سيكولوجية الغيرة عند الأطفال

سيكولوجية الغيرة عند الأطفال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الطفل منذ يومه الأول مخلوق اجتماعي معقد، يشعر، ينظر ويعيش العالم المحيط به، وتدريجياً يعي ذلك أو يتفاعل معه. ويوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر يتطور النمو الجسدي والعقلي والانفعالي، كما تتطور علاقته بكل ما يحيط به ليتفاعل معه.

لا شك أن الطفل يقضي رحلة عمره هذه وبين يديه قائمة من الحاجات الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية والتعليمية والدينية والترويحية وغيرها. يطالب بها من حوله ويتوقع دائماً استجابة الآخرين له وإلا أصيب بالإحباط. وتختلف درجة احتياجه لكل نوعية من هذه الاحتياجات المتعددة طبقاً للمرحلة العمرية التي يمر بها والتي تتحدد من خلالها حاجاته الأكثر إلحاحاً وبالتالي يتحدد موقفه من الآخرين وموقف الآخرين منه.

والأسرة ألصق المجتمعات بحياة الطفل وهي المسؤولة عن توفير كل هذه الاحتياجات الأولية كالطعام والشراب والنوم وتوفير الراحة للطفل، وتعتبر الحاجات البيولوجية سهلة الإشباع إلى حد ما، ويسهل الحصول عليها، أما الحاجات النفسية: مثل الحاجة إلى الحب، فالحب للطفل هو الغذاء النفسي والروحي الذي تنمو وتنضج عليه شخصيته، كما يتغذى جسمه على الطعام فإن نفسه تتغذى على الحب والقبول.

وأيضاً الحاجة إلى الانتماء وإلى الأمن والاستقرار النفسي والحاجة إلى التقدير والنجاح والحرية، والحاجة إلى التوجيه وضبط السلوك والحاجة إلى المعرفة.وينبغي أن تكون البيئة التي يعيش فيها الطفل من النوع الذي يساعد على إشباع حاجاته المختلفة.

وحيث أن الأسرة تصاحب الفرد خلال مراحل تنشئته اجتماعياً وتتعاون مع البيئة في تغطية كل حاجاته الأساسية لذلك فلها الدور الأكبر في تلبية حاجاته النفسية والاجتماعية منذ الطفولة المبكرة.

أما إذا لم يتمكن الطفل من إشباع هذه الحاجات في البيئة فإنه يتعرض لكثير من عوامل الإعاقة والإحباط التي تؤدي عادة إلى نوع من الاختلال في التوازن أو عدم الملاءمة، ومشكلات التكيف الاجتماعي ومن هذه المشكلات الخجل، الانطواء، العدوان، الخوف، الاتكالية، مص الأصابع، الإفراط في الحركة، قضم الأظافر، التبول اللا إرادي، الغيرة.

وسنتناول في هذا الشرح الموجز عن إحدى هذه المشكلات وهي الغيرة وسنركز في هذا الجانب على طفل ما قبل المدرسة.إن أهم ما تتميز به مرحلة طفل ما قبل المدرسة من الناحية الانفعالية والاجتماعية هو العنف وشدة التأثير وعدم الاستقرار، فنوبات الغضب إلى حد التشنج والعدوان.

والخوف إلى حد الذعر، والغيرة إلى حد التحطيم والحزن إلى حد الاكتئاب والفرح إلى الابتهاج والنشوة، ثم التذبذب السريع بين هذه الحالات وكل هذه مظاهر عادية نلاحظها جميعاً بوضوح على طفل هذه المرحلة ولكن الشيء غير الواضح بالنسبة للمخالطين للطفل هي الأسباب التي تكمن وراء ذلك كله على أن ذلك يزول إذا أمعنا النظر في:

1ـ طبيعة الطفل في هذه المرحلة.

2ـ موقف القائمين على أمره من هذه الطبيعة.

ويتميز طفل مرحلة ما قبل المدرسة باعتماده كلياً على من حوله رغم ميله الشديد إلى الاستقلالية والذاتية. لكن هذا لا يعني أنه أصبح بالفعل مستقلاً بل يشعر تماماً أنه لا غنى له عن الاعتماد على الكبير مما يشكل بالنسبة للطفل ظروفاً يسهل منها خلق الصراعات الانفعالية العنيفة التي قد تترك في شخصيته وسلوكه أثراً باقياً .

ومن تلك الصراعات «الغيرة» وهي من العناصر المؤثرة في التربية وتسبب في مقتبل العمر كثيراً من أشكال الصراع الخفية وهي أمر كبير الخطر من الناحية الاجتماعية، وهي لا تثر في الطفل الغضب والحقد والشعور بالقصور فحسب، بل أنها تؤثر في مستقبل الحياة أثراً سقيماً يدفع إلى دوام الخلاف بين الفرد وبيئته.

مفهوم الغيرة: 1ـ 5 سنوات

هي مظهر انفعالي يوضح مدى الحساسية التي يكون عليها طفل ما قبل المدرسة من حيث علاقته العاطفية بوالديه.

وهي ظاهرة طبيعية صحية تدفع إلى التنافس الشريف بين الأفراد والجماعات، ولكن عندما تزيد على الحد المألوف تصبح ظاهرة مرضية ومصدر شقاء وهي حالة انفعالية معقدة تتكون عناصرها من حب التملك والشعور بالخوف من فقدان شيء والشعور بالنقص والغضب نتيجة الإحباط وتظهر ما بين السنة الأولى والخامسة من العمر.

وهي شعور مؤلم تنتج عادة من خيبة الشخص في الحصول على أمر محبوب أو مركز أو قوة أو مال ونجاح شخص آخر في الحصول عليه وهي انفعال مركب من حب تملك وشعور بالغضب لأن عائقاً ما وقف دون تحقيق غاية مهمة.

وتزداد حالات الغيرة في مجتمعاتنا عند البنات عنها عند الأولاد، وذلك لما يتمتع به الذكور في أغلب الأحيان من امتيازات تتمثل في التفضيل والاهتمام والحصول على قدر أكبر من الحرية والرعاية، كما تزداد حالات الغيرة في الأسر الصغيرة التي يتركز فيها الاهتمام بالطفل من ناحية الوالدين فقط، في حين قد تقل هذه في الأسر الكبيرة التي يجد الطفل فيها من يعوضه عن اهتمام الوالدين من أخوال وأعمام أو أجداد أو حتى أخوة كبار.

كذلك تقل مظاهر الغيرة إذا زاد الفارق الزمني بين المولودين حيث يمكن أن يشارك في رعاية المولود الجديد.وتعتبر الغيرة عاملاً مهماً في كثير من المشكلات كالتخريب ونوبات الغضب والنزعات العدوانية والتبول اللا إرادي وضعف الثقة بالنفس، وكم من الأطفال الذين سبق وتركوا «القنينة» يعودون إليها للتقليد والتعويض عن الشعور بنقصان العاطفة والحنو.

وتظهر الغيرة بأشكال مختلفة.. فمن الأطفال من يخبئ هذا الشعور ويكبته لأن النفس البشرية لا تقبل ألم الخيبة ولا شعور النقص ومنهم من يحاول لفت النظر لكسب الإعجاب من خلال إبراز القدرات ومنهم من يعبر عنها بروح عدائية رافضة.

مظاهر الغيرة

للغيرة مظاهر خارجية يمكن الاستدلال منها أحياناً على الشعور الداخلي، وفي غالب الأحيان لا يكون هذا سهلاً لأن الشخص في العادة يحاول أن يخفي الغيرة بإخفاء مظاهرها قدر جهده.. ويمكننا أن نلمس مظاهر الغيرة في التالي:

1ـ الغضب بمظاهره المختلفة من ضرب أو هجاء أو نقد أو تخريب أو ثورة أو عصيان أو ما يشبه ذلك من استخدام العنف وإتلاف الأملاك واللعب، وقد يصل العدوان إلى غيبة الأبوين إلى درجة يكون أكثر خطورة من ذلك.

2ـ الميل للصمت أو التهجم أو الابتعاد أو الإضراب عن الطعام أو النكوص إلى السلوك الذي يعود بالطفل إلى مرحلة سابقة كأن يلجأ الطفل إلى مص الأصابع أو التبول اللا إرادي بعد أن يكون قد ضبط عملية التبول، أو الحبو بعد أن تعلم المشي، أو التأتأة بعد أن يكون قد تعلم الكلام، وكأنما يتخذ الطفل من غريمه نموذجاً يحتذى في الحصول على اهتمام الوالدين.

3ـ محاولة الطفل الحصول على ما فقده بمختلف أساليب التحايل كأن يقوم أحياناً بتقبيل المولود وملاطفته حتى يحتفظ الطفل الأكبر بمركزه عند أمه وقد يكون هذا السلوك تعويضاً للشعور بالنقص.

4ـ الأعراض السايكوماتية مثل القيء والاضطرابات المعوية والعزوف عن الطعام أو فقدان الوزن وشعور بالتعب والصداع وأحياناً الاكتئاب، غير أن هذه المظاهر لا نراها إلا في الحالات المتطورة جداً في الغيرة وهي تشكل نسبة ضئيلة من حالات الغيرة عند الأطفال في هذه المرحلة.

أسباب الغيرة

1ـ الحرمان من العطف والحنان كأن يهتم الآباء بأحد الأبناء لأسباب تتعلق بأنه الوحيد بين البنات أو الوحيدة بين الأولاد أو لجمال الشكل أو لشدة الذكاء أو كثر المرض.

2ـ المقارنة والمفاضلة السيئة بين الأطفال سواء كانت صريحة أو ضمنية وهذا يؤدي إلى الشعور بالنقص وضعف الثقة بالنفس ويخلق العداء بين الإخوة والقلق النفسي والعصيان بدلاً من خلق الحافز للمنافسة والبذل لأنها لا تراعي الفروق الفردية والتكوين النفسي للأطفال.

3ـ مشاجرات الوالدين والتي تهدد أمن الطفل بفقد أحد الطرفين أو ما يلمسه الأطفال من المواقف الجنسية بين الوالدين.

4ـ الغيرة وليدة الأنانية فإذا ازدادت هذه الصفة تولدت الغيرة تلقائياً.

5ـ يغار الطفل أحياناً إذا وجهت الأم إلى والده عناية فائقة وسببها أنه ينازع الطفل المركز الذي يرغب فيه لنفسه عند الأم، فنلاحظ أن الطفل إذا رأى أبويه جالسين جوار بعض يقفز ليجلس بينهما ويفرقهما عن بعض لا شعورياً.

6ـ خوف الطفل من فقدان بعض امتيازاته أو احتياجاته الأساسية كالمحبة والعطف وكون شخص محبوب نظر لمولد أخ جديد له وكلما كبرت الاحتياجات التي تعطى لطفل ما زادت الغيرة عند انتقاصها منه وإعطائها لطفل آخر، وذلك كالطفل الأول أو الأخير أو الوحيد ويشعر حينها بأنه قد أتى من يحاول أن ينزع التاج عن رأسه أو على الأقل من يشاركه مملكته الصغيرة وكلما كثرت الامتيازات التي لدى طفل ما زادت الغيرة.

7ـ يغار الطفل عندما يزورهم طفل آخر ويثير انتباه والديه.

الدكتور الزين عمارة -استشاري ورئيس مركز الاستشارات النفسية والعصبية مستشفى النور

Email