من صنـــع الفـــرق في هذا الخضـــم، فكانوا منتصرين على ما فرضته إفرازات الحياة العصرية.. وهكذا لم يحملوا أي رقم..

ولكن تجاعيد وجوههــم ربما هي ما تؤلف جميع الأرقام تلك! إنهم يحيون من دون علاقـــات اجتماعيـــة متشابكة وموجهة، ولا يعترفــــون بأوقـــات فراغنا التي يمكن أن تكون داء عضالاً، كما يقبعون خارج الحسابات التي تفرضها مواردنا المنتظمة التي يحتمل أن تكون علتنا القاتلة! إذ إننا ننهض في الصباح الباكر مذعورين، فنتسابق في الذهاب إلى أماكن أعمالنا.. نبحث عن شيء غاب عنا، تخلى عن أن يكون معنا. نفتش عن النجاح في كل شيء، ونجاحنا لا يجلب لنا سوى الخيبة.

وهنا نتوقف قليلا، فهــــا هو الحسد يشق طريقه إلى قلوبنا عندما نرى أحد الهامشيين باكراً، يغتسل بنور الصباح الرخامي، غير عابئ بسباقنا اللاهــث، وكأنه أدرك منذ زمن طويل، أن كل نصر ما هو إلا عبــــث، ولا يمثل إلا هزيمــــة للنفس، التي تستمــــر في تجوالها في متاهات العالم، وتبقى متعطشة إلى تحقيـــق رغبات أخرى غير مرئية.

إننا نرحل على سطح الأرض، نستقل الطائرات والقطارات والسيارات، نقطع المسافات الطويلة، ونرى المناظر الجميلة، ولا ندرك بأن الرحلات الحقيقية هي في دواخلنا.. إذ إنها تحصل دون مغادرة المكان.. هذا ما تجد هامشياً، ربما تلتقيه مصادفة، يخبرك به بينا يبدو واثقاً ومسهباً في الوصف والتفصيل، فيتحدث إليك عن كل بقاع الأرض، من دون الحاجة لأن يسافر إليها.

يجوب الهامشيون شوارع المدن وجنبات الأحياء والساحات في أوروبا، لا ليعـــبروا عن أنفســـهم أو ليقولوا إننا هنا.. فهم يدركـــون أن حياتهم تكمـــن في تفاصيـــل هذه الرحلة اليومية الخالية من وفاض الهمـــوم والمشـــاغل الحياتيـــة اليومية التي تؤرقنا نحن.. وهكــــذا فإنهـــــم (الهامشيــون) موجــــودون، رغم أنهــم لا يدخلون في صلــــب حياتنا.

إذ نراهـــم ولا يروننـــا. نتأمل خطواتهم دون أن يسمعوا هم أنفسهم، وقع أقدامهم. ولكنهم لا يمرون مرور الكرام في شتى المشاهد التفصيلية في حياتنا، بل يختارون تقديم أشكال إبداعات فنية ومسرحية نابضة بألــــوان حرية التعبير، والخــــروج عن إحاطــــات أي من القيود، فيجســـدون رؤاهــــم وأفكارهم الاحتجاجيــة الناعمــــة، في صيغـــة أعمــــال مسرحـية أو غنائــية أو راقصة.

 

من هم هؤلاء ؟!

تضم فئات المهمشين، حركات عديدة، ومنها :الكلوشار، التي تتألف من شخصيات انسحبت من حياة المجتمع، وراحت تبحث عن ملجأ لها في الأماكن العامة، وهؤلاء يرغبون في أن يحولــــوا جميع الأماكن العامة إلى مطارح خاصة بهـــم، كونهم يؤمنــون بأن الأرض واسعة، وقادرة على احتضانهم أينما حلوا. وبذا لا يستجدون أو يتسولون إلا بقدر ما يكفيهـــم لقوت يومهــــم، وعليه فإنهم ينخرطـــون بروح الابداع، ليعكسوا أقنوماتهــــا ألواناً شتى.

وهم لا يصطنعون العاهات، إذ إنهم قرَّروا ذات يوم أن يتركوا وظائفهـــم ومناصبهم الاجتماعية، ليهيموا في الشوارع والساحات وفي أنفـــاق المترو.. وفي أثنائها، نرى بعضهم يأخذ في الغناء، والآخــــر يطلق صوته في الفضاء من دون قيد، فيكسر جدران الصمت المحيطة.

ولا يهتمون، غالباً، بكل قوانين الصرامة والانضباط. فنجد أحدهم وهو يحدث بعفوية أمام وجوهنا مباشرة، بينا يظهر بملابسه الرثة البالية، التي حملت الغبار من جميع محطات المترو. وتجده لا يملك من حطام الدنيا غير صرة يلف بها أشياءه.

إنه يقتل الوقت بالغياب عن عالمنا. يعيش عالم الأحلام، يسافر إلى البحار من دون أن يبتل جسده، فيمتلك العالم من غير حاجة إلى أي ملكية. كثيراً ما نلتقي بأنواع عديدة من هؤلاء المهمشين ونحن نسير في أزقة أوروبا، وهم يتسكعون أو ينامون في المقاعد الخشبية الباردة.

ونقرأ أحياناً عن شرائح منهم، تموت في موسم تساقط الثلوج في الغابات والحدائق.. إنهم ينظرون إلى الوراء وإلى الأمام بغضب.. ليسوا ساخطين بالمعنى الشائع، لأن الساخطين يغضبون ولا يتمكنون من علاج أوضاعهم.

وليسوا ثائرين، لأن الثائرين لهم أهداف. إنها هوة سحيقة سقطوا فيها وليس ثمة طريق للنجاة. إنهم يرفضون التقنين، فالبيوت التي شيدت لهم، فقط هي جدران السجن.

 

علامات

نظم الهامشيون أنفسهم في جماعات، وتفننوا في ارتداء الأزياء وتعليق الشارات والعلامات على صدورهم وعلى رؤوسهم، كي نميزهم عن الآخرين. وتعد جماعة «الهيبز» أول حركة مهدت للهامشيين. وكذا قلبت هذا المفهوم.. فحولت الآخرين إلى مكانها، كهامشيين، وأصبحت هي قلب المجتمع ونبضه السري.

وتميز الهيبز بعلاقة حركتهم بالموسيقى، وطالما بقوا هامشيين هادئين، ولم يحاولوا الدخول في صراع عنيف مع المجتمع.. بل سعوا إلى تغييره بالطرق السلمية من الداخل، بنوع من الرفض المسالم والهادئ، على طريقة غاندي عندما طرح ذلك كأسلوب لتحرير الهند.

وهناك أدبيات كثيرة للهيبز، دخلت في التراث العالمي، مثل ما كتبته جماعة طنجة، وهي ثلة أدباء أميركيين قصدوا هذه المدينة المغربية، واستقروا فيها خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وعلى رأسهم جاك كيرواك، صاحب كتاب «في الطريق» الذي اعتبر مصدراً لحركة الهيبز، ولا يزال يباع إلى اليوم، بآلاف النسخ.

وعموماً، شكل الهيبز داخل الهامشية في الغرب، حركة إيجابية، أثرت عميقاً في البنى الاجتماعية، ولا تزال آثارها تلمس إلى اليوم، في العديد من المجالات.

 

قانون واحد

بدأت جماعة «البانك» الهامشية، كمجموعة من الشبان الهامشيين والمتمردين على المجتمع، تمتلك مناصريها وأتباعها.. واتسمت بأن لأفرادها حياتهم المتناسقة المنسجمة كعائلة واحدة، ويحكمها قانون واحد، هو قانون الحياة المشتركة. ويتجمع أفرادها في الساحات العامة، ويعمدون إلى التنزه وهم يسيرون على شكل جماعات، وأحياناً يكونون كوكبة من الدراجات النارية، بقمصانهم الجلدية وشعورهم الملونة، فيحدثون ضجيجاً مروعاً للناس الذين خرجوا يتنزهون بعد يوم كامل من العمل المتعب.

وأما جماعة «البانك»، فتنتشر في كل من، أميركا وإنجلترا وفرنسا، وفي مدن أوروبية أخرى عديدة، وهي ليست حركة فكرية تدعمها منطلقات نظرية، كما يخيل للبعض، بل إنها جماعة بلا نظرية.

وأفرادها عادة ما يتميزون بقاماتهم الطويلة، وتتوسط رؤوسهم خصلة كثيفة من الشعر( منتصبة)، تبدو كشعر القنفذ، وما تبقى من شعر رأسهم يتدلى بشكل خصلات.. والعنف أو موسيقى الإيقاع الصاخب «الهاردروك»، تبقى الخبز اليومي لهذه الجماعة التي تعتبر نفسها غير معنية بمشكلات المجتمع، بل على العكس تفترض أن على المجتمع نفسه أن يتفهمها. وكان ظهور جماعة «البانك» وغيرها من الجماعات، كرد فعل على الأزمة الاقتصادية الخانقة، وأكثر ما يغيظ «البانك» هم الصحافيون والمصورون..

إنهم لا يمتلكون منــــازل خاصـــة، بل يعيشون بشكل جماعي، في بيوت لا يدفعـــون فيها بدل الإيجار. إن جماعة «البانك» أشبه بالقبيلة.. ولها رئيس لا يعطي الأوامر، بل يسدي المقترحات. وشعارهم الشهير «أفعل ما أشاء عندما أشاء، ومع من أشاء».. وليست لديهم هموم كبيرة أو مشروعات مستقبلية على الإطلاق.

إنهم يعيشون لحظات الحاضر فحسب. ولا يتذكر أحدهم عائلته أو جيرانه أو معارفه. إن الواحد منهم يعد تلك الذكريات جزءاً من الماضي، والماضي في عيون أفراد «البانك» ميت لا وجود له، شأنه شأن المستقبل. وفي أحيان كثيرة يكتبون شعاراتهم على الجدران أو في المنازل أو في الأماكن التي يرتادونها. وشعارهم الشهير «لا للمستقبل».

وأما بالنسبة «للماكياج» فهم لا يذهبون إلى صالونات الحلاقة، بل على الأغلب يقومون بصبـــغ وجوههــــم وشعـــــورهم بأنفسهم، أو يقومون بذلك في ما بينهم. والماكياج بالنسبة لهذه الجماعة دعامة أساسية في تركيبتها، إذا إنهم يسعون من خلال هذا الماكياج إلى إزعاج الذوق البرجوازي السائد.

وأما «الروكرز»، فهي جماعة من المهمشين، تضم فئتين: فئة المسالمين وفئة المشاغبين. وهم، بصورة عامة، مجموعة من الفتوات، أفرادها يحمون أحياءهم من اعتداء شبان الأحياء الأخرى. وعادة ما يرتدون الجينز.. والغالب في صفاتهم أنهم يشعرون بالوحدة، ويأسفون ويتحسرون على سنوات الستينيات من القرن الـ20. كما أنهم ينتعلون عادة، الحذاء المسمى بـ «ألفيس»، تيمناً بالمغني الراحل ألفيس بريسلي. وعلى العكس من جماعة «البانك»، فهم يرتدون جاكيتات مصنوعة من الجلد الأسود.

وتعد «الباباكول».. فئة أخرى من الشبيبة الهامشية، تعيش على هامش المجتمع، ولكنها لا تؤمن بالعنف. فأفرادها يقبلون بالعالم كما هو، على علاته، ولديهم نمط خاص بهم.. وأتباع هذه الفئة، يشبهون الهيبيين، ذلك في طريقة لباسهم وفي مظهرهم الخارجي. واللباس المفضل لديهم هو الجينز القديم، الممزق والمرقع، والذي يتدلى فوقه قميص طويل يصل إلى الركبة. كما ان موسيقاهم المفضلة: «بوب مارلي»، والتي توحي بالاسترخاء والكسل الذهني.

 

«السكين هيدز»

يتميز أفراد جماعة السكين هيذر الهامشية، برؤوسهم الحليقة تماماً، حتى الفتيات من بينهم. وهم ينتمون غالباً إلى الأحياء الفقيـــرة، ومن عائلات متواضعة. كما أنهم يملؤون أجسادهم بأوشام ذات ألوان فاقعة. وعـــادة ما يتجولـــون على الأقدام، على العكس من عصابات «المودس»، والتي ينتمي أفرادها إلى عائلات ثرية، فهم يرتدون ثياباً واسعة وغالية الثمن، ويقودون الدراجات النارية. وشهدت بريطانيا في الستينيات من القرن الماضي، أعنف المعارك بين «المودس» و«الروكرز» و«السكين هيدز».

إن هذه الظواهر: انتشار المهمشين ونمط عيشهم، والتي بدأت سلمية، ما لبثت أن تحولت في المجتمعات الغربية، إلى حركات غلب على أكثرها طابع العنف، كتعبير عن الرفض، خصوصاً وأن التقنيات الحديثة التي غزت العالم الصناعي الحديث والعقول الإلكترونية، غدت عوامل تسهم مباشرة في إلقاء أعداد كبيرة من العمال والموظفين، في عمق البطالة.

وبدا من الطبيعي هنا، أن يعتمد الشباب الأوروبي والأميركي، موقفاً رافضاً لهذا الوضع. وهكذا ازدهرت في الستينيات ظاهرة «الهيبز» في الولايــــات المتحدة، ونشأت بدع أخرى في دول أوروبا الغربيــــة، نتيجـــة الهروب من الواقع واليأس، وكرد فعل من الشبيبة على الأزمة الاقتصادية.

 

لا وعي المجتمع

 

الهامشي.. موقعه ملتبس في المخيلة الجماعية، فهو تارة يصور على شكل مقوم الأخطاء الجميل الشاعر، وتارة أخرى يأخذ شكل الفتى الفاشل الذي أحرق أوراقه قبل أن تبدأ اللعبة، وانزلق في غور الضياع والجريمة.. أيكون الهامشيون هم لا وعي المجتمع؟!

Email