يشكل الصومال نموذجا صارخا للدولة الفاشلة التي تعد نتيجة حتمية لسقوط الأنظمة الديكتاتورية من جهة وتعتبر صناعة دولية من جهة أخرى. فكيف صنعت الدولة الفاشلة في الصومال وكيف تحولت إلى ديكتاتورية مقلقة.

عشية استقلال الصومال عام 1960 كانت موسكو كسبت شريكا مهما في قلب القارة الأميركية «كوبا» وصارت تبحث عن شريك وحليف في القارة الأفريقية وشبه الجزيرة العربية.

فكان الصومال بموقعه الجغرافي المتحكم بأحد أهم الشرايين الرئيسية للنقل البحري وللتجارة الدولية عموما، هو الشريك والحليف الذي سعت موسكو لكسبه، وما هي إلا عشر سنوات حتى تمكنت موسكو من إنشاء «كوبا» الإفريقية وتطورت العلاقات بين البلدين حتى أن الجنرال بري كان يسعى جاهدا للانضمام إلى الاتحاد السوفييتي ، غير أن ذلك ولأسباب عديدة لم يحدث ولم يدم شهر العسل السوفييتي الصومالي طويلا ، فوجد بري نفسه عام 1977 يخوض حربا ضد أثيوبيا ، غير مدرك أن «إثيوبيا» دون سواها أصبحت حليف موسكو الأول بل وصديقها الحميم.

انهزم الجيش الصومالي في تلك الحرب وتوقف الاتحاد السوفييتي عن إرسال الأسلحة والمعدات إلى الصومال، لتغرق البلاد في حالة من الفتنة على خلفية النزاعات الطائفية التي ازدادت قوة وشراسة غذتها قوى خفية وعوامل خارجية أدت في النهاية إلى الإطاحة بالجنرال بري عام 1991 فسادت البلاد الفوضى وغرق الصومال في الوحل.

وهكذا قدم سقوط بري وما ترتب عليه من فوضى أنموذجا لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع عندما تسقط الأنظمة الديكتاتورية والتي تدير الأمور بشكل يجعل بقاءها أفضل من التحول إلى دولة فاشلة.

بعد ذلك شعرت الولايات المتحدة ومن يساندها بنشوة الإطاحة برئيس كان حليفا لعدوها اللدود «الاتحاد السوفييتي» فدخلت القوات الأميركية إلى الصومال تحت مسمى قوات «حفظ السلام» وانتهى الأمر كما هو معلوم حين قتل 18 من أفراد القوات الخاصة الأميركية وعرضت السلطات المحلية أجسامهم الممزقة أمام الكاميرات فغادر الأميركان الصومال تاركين الأمور على ماهي عليه في بلد لم يعد بإمكانه البقاء دون المساعدات الخارجية.

وهكذا بتخلي المجتمع الدولي عن الصومال تعمقت حالة الفشل وأصبح الصومال دولة فاشلة بامتياز ، فدخلت البلاد في موجات متعاقبة من الصراعات والحروب ، وفشلت جميع المساعي الدولية التي لم تكن جادة في إنقاذ البلاد واكتف العالم بمحاولاته الخجولة تلك وبتقديم بعض المعونات الإنسانية للصوماليين داخل الصومال وفي الشتات خصوصا في اليمن وكينيا.

ووسط تخاذل المجتمع الدولي أخذت الصراعات الصومالية تتطور وتتحول مدعومة من قوى غير معلومة إلى نوع من الإرهاب الذي أخذ يتسع داخل الأراضي الصومالية و يتعاظم يوما بعد آخر ليتحول تدريجيا إلى «القرصنة البحرية» والتي أصبحت تشكل أنموذجا لما يطلق عليه العديد من المراقبين بـ «ديكتاتورية الدولة الفاشلة».

الأدهى وحسب تأكيدات رسمية من بعض دول الجوار الصومالي يتلقون دعما بل وتوجيها من العديد من الجهات الأجنبية المتوغلة في البلاد والتي لا تكتفي بتزويد هؤلاء القراصنة بالأسلحة، بل إنها تقدم لهم دعما لوجستيا وتدريبا فنيا عاليا. والمتتبع لعمليات القرصنة وأماكن تنفيذها يجد أن تلك الأعمال تتم على مسافات بعيدة داخل المياه، لا تقل عن 300 كم من شاطئ البحر، الأمر الذي يدل على مدى الحرفية والمهنية والتخصص الذي وصل إليه هؤلاء القراصنة، ما يؤكد بالنتيجة أن هناك من اعد ودرب وسلح وجهز هؤلاء القراصنة.. لكن السؤال يبقى من هو؟

الى جانب ما سبق هناك معلومات متضاربة عن الحسابات النقدية لقيادات القراصنة، وفي حال ثبوتها سيكون بالإمكان عندها الحديث عن أخطبوط المافيا المصرفية والتي يبدو أنها؟ والحمد لله - لا تنتمي لا للإسلام ولا المسلمين ، ذلك أن البنوك في المنطقة الإسلامية تخضع لأنظمة رقابة مصرفية بالغة الدقة، كما أنها تتسم بقدر عال من الشفافية مقارنة بالبنوك في المناطق الأخرى حول العالم خصوصا في أوروبا وأميركا.

وإجمالا يمكن القول إننا جميعا أصبحنا شهودا على «مفارقة» هذا العصر الذي نعيشه والمتمثلة في ديكتاتورية الدولة الهلامية التي لا وجود لها إلا على الخرائط الجغرافية، وكيف أن ديكتاتورية هذه الدولة الفاشلة حركت أساطيل العالم نحوها ، وكيف أنها شغلت مجلس الأمن الدولي الذي أصدر ثلاثة قرارات حولها في اقل من 6 أشهر.. إنها باختصار واحدة من عجائب هذا الزمن التي لا تنقضي.