التشكيلي فريد محمد الريس:

الفن لايزال من الرفاهية في مجتمعاتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

التشكيلي فريد محمد الريس، فنان إماراتي يغرد خارج السرب، فهو من الشباب القليلين الذين اختاروا الطريق الصعب لتحقيق طموحاتهم، حيث كرّس نفسه لتطوير مهاراته الفنية من خلال جهده ومثابرته على الرسم بصورة دائمة، كي يصل إلى مراحل الإبداع المنطوي على تراكم التجربة والخبرة.

رحلة فريد محمد الريس الفنية، تُترجم المعادلة التي تعتمد بداية على الجمع بين الموهبة والشغف، ومن ثم ربطها بالإرادة والطموح على أسس التواضع، ليصل صاحب نتاجها إلى حالة الإبداع والتألق. تلك المعادلة تنسحب على كل فنان وصل إلى مراتب الإبداع أو في طريقه إليها.

ينطلق الشاب فريد الذي علم نفسه الفن بنفسه من هذه المعادلة، بعدما وضعه والده الذي يعتبره معلمه الأول على بداية الطريق، ليعتمد على قوة الإرادة والصبر رافضاً مبدأ الاستسهال، ومسخِّراً كل فسحة من وقته خارج نطاق دراسته أولاً ثم العمل لاحقاً لصالح صقل موهبته، والتمكن من أدواته الفنية واكتساب مهارات جديدة مع كل لوحة يبدأ برسمها.

وهذا التحدي أكثر صعوبة عند فريد، كونه اختار أصعب طريقين في الفن، أولهما اتقان الرسم الواقعي والثاني التعامل مع الألوان المائية التي تمثل بحد ذاتها التحدي الأكبر لكل فنان، فأي ضربة لون في غير محلها تقضي على لوحته وما بذله من جهد طويل في رسمها.

اللافت في نتاج فريد الفني، موهبته الاستثنائية وحساسيته العالية في شفافية التعامل مع الألوان المائية، ومقدرته على تجسيد مختلف الخامات في لوحاته من الحجر إلى الرمل، فالحديد الصدئ والخشب المتآكل، إلى الظل والنور، ليحمل كل عمل له نبضاً من الحياة، فلا يملك المرء أمام كل عمل من أعماله إلا الاستغراق في تأمل جماليات جميع تفاصيل العمل.

وبهدف التعرف إلى عوالم الفنان فريد الذي يعتبر نفسه في بداية مشواره الفني، وأسباب اختياره الطريق الصعب بدلاً من طريق الاستسهال والوصول إلى الشهرة في زمن قصير أسوة بالعديد من أقرانه في حركة التشكيل الفني على صعيد المنطقة والعالم العربي، التقت (مسارات) به في مرسمه بمقر مرسم مطر، بعد إنجازه لوحته الأخيرة التي شارك فيها في معرض (أربعة عقود) بالعين.

لم اخترت التحدي الأصعب في مسيرتك الفنية بعيداً عن موجة الاستسهال والوصول السريع إلى الشهرة؟

الفن مسؤولية ورسالة، يكفي أن نلقي نظرة إلى مسيرة رواد الفن في الإمارات والرحلة الطويلة الشاقة التي اجتازوها بصبر لتحقيق مكانتهم في عالم الفن ورفع اسم بلدهم عالياً، كي ندرك جوهر وقيمة انجازهم، الذي لم يتحقق بين ليلة وضحاها.

الموجة الجديدة في الفن التي تحقق للشباب شهرة سريعة، دون بذل الجهد المطلوب والمثابرة لامتلاك أصول وقواعد الرسم الواقعي لينطلق بعدها إلى مختلف تيارات الفن، سرعان ما ستنطفئ وتخبو مع مضي الزمن، وتاريخ الفن شاهد على ذلك. الفنانون الحقيقيون من الشباب في بلدنا يعدون على الأصابع على الرغم من توفر الموهبة لدى الكثير منهم، وللأسف العديد منهم ينسحب في بداية المشوار.

ما هي برأيك أسباب انسحابهم وهل تتحمل الدولة أية مسؤولية؟

السبب الرئيسي لغياب معظمهم، يعود إلى البيئة الاجتماعية التي يعيشون في إطارها حيث لا يتلقون أي تشجيع أو دافع لمتابعة مسيرتهم، فالفن لا يزال في مجتمعاتنا في إطار الكماليات والرفاهية التي لا يمكن بنظرهم أن تبني له مستقبلاً يستطيع من خلاله أن يحقق مكانته في المجتمع، سواء على الصعيد المعنوي أو المادي. ويرتبط بذلك عدم وضوح الهدف لدى الشباب الموهوبين، حيث لا يدركون قيمة موهبتهم وهل هي مجرد هواية أم غاية بلا طموح.

أما في ما يتعلق بتجربتي، فقد أسعفني الحظ باهتمام الوالد الذي كان يقدر الفن ويتذوقه، فمنذ ملاحظته لموهبتي في السنوات الأولى من عمري شجعني على الرسم وكان يطلعني على أعمال الفنانين. وفي مرحلة دراستي للابتدائية والإعدادية شجعني على المشاركة في المعارض. كان يجلس معي في البدايات ويساعدني على نسخ الرسومات التي تعجبني بأبعادها الثلاثية، لأبدأ بتلوينها بصورة تقارب من اللوحة التي أمامي، أما الألوان المائية فكانت اختياري منذ البداية لحبي لها.

أبحث دوماً عن القيمة النوعية التي تعتبر جوهر الفن، حيث يتطلب مني انجاز لوحة واحدة ما لا يقل عن بضعة أشهر. يكفيني مشاركتي بلوحة واحدة أضع فيها جلًّ نتاج جهدي وتجربتي في معرض ما، على أن أقدم معرضاً فردياً يعتمد على الكم بعيداً عن جدوى القيمة الفنية، التي لا تترك أي أثر في ذاكرة المشاهد.

كما أعتقد بأن دعم الجهات الحكومية ليس بسبب رئيسي لنجاح الفنان، فعليه أن يثبت نفسه وحضوره أولاً، ويدع نتاجه يتكلم عنه. والجهات الداعمة للفنون، لا تبخل على أي من هؤلاء بتقديم كافة الفرص والتسهيلات التي تساعدهم فيما بعد على تطوير تجربتهم.

هل يعني هذا أنك لم تواجه أية صعوبة في بداية رحلتك؟

في نهاية مرحلة الثانوية مررت بتجربة دفعتني إلى النفور من الفن وقررت التوقف عن الرسم بلا عودة. استمرت القطيعة طيلة مرحلة دراستي الجامعية وحتى تخرجي أي خمس سنوات. وقصة القطيعة باختصار، بدأت عندما شاركت في مسابقة للرسم من خلال أستاذ المادة في مدرستنا، وكنت خلال العام الدراسي اسأل المدرس عن النتائج ليخبرني دوماً بعدم ظهورها بعد.

وتشاء المصادفة بعد مضي العام ويزيد أن أعرف من أحد الأصدقاء، عن فوزي بالمرتبة الأولى وحصولي على شهادة وجائزة نقدية، ولم أصدق حتى رأيت شريط الفيديو حيث استلم الأستاذ الجائزة نيابة عني دون إخباري بذلك. بالطبع لم يكن الإعلام المرئي والمطبوع آنذاك يغطي مثل تلك الأنشطة.

كانت صدمتي كبيرة ونفرت من الفن وكل ما يرتبط به.لكن تشجيع الوالدة الدائم لي حفزني للعودة، وهكذا عدت إلى الفن عام 2006. واجهت في البداية صعوبة كبيرة، وتطلب مني استعادتي لقدراتي الفنية ما يقارب من العامين مع المثابرة المستمرة. كانت هذه العودة بمثابة ولادة جديدة لي، حيث بدأت بالواقعية ثم الـتأثيرية.

هل تلقيت أي دعم فني خارج إطار العائلة؟

تعاون الفنان مع المواهب الشابة أمر نادر، ويرجع ذلك لنرجسية الفنان المرتبطة بسيادته في الساحة بصورة عامة، ولا أنسى النصيحة التي قدمها لي قريبي ومثلي الأعلى في الفن، المبدع عبدالقادر الريس إذ قال لي كلمة واحدة (أنتج).

كما أسعفني الحظ مرة ثانية عام 2008، حينما توقف الفنان مطر بن لاحج أمام عمل لي شاركت به في أحد المعارض، وقال لي (أنت صاحب موهبة ومدرسة فنية بحد ذاتها). وأضاف، (أنت فعلاً فنان. وهذه الكلمات لا أقولها لأي كان). ومعه بدأت مرحلة جديدة في مسيرتي الفنية، حيث شجعني ووفر لي مرسماً بمقره. بالطبع توفر المرسم والبيئة الفنية يشكلان دافعاً قوياً للمزيد من العطاء والمثابرة والتقدم، ومنه تعلمت أن أكون صارماً وحازماً مع نفسي أسوة به.

قيل عن لوحاتك في الفن التجريدي أنك تقلد الفنان عبدالقادر الريس، ما هو ردك؟

الفرق كبير بين التقليد أو النسخ وبين التأثر. منذ طفولتي وأنا محاط بلوحاته، وكم أمضيت من أوقات وأنا أرقبه وهو يرسم، وعليه فمن الطبيعي أن أتأثر به وبألوانه إلى حد كبير، وأعتبر نتاجي في هذا الإطار أحد المراحل الضرورية والطبيعية التي مررت أو أمر بها، والتي ستساهم في صقل وبلورة أسلوبي الفني لاحقاً.

ما الذي تطمح في الوصول إليه؟

اتجهت مؤخراً إلى الرمزية من خلال أسلوب الواقعية، وتركيزي حالياً على اليدين اللتين تختزلان ما يعتمل في فكر الإنسان وحياته، وأرى فيهما أصدق تعبير ولغة. جلَّ طموحي أن أقدم في كل لوحة أنجزها ما هو أجمل من الواقع، ليقف المشاهد أمامها في حالة من التأثر والاستغراق والتفاعل، والتأمل الطويل. وعلى صعيد آخر أتمنى أن أتابع مسيرة روادنا الفنانين ورسالتهم وأشرف اسم بلدي مثلهم في المحافل الخارجية.

من هم الفنانون الذي أثروا بك بصورة تقارب من طموحك؟

على الصعيد المحلي عبدالقادر الريس، أما على الصعيد العالمي لطالما استوقفتني أعمال الفنان الفرنسي كلود مونيه (1824 1926) بمشاهد الطبيعة والأنهار التي رسمها، وكذلك لوحة العشاء الأخير للإيطالي ليوناردو دافنشي .

Email