قلوبهم في الشرق وأقلامهم في الغرب

الفرنكوفونية واللغة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أسئلة كثيرة يطرحها الأدب الفرانكفوني الذي هيمن طويلاً على المشهد الأدبي في بلدان المغرب العربي، ومن بينها:هل يشكل هذا الأدب تهديداً للغة العربية حيث تنشط دور نشر والصحف والمجلات باللغة الفرنسية والجمهور الذي ينتظر؟

قال الروائي الجزائري كاتب ياسين (إن اللغة الفرنسية منفاي)، وفي هذا المنفى،أبدع عشرات الروايات بل وأبدع في اللغة الفرنسية التي أضاف لها ذائقة جديدة كما فعل غالبية الكتّاب الفرانكفونيون، وعلى الخصوص جورج شحادة وصلاح ستيتية والطاهر بن جلون وأمين معلوف ورشيد بوجدرة وغيرهم. ونحن هنا لا نريد أن نثير إشكالية هذا الأدب بل علاقته وتأثيراته على اللغة العربية لأن بعض هؤلاء الكتّاب يطرحونها كلغة بديلة لأن اللغة العربية (قاصرة) عن التعبير كما يدعون بل ويذهب البعض إلى أنها عاجزة!

فقد نسب لهذا الكاتب قوله (لقد عشت فترة طويلة في فرنسا، وأعرف كيف تفهم هنا المسألة التي يريد الكاتب الجزائري نقلها من خلال نتاجه، كيف تحوّر وتشوّه، وكيف أن (الماكنة) الأدبية والصحافية والصالونات والجوائز الأدبية، تفضي كلها، في نهاية المطاف، إلى مؤامرة كبيرة ضد الجزائر، وضد أفريقيا والعالم الثالث، وكل ما هو نحن)؛ ونحن في نظر كاتب ياسين (اللغة والتراث والموروث الشعبي والإسلام والتقليد وكل شيء).

أما الكاتب المغربي طاهر بن جلون، فانه يعتبر اللغة العربية فيها من القداسة والرهبة ما يمنعه مني الكتابة بها، ويعترف أن لغته الفرنسية تتفوق على لغته العربية.

وشعر رشيد بوجدرة بالأسف وهو الذي كتب سبع روايات باللغة الفرنسية في أواخر حياته إلى الكتابة باللغة العربية، منها: (التفكك) و(يوميات امرأة من ورق) و(معركة الزقاق) قائلاً: (إن استغلال الفرنسية في المغرب العربي سيظل دائما عملية سامة-ويتساءل- لماذا اللجوء إلى نمط ثقافي آخر لتغيير مجتمعنا؟ لماذا نعمل هنا على تطوير أدب مكتوب باللغة الفرنسية؟ وهل حدث أن سعى شعب ما إلى البحث عن جذوره في لغة أخرى غير لغته)؟

الطاهر بن جلون ورشيد بوجدرة يمثلان قطبي المشكلة: الأول واصل الكتابة بالفرنسية لعدم تمكنه من الإبداع بالعربية والثاني انتقل إلى الكتابة بالعربية دون أن يبدع كما أبدع باللغة الفرنسية التي يمتلكها ويسيطر على أدواتها.

وتجد اللغة العربية نفسها محاصرة من قبل الفرانكفونية والبربرية(الأمازيغ) والثقافة الأمريكية الزاحفة مع العولمة في حين تقف وزارات الثقافة العربية في هذه البلدان عاجزة عن التصدي لهذا المّد.

لكن السؤال الجوهري هو: هل أن تصاعد الفرانكفونية سيؤدي إلى التأثير على اللغة العربية، خاصة أن سوق العمل يطالب بإتقان اللغات الأجنبية، وخاصة الانجليزية في عملية التوظيف. وهذا ما يؤثر بالتالي على القيم العربية وتراثها المكتوب باللغة العربية، فاللغة هي الأم التي تحمل الجنين، وتربيه فيما بعد.

في الواقع، إن الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، جاء نتيجة ظروف استعمار هذه البلدان.

هل كان من الممكن أن يكتب رشيد بوجدرة، ادريس شرايبي، محمد ديب، مالك حداد، طاهر بن جلون، محمد ديب، مالك حداد، طاهر بن جلون، محمد خير الدين، عبدالكبير الخطيبي، عبداللطيف اللعبي، عبدالوهاب المؤدب، رشيد ميموني، مصطفى التليلي، أمين معلوف ؟ جورج شحادة وعشرات غيرهم باللغة العربية؟.

هل يتصور هؤلاء الكتّاب أن كتاباتهم من شأنها أن تقوّي الأدب الفرنسي، ولا تضيف شيئاً إلى الإبداع العربي لأن الإبداع يتشكل من اللغة أولاً وأخيراً. اللغة روح الإبداع وقلبه. ولم تفلح محاولات الترجمة في نقل هذا الأدب إلى اللغة العربية لأن الترجمة أفقدت حيويتها وبريقها، إضافة إلى أنه لا يعثر على قرائه. ولا يخلو هذا الأدب من محاولات الاستقطاب الفرنسي إلى صالح لغتها وثقافتها، بل أنها خلقت هذه الصيغة المسماة بــ (الفرانكفونية).

وهي تنافس اللغة العربية برموزها. أنصار الفرانكفونية يعتقدون أن الفرانكفونية من شأنها أن تسعى لتقريب الشعوب وتنمية التعاون بينها بينما يعتقد أعداؤها بأن تسعى إلى تغرب الثقافة العربية في بلدان المغرب العربي وأفريقيا التي تتميز بالازدواج اللغوي.

مشروع الفرانكفونية، كما هو واضح من خلال دعاته، مشروع ثقافي يتطلع إلى غايات سياسية محددة، وبدأ يتحرك من خلال تنفيذ المقرارات المتخذة من أجل نشر اللغة الفرنسية وثقافتها باستعمال أساليب متعددة مثل شبكات التلفزيون عبر الأقمار الصناعية. (قناة تي. اف. ‬5 وفرانس ‬24) بدأت تبث برامجها إلى دول المغرب العربي) إضافة إلى الكتب والصحف والمؤسسات التعليمية التي تسعى إلى اكتساح ثقافي قد يؤدي إلى خلخلة مكونات الهوية العربية في المستعمرات الفرنسية القديمة ومنها دول المغرب العربي.

وتعيش اللغة العربية في ظل الفرانكفونية وضعاً صعباً، فهي مهمّشة، ويتوضح ذلك من خلال مبيعات الكتّاب العرب في بلدان المغرب العربي الذين لا تروج كتبهم كما يتم الترويج عن الكتب الصادرة باللغة الفرنسية لمؤلفين عرب. ولو قارنا مبيعات كتب الطاهر بن جلون وأمين معلوف بالكتّاب الذين يؤلفون باللغة العربية، نجد الاختلاف كبيرا، من خلال ترويج الجوائز والمكافآت والحوافز للأدب الفرانكفوني. ولا يزال الأدب العربي يفتقر إلى البنية التحتية التي تساعد في ترويجه وترقيته.

ويؤكد عبدالكبير الخطيبي أن الأدب الفرانكفوني لم ينته بعد لأنه لا يزال كتاب وأدباء مغاربة شبان يكتبون نصوصا أدبية بالفرنسية.

 

طمس معالم اللغة العربية

فالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية يثير إشكاليات عديدة ما دام له أنصار ومعارضون، المعارضون لهذا الأدب يتهمون الكتاب المغاربة بالتعبير الفرنسي بأنهم يهيمون في فلك (التذبذب الثقافي) لكن الحقيقة تشير كما أكدت جميع الأبحاث والدراسات والتقارير إلى أن الاحتلال الأجنبي حاول دوما طمس معالم اللغة العربية ومحاولة إحلال اللغة الأجنبية محل اللغة العربية في بلدان المغرب العربي، وهنا نتساءل:

هل يمكن أن نعتبر الكتابات المغربية التي ظهرت في عهد الاستعمار ثقافة تذبذب وتغريب؟

ثمة من يعارض الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية مشيرا إلى أن هذه مخصصة لقراء غير عرب كما يؤكد على ذلك الكاتب المغربي عبدالكريم غلاب بقوله: (أعتقد أن العرب الذين يكتبون بالفرنسية قد يرضون الفن وقد ينقلون صورا من مجتمعهم إلى قراء غير عرب.

ولكن مشاركتهم في النضال عن طريق الفن محدودة لأن قراءهم العرب محدودون جدا. وأذهب بعيدا فأقول أن هؤلاء يتمثلون ، وهم يكتبون بالفرنسية ــــ الفكر الفرنسي والمجتمع الفرنسي أكثر مما يتمثلون مجتمعهم العربي لأن اللغة لها أثر في الفن كما أن لها أثرا في الفكر).

وانطلاقا من الرأي القائل بأن الشكل قد يخفي المضمون، فأن الكتابة بالفرنسية قد تحد من مضامين الكتاب والأدباء العرب الذين يكتبون بها ولا يكون لهم التأثير الكافي في إثارة المجتمع في الوقت الذي يؤكد فيه عبدالكريم غلاب على أهمية اللغة العربية.

إن الوضع الثقافي- السياسي في المغرب العربي، سواء أثناء الاستعمار أو فيما بعد الاستقلال، يتميز بخصوصية المعرفة، فالكتابة باللغة الفرنسية لم تكن تعبر عن نزهة عابرة، ذلك أن الاستعمار الفرنسي فرض سياسة التجنيس وطمس معالم اللغة العربية بكل الوسائل لكن سياسة التغريب التي سادت ردحا طويلا من الزمن فشلت في كل من الجزائر وتونس والمغرب .

ولم تنجح أمام اللغة العربية المتجذرة في وجدان الناس. في الحقيقة لم تعد المسألة رفض أو قبول هذا الأدب لان هذا الأدب أصبح الآن حقيقة ماثلة في تاريخنا، وجزءا لا يتجزأ من الإبداع العربي، فالقيم الروحية العربية السائدة في أغلب هذه الكتابات تدل دلالة واضحة على أن هذا الوعي هو جزء من تاريخنا وأن الاغتراب الثقافي لم يعد سلطة قائمة بعد أن كان مستفحلا في الأرض العربية ردحا من الزمن. فالأدب العربي المكتوب واكب ورصد عهد الحماية الفرنسي وزمن الاستعمار الإسباني، وعلى الخصوص في المغرب وأصبح بذلك سجلا للتاريخ السياسي والاجتماعي والفكري. ويطرح المعارضون لهذا الأدب مجموعة من التساؤلات: ما قيمة هذا النتاج؟ وإلى أي حد يساهم في نمو الثقافة العربية؟

 

Email