عاد سؤال بحر قزوين يطرح نفسه بقوة على الساحتين الإقليمية والدولية، ولكن السؤال في هذه المرة لم يقتصر على النفط وتقسيم البحر، بل ركز بشكل أكبر على الجانب الأمني، وبقدر ما كان سؤال نفط بحر قزوين متصلا بشكل كبير بنفط الخليج العربي من حيث المنافسة والاحتياطي والإنتاج والاستثمارات، بقدر ما كان سؤال الأمن في بحر قزوين أيضا أصبح مرتبطا بشكل مباشر مع أمن الخليج العربي مع تصاعد الحملة الأميركية على إيران التي تقع بين البحر شمالا والخليج جنوبا، الأمر الذي جعل من قزوين هدفا استراتيجيا رئيسيا لدى العسكرية الأميركية بهدف تضييق الحصار على إيران من الشمال وفصلها عن روسيا.
هذا الأمر استدعى من موسكو تحركا سريعا لدى دول بحر قزوين الخمس للحيلولة دون دخول قوات أجنبية في المنطقة، ولتأسيس قوات عسكرية مشتركة بينهم تتولى مهمة حماية البحر ، خاصة بعد تصريحات قائد قوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا التي قال فيها ان واشنطن عازمة على نشر قوات وقواعد عسكرية في حوض بحر قزوين، واختارت واشنطن أذربيجان الملاصقة لإيران كقاعدة انطلاق لقواتها واضعة في اعتبارها خلافات البلدين حول تقسيم ثروات بحر قزوين، وأيضا خلافاتهما السياسية بسبب دعم إيران لأرمينيا في نزاعها مع أذربيجان حول إقليم «ناجورنو كاراباخ». ومازال الخلاف قائما حول تقسيم ثروات بحر قزوين بين الدول الخمس الواقعة عليه، فالوضع القانوني له لم يتحدد بعد؛ رغم الجلسات العديدة التي جمعت ممثلي هذه الدول الخمس على مدى نحو خمسة عشر عاما، أي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانت آخرها الجلسة العشرون لممثلي هذه الدول في موسكو، والتي كشفت عن خلافات ومشاكل جديدة على رأسها المساعي الأميركية لعسكرة بحر قزوين والسيطرة عليه أمنيا وعسكريا إلى جانب السيطرة على ثرواته النفطية.
الأمر الذي أعاد الحديث حول منافسة منطقة بحر قزوين لمنطقة الخليج العربي، ولكن في هذه المرة المنافسة لن تكون حول النفط فقط، بل حول الهيمنة العسكرية والسياسية، ما جعل البعض يستعيد مقولة رئيس تركمانستان الراحل صابر مراد نيازوف «رائحة الدم عادت تفوح من مياه بحر قزوين».
محاصرة إيران
التقرير السنوي الاستراتيجي لمجلس الأمن القومي الأميركي لعام 2000 يرجح أن الصراع حول بحر قزوين ممكن أن يصل إلى حد النزاعات المسلحة، وربط التقرير بين بحر قزوين في الشمال والخليج العربي في الجنوب كنقطتي حصار على إيران.
وأشار التقرير إلى ضرورة الاهتمام بأذربيجان كنقطة انتشار للقواعد والقوات العسكرية الأميركية في البحر وعلى اليابسة نظرا لموقعها العازل بين روسيا وإيران، وبدأت واشنطن في زرع الخلافات بين أذربيجان وإيران مستغلة في ذلك دعم إيران لجمهورية أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان حول إقليم «ناجورنو كاراباخ».
ووعدت الولايات المتحدة أذربيجان باستثمارات هائلة تتعدى العشرين مليار دولار في قطاع النفط في بحر قزوين حتى تحثها على الاستمرار في موقفها المضاد لإيران حول تقسيم ثروات البحر، و رغم اعتراضات موسكو الشديدة على أي تواجد عسكري أميركي في منطقة بحر قزوين، إلا أن أذربيجان دعت خبراء عسكريين أميركيين قاموا بوضع محطات رادار حديثة في البحر للتشويش على محطات رادار روسية موجودة في البحر منذ عام 1985، ضمن منظومة الإنذار الروسية التي أعدت للكشف عن أي هجوم صاروخي موجه لروسيا من الجنوب.
وقد دعا روسيا إلى طرح مبادرتها في الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الدول الخمس المطلة على بحر قزوين والتي طالبت فيها بعدم وجود أي قوات عسكرية أجنبية في حوض البحر، وقال وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف محذرا «إنه من السهل دعوة قوات أجنبية للمنطقة ولكن التجارب أثبتت أنه من الصعب بعد ذلك إخراج هذه القوات الأجنبية».
وطرحت روسيا في الاجتماع على الدول الخمس مبادرتها بتشكيل قوة عسكرية مشتركة بينهم لحماية أمن البحر ضد الإرهاب والتهريب وتخريب خطوط الأنابيب وسفن النقل، واقترحت أن تطلق عليها اسم «كاسفور» على غرار مجموعة «بلا كسيفور» الموجودة في البحر الأسود ، وأبدت إيران تأييدا كبيرا للمبادرة الروسية، وترددت أذربيجان وتركمانستان في إبداء موافقتهما ، إلا أن الضغوط الروسية وتحذيرات موسكو لأنظمة هذين البلدين من المخططات الأميركية والثورات الملونة التي تدعمها واشنطن في المنطقة دفعت البلدين لإبداء استعدادهما لمناقشة المبادرة الروسية.
النفط أم العسكرة
ويتساءل المحللون الروس عن سر اهتمام واشنطن البالغ الآن بالتحديد ببحر قزوين، هل هو النفط أم العسكرة ومحاصرة إيران شمالا وروسيا جنوبا ؟، حيث يرى البعض أن الهدف الرئيسي هو الهيمنة العسكرية وليس النفط، خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة يدها على النفط العراقي، خاصة وأن تكلفة استخراج النفط في بحر قزوين تعادل ثلاثة مرات تكلفة استخراجه في العراق ودول الخليج العربي.
ويقول د. ولفر دكول مدير برنامج الطاقة بجامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة ان تقديرات نفط بحر قزوين لا تؤهله لمنافسة نفط دول الخليج العربي، ولكن هذا لا يمنع من إمكانية تأثير نفط بحر قزوين على أسعار النفط العالمية بشكل كبير، خاصة وأن 90 % من هذا النفط لا يخضع لمنظمة أوبك، وتتحكم فيه دول ذات أنظمة حكومية شمولية توجهها سياساتها الخارجية أكثر من تأثيرات السوق والعرض والطلب، هذا في الوقت الذي زادت فيه حاجة الدول الصناعية للنفط والطاقة بشكل كبير في الأعوام الماضية.
الأمر الذي أدى إلى الارتفاع الجنوني لأسعار النفط، ويرى المحلل الاقتصادي الروسي بيوتر جونتشاروف أن الإقبال المتزايد على النفط وارتفاع أسعاره سوف يدفعان الاستثمارات الأجنبية للتوجه لبحر قزوين، وخاصة استثمارات دول تعاني من نقص الطاقة وزيادة الإنتاج مثل الصين والهند واليابان.
إن الوضع الآن في بحر قزوين يختلف عما كان عليه منذ أربع سنوات مضت، فالتواجد العسكري الأميركي في الخليج العربي يدفع واشنطن للمضي في تنفيذ مخططاتها للهيمنة على بحر قزوين ليس فقط عسكريا ولكن أيضا اقتصاديا، فالهيمنة العسكرية مطلوبة لمحاصرة إيران والتواجد العسكري في وسط آسيا، والهيمنة الاقتصادية مطلوبة للتحكم في مصادر الطاقة وأسعار النفط العالمية.
ولا يستبعد أن يؤدي تزايد اهتمام واشنطن ببحر قزوين إلى نشوء نزاعات مسلحة وحروب في المنطقة ، خاصة لو وجدت إيران نفسها محاصرة شمالا ومعزولة عن صديقتها روسيا التي أصبحت مصدرا رئيسيا لطهران في وارداتها من السلاح، الأمر الذي قد يدفعها إلى تفجير الأوضاع في مناطق تشغل أهمية وحساسية قصوى بالنسبة لواشنطن.
إضاءة
احتياطات نفط بحر قزوين غير مؤكدة ومبالغ فيها في أحيان كثيرة، حيث تضاربت التقديرات وتفاوتت بشكل كبير، وهناك من يقدر هذه الاحتياطات بنحو 200 مليار برميل نفط و600 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، بينما لم تقدره وزارة الطاقة الأميركية عام 2000 بأكثر من 40 مليار برميل، وهو التقدير الذي أقرته الوكالة الدولية للطاقة التي قالت في تقريرها عام 2001 إن احتياطي نفط بحر قزوين لا يزيد على 2.7 % من الاحتياطي العالمي، بينما احتياطي دول الخليج العربي يقدر بنحو 45 %.
د. مغازي البدراوي

