الكاتب السعودي سعيد السريحي: النقد حرمني من الشعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبرز اسم الناقد السعودي الدكتور سعيد السريحي في أكثر من مجال إبداعي، حيث قدم مجموعة دراسات نقدية تتسم بطابع التخصص العلمي المعمق. وأيضا كتب الشعر باللغة العربية الفصحى وبالعامية المصرية، وذلك بعد أن كان بدأ مشواره الإبداعي في مجال القصة. فانعكست ماهية هذه التعددية الإبداعية لديه، بشكل أو بآخر، على مضمون عمله بصفته نائبا لرئيس تحرير صحيفة «عكاظ»، والمشرف على الصفحات الثقافية فيها.

 

كيف اتجهت إلى النقد، وهل كانت الكتابة النقدية طموحك في يوم من الأيام؟

ربما يعود السبب في توجهي نحو هذا المجال إلى تعلقي بالنظرية، وكذلك شعوري بالرهبة أمام الإبداع.

وقد بدأت في الكتابة حين كنت في المرحلة الثانوية، حيث ركزت على حقل القصة، وكانت تنشر لي بعض الأعمال في الصحافة، آنذاك، ثم كتبت القصيدة بعدها. ولكنني فعليا أشعر برهبة خاصة في هذين المجالين، تجعلني غير قادر على أن استشعر وفائي لشعور القص، أو لشروط الشعر.

وأما بالنسبة للنقد، فالمسألة هنا انطلقت من قاعدة نظرية علمية محكمة رسختها دراستي وقراءاتي وتخصصي في هذا المجال. وأحبذ الإشارة هنا إلى أنه لو كان بيد الإنسان أن يكون ما يشتهيه، لأردت شخصياً أن أكون شاعراً.

متى تكتب الشعر، وكيف تنبع أرضية إلهامه لديك؟

لو كنت أعرف متى أكتب الشعر ما كتبت إلا فيه، غير أن للشعر سلطته وقسوته المفرطة، فهو يأتي حين يريد، ودائما نجده يذهب حين نريده أن يبقى.

وكيف تفسر ما يقوله بعض الشعراء بأنهم يكتبون بقرار؟

مبدئيا أتمنى أن تكون لي إرادتهم كي أكتب مثلهم، الأمر الآخر لست أعرف كيف يأتي الشعر بقرار؟!. الشعر سيد مطاع، فإن أصبح خادما أو عبدا لكاتبه، لا أعتقد بأنه سيكون شعرا.

خصصت دراستك النقدية عن الحداثة. لكن هل نمط الإبداع الآن هو في خانة الحداثة فقط، أم هناك درجات من الفوضى؟ ومتى يمكن تسميته بالحداثة أو الفوضى؟

الخيط بين الأمرين رفيع، وكلاهما ينطلق من حرية الإنسان، غير أن في الحداثة هناك الحرية المسؤولة، بمعنى الحرية القادرة على خلق نسق وخيط رفيع، يربط بين ما يبدو متراكماً. وهذا بينما أن الفوضى هي التعبير المطلق عن الحرية، وهي تؤدي إلى انفلات العناصر.

رأى الناقد علي الشدوي انك لم تُقرأ فعليا بعمق، وبذا فإنه يدعو إلى قراءتك مرة أخرى. هل تشعر فعلاً بأن كتاباتك في مجال النقد لم تصل إلى مرماها أو تحقق رؤاها؟

ربما أن ما يؤخذ علي في كتاباتي، وجود شيء من الغموض، وقد يتصل هذا بعمق وخصوصية الفكرة التي أريد أن أطرحها، وكذا بعجز أدواتي عن الإيصال. أشعر أحياناً بما قاله علي الشدوي حينما أكتشف من خلال المناقشات، أنني ذهبت في واد والذين يناقشونني في واد آخر، وربما يكون حديث الشدوي من باب حسن الظن بي.

 

علوم النقد

ما هي أدوات الناقد الجيد؟

اعتقد بأن أبرز المقومات والأسس هنا تتصل بمدى وعي الناقد لكنه وقيمة اللغة وعمق أسرارها، وأيضا تاريخها وتاريخ الكلمة. فمن دون ذلك يصبح الناقد عاجزا. وهناك ضرورة حتمية لتوافر ركائز التطور في مفهوم النقد، وهنا على من يعمل فيه أن يلم بما أنجز في مجال النقد من نظريات، وبما تم تحقيقه من تطبيقات في هذه المجالات، وقبل ذلك كله لا بد من تحقق شرط نزاهة الناقد حين يتناول عملاً إبداعياً ما، وصدقه أيضا. وذلك كي لا يبدو مروجا لعمل رديء، أو بالمقابل منتقصاً من قيمة الآخر الجيد.

لماذا نجد أن حركة النقد متأخرة عن النتاج والأعمال الإبداعية في العالم العربي، حالياً؟

أعتقد بأن العالم العربي يعاني كثيرا في المجالات العلمية، والنقد مجال علمي عميق، ونحن متأخرون في النقد كما متأخرون في علوم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، وعلوم الفيزياء والكيمياء والذرة. هناك تخلف عربي في مجال العلم، أما في مجال الشعر فنتكئ على أمرين، أولهما أننا أمة، عبر تاريخها، هي أمة قول، ونتكئ على جانب آخر مفاده أننا أمة تحسن السماع، أكثر مما تحسن التفكير.

لذلك سهل على الشاعر من خلال إرث قومه أن يكتب شعرا، وسهل على السامع من خلال طبيعة قومه، أن يسمع الشعر. وأما المسألة العلمية فهي مسألة تستدعي ضربا من التكريس للعلم، وضربا من الصبر عليه. ولكي نتفهم نظرية نقدية فنحن بحاجة إلى أن نتفهم جملة من التفاصيل والتطورات التي أفضت إلى هذه النظرية، ولكي يستوعب السامع هذه النظرية، عليه أن يفكر كثيرا، ونحن في العالم العربي بيننا وبين التفكير عداء.

هل نال الشعر العربي القديم حقه من النقد والدراسة، خاصة وأننا نفاجأ بالكثير من الأشياء التي لا نعرفها عنه؟

أعتقد بأن هذا المخزون لم نتعامل معه بعد بشكل يوفيه حقه، ففيه الكثير من الثراء الذي يمكن أن يغنينا لعقود مقبلة، والمشكلة هي أن بيننا وبين هذه النصوص مسافة زمنية أبعدتنا عن تصور العالم فيها. وهنا نتساءل مثلا أنه حينما كانوا يتحدثون عن الطلل أو عن الشمس أو المرأة كيف كانوا ينظرون إليها؟

 إن النص وحده لا يكفي، والدراسات التي تتم في حقول المثيولوجيا أو في حقول الدين أو التاريخ لا تكاد تعين الباحث على تبين هذه المعالم. شخصيا عانيت كثيرا في هذه المسألة حينما كتبت كتابي الأول عن أبي تمام وشعره، وعانيت هذه المعاناة مرة أخرى حين كتبت عن المحدثين في العصر العباسي، ذلك أنني أشعر بأن بيني وبين هؤلاء الشعراء مسافة تمتد مئات السنوات.

وهي لا تجعلنا مطمئنين إلى وعينا بالمفاهيم ذاتها، والبرهان هنا ما نستوعبه ونجده حين نقف أمام الصدمة التي أحدثها أبو تمام في عصره، ومن ثم نجد أننا نقرأ نحن شعر أبي تمام ولا نشعر بهذه الصدمة التي تجعل رجلا عالما مثل ابن الاعرابي يقول: «إن يكن هذا شعر فما قالته العرب باطل».

إذاً ابن الإعرابي كان يعي المسافة بين شعر أبي تمام والشعر العربي، ونحن الآن لا نكاد نعي هذه المسافة، فننظر إلى أبي تمام باعتباره امتدادا وسياقا، فكيف لنا أن نكتشف دهشة وفجيعة ابن الاعرابي تلك ونحن لا نمتلك حسه في معرفة الفارق بين أبي تمام والشعر العربي، إذاً ثمة مسافة لا تزال قائمة بيننا وبين هذا الإرث الذي نمتلكه.

 

من الجوهر إلى العالمية

العملية الإبداعية تسبق النقد، والنظريات تأتي بعد الإبداع على اختلافه، فهل هو موجود أو صحيح ما يؤخذ أحيانا على بعض النقاد في أن تناولهم لعمل ما مرتبط بطبيعة العلاقة بالكاتب: جيدة أو سيئة؟

إن المسألة متعلقة بنزاهة الناقد، من ناحية، ومن ناحية أخرى تتعلق بحذر الناقد من أن يعطي حكما معياريا، لذلك يجمل بالناقد حينما لا يرضى عن عمل، أن يلتزم الصمت أمامه، وقد يستقدم هذا العمل قيمة لم يستطيع الناقد أن يضع يده عليها، وعلى الناقد كذلك أن يكف عن الوصاية فيتناول ما يشكل قناعة له ويترك ما لا يشكل هذه القناعة، لذلك أعتقد بأن الصمت عن عمل ما هو حكم سلبي مبطن عليه.

وأما التناول فأعتقد بأن الناقد بحاجة إلى النص الذي يستطيع من خلاله أن يجرب أدواته النقدية، فالنقد هو الجسد الذي يجرب مدى فعالية ما نملك من أدوات، وعلى هذا الجسد أن يكون صامداً في تعامله أو في تعاملنا معه من خلال أدواتنا هذه. سأتحفظ على أمر آخر؛ وهو أن النقد لا ينطلق من الأعمال الإبداعية بمفهوم الشعر والقصة والرواية، فمجالاته قد تتسع لما هو أكثر من ذلك.

ودعينا نتذكر أعمال بروك على السير الشعبية، وكذلك أعمال ميشل فوكو على تاريخ الجنون أو تاريخ الجنس. لا بد من أن نتوقف قليلا أمام ما يسمى «النقد الثقافي»، أو الذي أصبح يتناول الصورة أو الحياة اليومية. إذا النقد، ولا أقول النقد بشكل مطلق، نرى أنه أصبحت له مجالاته التي يتعامل فيها ومعها، وهي مجالات أكثر اتساعا من أن تقف عندها: القصة أو القصيدة أو الرواية. وأشير أخيرا إلى أنه بالفعل ليس كل عمل يستحق النقد.

متى يمكن للرواية أن تخرج من ثوب المحلية لتصبح عالمية تحاكي الناس في كل مكان وزمان؟

ذلك يتحقق حين تكتشف الرواية ما هو جوهري في الإنسان، وما هو جوهري في المجتمع. وأيضا عندما يستطيع الروائي أن يقتنص الحدث الدال، وأن يقتنص التمفصل التاريخي للمجتمعات. فآنذاك سيشعر من يقرأ هذه الرواية العربية وهو في غواتيمالا مثلاً، أن هذه الرواية كتبت في غواتيمالا تماماً، وهذا كما نشعر ونحن نقرأ تولستوي أو ماركيز، أننا نكاد نقرأ عن بيت الجيران. هكذا فإنه إذا استطاع الروائي أن يلتقط الجوهري الإنساني في أعماله سيخاطب الإنسان في أي زمان ومكان.

ماذا عن إصداراتك المقبلة؟

فرغت قبل مدة من كتابين: «غواية الاسم» و«سيرة القهوة وخطاب التحريم»، وسيصدر الأخير عن المركز الثقافي العربي في بيروت ونادي الرياض في الرياض.

 

 

 

 

 

Email