السفن الخشبية القديمة تاريخ إماراتي عائم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتهادى بجمالياتها الطبيعية البسيطة على صفحة مياه الخليج. حتى ان الناظر إليها، يستشعر في كينونتها، عبق عراقة الزمان والمكان وهدوء النفس، فإيقاعها المنساب والهادئ يختزن إيحاءات مطعمة بروحية الجذب والعذوبة..

وتتألق لترتسم بتنويعاتها، في صيغة مشهدية المكان في الخيال، لتغدو كأنها قطعة من عوالم مدينة البندقية بايطاليا: مرتع الجندول والرومانسية ومدينة الحب. تلك هي بحق، مفردات جمالية واضحة ومفعمة بالسحر، نجدها تنتشر على صفحة مياه الخليج العربي، من خلال مشاهد سفن البوم الإماراتية.

 

تشكل سفن البوم الاماراتية جزءا من جماليات الإبحار وعوالمه، في الخليج العربي عموما، والإمارات بشكل خاص. إذ تلوح للسياح بصورة جاذبة ناسجة خيوط سحر وتعبيرا فريدا ينبئ بأن امتزاج الماضي بالحاضر، سر الجمال والاستمرارية، وجذوة الإيماءات المسطرة بقصص حب وحكايات ارتباط لا تنتهي.

وربما مكمن وسبب جذبها الساحر تفرد شكلها وقوتها الغامضة التي تخرج من بين نعومة وسلاسة الإبحار. هكذا هي توصيفات وعناوين مراكب البوم الإماراتية الخشبية التي صنعها الأجداد والشيبة منذ أقدم العصور، فما حكايتها مع البحر والناس واللؤلؤ والتجارة مع كل المدن المطلة على الخليج؟ وربما انها نغمات عذبة في قميص حكاية تطل من تاريخ الميلاد.

على الرغم من قوة البحر وغموضه وامتداده الشاسع كان أبناء الإمارات يتحدون بعزيمة وقوة كل الصعاب، فيخوضون عباب البحر لكشف خفايا أسراره في العمق والامتداد معاً. فمنذ القديم عرف أبناء الإمارات ركوب البحر للاتصال بالدول المجاورة ومد جسور التجارة والجوار والسياحة، لطلب الرزق وخلق علاقات متبادلة مع كل دول الجوار، ومن هنا كان ارتياد البحر بسفن شراعية كبيرة في البداية، ثم بسفن خشبية ذات صيغة متفردة، كانت ولاتزال نسبياً وسيلة من وسائل تجارة الأجداد التي تطل من عباءة تاريخ وتراث قديمين.

وهي بقيت كعلم وعنوان راسخ للبلاد منذ القدم. فرضت السفن، وخاصة سفن البوم الخشبية الشهيرة، واعمال بنائها، حضورها القوي في الامارات، منذ ما قبل اكتشاف النفط بزمن طويل، فكانت مصدراً من مصادر الرزق منذ الاتصال بالعالم الخارجي، عن طريق الإبحار بهذه السفن التي تختلف بانواعها، من الصغير وحتى العملاق. وقد مكنت اصحابها، وبقوة، من السيطرة على البحر واكتساب مهنة التجارة والصيد وإقامة علاقات تجارية مع دول الجوار، وايضا من ما هو أبعد من ذلك أيضاً.

 

صناعة دقيقة

حرص الاماراتيون في اسلوب صناعة هذه السفن الخشبية، على جعلها ذات بنية متينة، وذلك على شاكلة يحتمل معها خشبها الصلب، صخب الموج ومقاومات وتيارات مياه البحر. وقد كانت المراكب التقليدية في الخليج تدهن بشحم الحوت، المعروف محلياً باسم «الصل». وأما النصف السفلي منها، الغاطس في المياه، فكان يطلى بمادة تعرف باسم «النورة».

وهي عبارة عن مادة كلسية خشنة، تسحق بطريقة معينة، ويضاف إليها شحم الحوت، وهذه العملية في بناء السفن تعرف ملاحياً باسم «الشونة»، بينما تسد الشقوق بين الألواح الخشبية الصلبة، بقطن خاص جداً يدعى «الفتيل»، ويدهن داخل السفينة المعروف باسم «الخُن» بمادة القار الأسود.

وذلك منعا لتسرب المياه الى داخل السفينة، وكانت هذه الألواح الخشبية التي تعرف «بالجذور»، تثبت بواسطة الخياطة، بحبل من ليف جوز الفارجيل الذي يتميز بقوة وصلابة أليافه. ومن ثم صنعت في ما بعد، مسامير من حديد صلب جداً، لتثبيت الألواح الخشبية لسفن البوم القديمة التقليدية.

 

معرفة واسعة وتطور

تشتمل سفن منطقة الخليج العربي على خصائص معينة وخاصة جداً، تدل على خبرة صانعيها ودرايتهم بعلم الملاحة البحرية منذ القدم، ومعرفتهم بالمسالك البحرية، إذ كانت السفن القديمة مرتفعة الجوانب. وكانت المؤخرة في السفينة صلبة ومدببة، ومن ثم تطورت الصناعة ليظهر جيل جديد من هذه السفن، انسيابي الشكل، مثل: البوم و السنبوك و الشوعي.

وهذه النوعية من السفن يسهل توجيهها بالاتجاه الصحيح والمطلوب، خلال الإبحار، ذلك من أجل التجارة، وأيضاً المغامرات البحرية في حالة تغيير المناخ واشتداد سرعة الرياح وهبوب الأمواج، ذلك خاصة .

وأن مياه الخليج العربي تكثر فيها الشُعب المرجانية والترسبات الطينية والصخرية، بسبب اختلاف التضاريس البحرية في حوض الخليج، وهو الأمر الذي أكسب الإنسان قديماً، خبرة بحرية ومهارة في السيطرة على التقلبات البحرية، بفعل تقلب المناخ، وتجاوزوا بهذه الخبرة المتفردة الهائلة، مياه المحيط الهندي، فوصلوا بهذه السفن، سواحل الهند وسيلان وشرق إفريقيا.

 

أنواع

تتنوع سفن الخليج الخشبية القديمة، الشاهدة على عصور ما قبل النفط، في أشكالها وانماطها واغراض استخدامها. وتعد سفن البوم الأشهر والأفضل، من بين تلك الانواع في المنطقة، قديماً وحديثاً. وقد كانت تنقل السلع والبضائع، عبر موانئ الخليج العربي وموانئ الهند وباكستان وإفريقيا، ثم انتقلت، في ما بعد، إلى جميع سواحل الخليج، والى ما هو أبعد منها ايضا.

ويصل طولها إلى الـ 150 قدماً، وتتراوح ما بين الـ 300 وإلى الـ 750 طناً. وهناك نوعان لسفن البوم، ومنها ما يبحر الى البعيد، ويعرف باسم «السفّار». ونوع آخر يعرف باسم «القطاع» والذي يستخدم في الإبحار لوجهات قريبة من موانئ الخليج العربي.

 

«سفن اللؤلؤ»

تعتبر السفن الخاصة بالتنقيب عن اللؤلؤ في الامارات، ذات تاريخ ضارب في عمق الزمن، وتعرف باسم «البتيل»، وتصل حمولتها الى ما بين الـ 20 و50 طناً، وتستعمل في الغوص للبحث والتنقيب عن اللؤلؤ الثمين الذي اشتهرت به منطقة الخليج، واعتبرت وقتذاك، من ثروات المكان، وجزءا مهما للتجارة؛ وكانت ايضا، تبحر كثيراً من أجل التبادل التجاري بين منطقة الخليج وشرق آسيا والشرق الأقصى، وقيل إن سبب تسميتها «بالبتيل» يرجع إلى أسرة «البتيل» الهندية في مدينة «كلكلتا».

وهناك العديد من السفن القديمة المصنعة من الخشب الصلب، شقَّت عباب البحر وانطلقت من أجل التجارة وإقامة علاقات تجارية، وإبرام اتفاقات مختلفة مع دول الجوار والدول البعيدة عن منطقة الخليج. ومن هذه السفن ما يعرف باسم «الشوعي» وهي تستعمل أيضاً للبحث عن اللؤلؤ وصيد الأسماك. وكذلك سفن «الكونية» تستخدم للتبادلات التجارية والأسفار البعيدة وغيرها الكثير، مما أضفى على تاريخ السفن الإماراتية القديمة بعد الأصالة، وتبادل الخبرات البحرية بين أبناء المنطقة.

ويدعى صناع السفن في منطقة الخليج، باسم «القلافة»، وللقلافة طقوسها وتاريخها وأدبياتها التي تتنافس فيها أسر القلافين، في جوانب كونها أشد وأصعب المهن، ولها أسرار وخبايا لا يعرفها سوى سكان المكان.

ويقول أحد "الشياب" الشاهدين على جزء من تاريخ صناعة السفن الخشبية القديمة، انها كانت تصنع يدويا باستخدام الماء والنار والشمس ودهن الحوت، ويستغرق العمل فيها، عاما كاملا، أما اليوم فتستخدم الآلات الحديثة لصناعتها. والخشب المستخدم في بنائها يستورد من الهند وتنزانيا ويتميز بصلابته.

وله خاصية عدم تسرب المياه، لا بل يزداد صلابة كلما كان مخصصا ليحتمل لمدة طويلة داخل المياه، وهذا الخشب المتفرد والمميز يعرف باسم خشب «الساي»، أما اليوم فقد طرأ التحديث في بناء السفن هذه، حيث تم إضافة المحرك الميكانيكي بقوة 140-160 حصانا.

وسفن البوم بصفة خاصة، هي سفن تجارية في المقام الأول. وكانت تنقل من الإمارات إلى الهند، الأسماك المجففة وسمك القرش. ومن ثم تعود من الهند، محملة بالاخشاب والبهارات والأرز والطحين، وكانت في طريق عودتها، تعرج على إيران لجلب التمور بأنواعها المختلفة، والتي تعتبر من أفضل التمور. ومنها «الباصري» و«الميناوي»، بالإضافة الى جلبها للسكر ولدبس التمر وزيت الزيتون.

وكانت للسفن مواقيت للإبحار للتجارة وجلب الارزاق، ومنها الفترة التي هي في ما قبل شهر رمضان الكريم، بغرض جلب البضائع والسلع الخاصة بهذا الشهر الكريم. وكان جميعها مميزا. ومثلت تلك السفن عنوانا للبضائع والمنتوجات الخاصة بالشهر الكريم، ومن البضائع التي كانت تحملها:

المكسرات والتمور والطحين. وكانت تلك السفن مزودة بغرف ومستودعات مصغرة، مخصصة للملاحة ومجهزة للمعيشة. وكان ظهر السفينة يشهد اقامة ليالي السمر بما تتضمنه من غناء وإلقاء للشعر النبطي القديم، في الليالي المقمرة، على سبيل تخفيف مشاق الإبحار. . كما كانت أسر الملاحين تودعهم على الشاطئ، بكلمات الوداع والدعاء بسعة الرزق وأمان السفر، ومن ثم تستقبلهم بالزغاريد والتهاني والمباركة.

 

استخدامات وتحولات تاريخية

شهدت صناعات واستخدامات سفن البوم في الامارات، جملة تحولات تاريخية، تجسدت بصيغ تحاكي كل تحديث نحو المستقبل في عصر النفط، فتحول بعض من سفن البوم إلى فنادق عائمة خمسة نجوم، بات يتهادى في نزهات بحرية في مياه أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان. ومنها ما هو ثابت، حيث يفد إليها السياح وأبناء الإمارات والمقيمون على أرضها، بهدف تناول أفخم الأطعمة، في ظل اجواء مطعمة بخلفية موسيقية هادئة، لتكتمل بذلك جدارية القديم والحديث معا، ولتتحقق فكرة التمازج في ما بينهما.

وتشهد هذه الفنادق العائمة، إقبالا كبيرا في المناسبات الخاصة، ومنها في شهر رمضان المبارك، حيث تحتضن خلال ذلك، «البوفيهات المفتوحة», فيقدم كل ما لذ وطاب من المأكولات التراثية والعربية والعالمية. ويقبل الناس، في هذه المناسبات، بشكل كبير على نوعية تلك الفنادق- السفن.

ومن المعالم في الشارقة، ضمن هذا الاطار، وخاصة في بحيرة خالد، نجد انه ترسو سفن البوم لتقدم المأكولات المتنوعة، يوميا، مع التركيز على المأكولات البحرية التي اشتهرت بها دولة الإمارات، والتي يشرف عليها طهاة هم من كل أنحاء العالم، وآخرون متخصصون في تقديم الوجبات التراثية الإماراتية.

كما نجد سفنا خشبية صغيرة، تشبه الجندول، تهادى فوق سطح الخليج على امتداد الإمارات السبع، تحمل السياح في نزهات بحرية في الأعياد والمناسبات الوطنية، وفي احتفاليات رياضية تقام على سطح المياه.

كما تشهد سفن البوم، خاصة الكبيرة منها، اقامة الأعراس ومناسبات الفرح، وهي مجهزة لتنظيم هذه الحفلات، ويكون الاحتفال خارجا عن المألوف، وكأن العروسين والأهل يتباركون بمياه الخليج التي تعكس صفحات من التاريخ ومشاهد من طفرة التحديث في البلاد.

 

Email