لا يزال «شارع النهر» في بغداد يحظى بسمعته التي توارثها عبر الأجيال، كشارع للشباب، ومقصد أساسي للعرائس وسيدات بغداد وفتياتها، وان كان بريقه قد خفت بعد عام 2003، ودخول العراق عهد الاحتلال، وربما كانت بدايات الخفوت قبل ذلك، عندما فرض على البلاد منذ عام 1990 حصار هو الأقسى من نوعه.

وكان الشارع، الذي ولد مع ولادة الخلافة العباسية في القرن العاشر الميلادي، حسب ما يذكر الباحث عماد عبد السلام رؤوف، مطلا على نهر دجلة، غير أن تغير مجرى النهر وظهور الأرض عند حوافه، جعل البناء يمتد إلى تلك الحافات، ما «دفع» الشارع إلى الخلف قليلا. وكان اختيار الشارع بالأساس لغرض قصر كبير، كمتنزه للخليفة المأمون، عرف باسمه «القصر المأموني»، الذي صار مقرا رسميا للخلافة، ثم أعيد بناؤه في عهد المتوكل ليعرف بـ «قصر التاج»، ويتبوأ موقعه على شاطئ دجلة في منتصف «شارع النهر».

كان شارع النهر، وما يزال، يمتد بمحاذاة دجلة بأناقة أنثوية باذخة، حيث صاغة الذهب ومحلات الفساتين والأقمشة بألوانها المترفة وباعة التحفيات، حيث كان على كل فتاة مخطوبة أن تزور هذا الشارع لتنتقي أقراطها أو أساورها وحليها، وهو ما يسميه العراقيون «النيشان»، في طقس يوحي وكأن سرير الزوجية مركون في نهاية شارع النهر.

احتضان قصص الحب

ومنذ أربعينيات القرن الماضي، و«شارع النهر» يحتضن قصص الحب التي تتوج غالبا بعقد زواج، تتم كتابته وتوثيقه في المحكمة الواقعة في نفس الشارع، الذي ارتبط بحكايات الحب والزواج عند البغداديين، فأطلقوا عليه تسميات عدة، من بينها «شارع العرايس»، و«شارع الحسناوات».

وتكاد غالبية نساء بغداد المتزوجات، يجزمن على أن ملابس أعراسهن وتجهيزاتها نقلت إلى عش الزوجية من هذا الشارع، قبل أن يأفل نجمه إبان فترة الحصار الاقتصادي، ثم الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما تبعه من عمليات استهداف منظمة بالسيارات المفخخة لأسواق بغداد العريقة كالشورجة وجميلة وشارع المتنبي وغيرها. ويصف عمار ناجي صاحب محل، شارع النهر بأنه كان «منظومة حب متكاملة»، حسب تعبيره، تبدأ بعلاقة بين شابات وشبان يرتادون هذا الشارع، ثم تتطور بعض تلك القصص إلى الخطوبة فالزواج.

وبين أول القصة ونهايتها السعيدة، والكلام لا يزال لعمار، يجد الحبيبان كل مستلزمات عشهما الذهبي، ابتداء من الملابس النسائية والفرش والماكياج والعطور والمصوغات الذهبية التي تسمى «النيشان»، وانتهاء بكلمة الموافقة على الزواج التي ينطقها الحبيبان أمام قاضي المحكمة الشرعية وسط «شارع النهر»!.

ازدحام في المواسم

كان «شارع النهر» مزدحما في كل المواسم، صاخبا، يلفه ضجيج الحياة، لكن هذا الضجيج لا يمنع سماع «موسيقى ضحكات السيدات» اللائي يرتدنه في كل ساعات النهار، ويلبي بفرح وسرور كل احتياجاتهن، في كل مراحل حياتهن.

كانت محالّه عامرة أيضا بكل احتياجات الأطفال، مع استراحة خاصة للصغار، ومحال استراحة للسيدات اللواتي يتعبهن التفرج على كل ألوان الملابس، وتنوع الحاجات، وبريق الأساور في محال الصياغة. فقد كان الشارع يشتهر بالمقاهي النسائية المخصصة للاستراحة، بعد عناء التجوال في السوق والتبضع، والتي كانت تقدم لزبائنها القهوة والمرطبات.

وعرف عن «شارع النهر» حركته النشطة المتواصلة منذ الصباح، حتى ساعات الليل، حيث كان يزدحم بالعائلات الآتية من كل مكان للتبضع، ولاسيما مع اقتراب مواسم الأعياد. يقول توفيق إبراهيم صاحب محل إكسسوارات: كان شارع النهر ملتقى للعائلات البغدادية التي تجد فيه ضالتها من البضائع النسائية المختلفة ومستلزمات الأعراس، ومن المؤسف أن يفقد الشارع ملامحه التاريخية وحيويته التي عرف بها منذ عشرات السنين، خلال الفترة الماضية، بعدما تراجعت أنشطته، ولم تتبق منه سوى ذكريات ماضيه الجميلة.

في مدخل الشارع من جهة جسر الأحرار توجد محال صياغة المجوهرات والحلي الذهبية والفضية وبعض محال «الأنتيكات» المجاورة لبناية غرفة تجارة بغداد، التي تأسست عام 1926، تليها مجموعة من «الخانات» القديمة التي تحولت إلى محال تجارية، وهي خان دلّه وخان الباجه جي وخان الخضيري وخان النملة وخان النبكة وخان العادلية وخان الدفتردار.

ويضم الشارع عددا من الجوامع العريقة، أبرزها جامع الباجه جي، وجامع التكية الخالدية، وجامع العادلية الكبير، وجامع الخفافين، الذي يعد من أقدم الجوامع في بغداد، ويعود تاريخه إلى نهايات الخلافة العباسية.

سوق متخصص

وبعد تقاطع شارع النهر مع شارع السموأل يأتي سوق دانيال، الذي سمي بهذا الاسم، نسبة إلى أول من باع به، وهو يهودي عراقي يدعى دانيال، وهذا السوق متخصص ببيع لوازم الخياطة كافة، والى جانبه سوق لبيع الأقمشة النسائية والرجالية. وبالاتجاه نحو المدرسة المستنصرية، عند نهاية شارع النهر، هناك «سوق الخفّافين»، الذي أنشئ قبل 800 عام، واشتهر بمهنة «الريافة» وصناعة العباءات الرجالية والعقال العربي، وغيرها من الملابس الشعبية، وهو الطرف الأخير من الشارع، حيث يوجد مسجد وعدد من المقاهي حملت الاسم نفسه.

ويجمع أصحاب المحال على أن شارع النهر بدأ يفقد زبائنه منذ تسعينيات القرن الماضي، بسبب الحصار الاقتصادي، إذ أخذت هذه الفترة من طراوة ومخملية هذا الشارع شيئا فشيئا، حتى بدا الآن شبه مهجور، لا تدل على صورته الماضية سوى بعض الأماكن التي تحفظ للشارع تاريخه. فقد عانى «شارع النهر» من التراجع الاقتصادي منذ التسعينيات، حينما بدأ العراق يعاني من وطأة حصار اقتصادي شرس، لتتحول محاله إلى مخازن للمواد والسلع المختلفة، ويفقد وظيفته تحت قسوة الحياة الاقتصادية.

ويستذكر عدد من أصحاب المحال القدماء أن شارع النهر كان سوقا مزدهرا مشرقا خلال سبعينيات القرن الماضي، واستمر هذا الوضع حتى خلال الثمانينيات، على الرغم من أجواء الحرب العراقية ـ الإيرانية، إذ كانت النساء مقبلات بشكل كبير على شراء الذهب والمجوهرات، لأن دخل الفرد كان جيدا.

الأيام الخوالي

وبنبرة تشوبها الحسرة على الأيام الخوالي، يقول رياض حسن 52 عاما - صاحب محل أقمشة: كانت النساء يرتدن شارع النهر أكثر من الرجال، وكن سافرات، ويتحلين بأجمل الأزياء والموديلات الحديثة، وكان الرجال، وخصوصا الشباب يأتون للتبضع، وللمتع برؤيتهن أيضا، فيبدو الشارع ضاجا بالحياة، وتلفه أجواء الحب التي يشعر بها المرء بسهولة.

أما اليوم، فيبدو «شارع النهر» وكأنه يحاول النهوض من كبوته، ويصارع من اجل البقاء، مستعينا بوضع امني مستقر نسبيا، وقدرة شرائية لا باس بها، خصوصا بين الموظفات، اللواتي هجرن هذا السوق خلال سنواته العجاف الماضية. ويلاحظ أن هذه الحركة تقتصر على أوقات محدودة من الصباح وحتى ساعات الظهيرة، حين يبدأ أصحاب المحال بغلق أبوابها خوفا من إعمال العنف والسرقة.

بغداد ـ «البيان»