الإسلام في عيون المستشرقين

ايتين مارك كاترمير .. رجل التنوير

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في هذة المقالات التي تقوم بنشرها «البيان» على مدى أيام رمضان المبارك، يقدم مستشرقون، ذوو مكانة علمية، شهاداتهم في فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية الحديثة، في انتشارها من الأندلس غرباً إلى تخوم الصين شرقاً، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في قدوم عصر النهضة، وما صحبه من إحياء للعلوم.

ينتسب هؤلاء المستشرقون إلى مدارس مختلفة، شرقاً وغرباً، عالجوا الحضارة العربية والإسلامية في أبهى تجلياتها من إعجاز القرآن الكريم إلى الآداب، ومن ثم إلى العلوم، ورؤوا في الإسلام ديناً متسامحاً وميداناً غزيراً للإبداع منذ عرف الغرب أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى لغاته، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل حضارة الغرب لتضيء الحياة الفكرية والعلمية. لم يتمكن المستشرق الفرنسي ايتين مارك كاترمير أن ينسى ليلة هرب أمه إلى القرية وإعدام الثورة الفرنسية لوالده، ذلك الأب الذي عاش متعاطفاً مع الفقراء حتى اكتظت قاعة المحكمة بهم وقت محاكمته.

وكان لويس السادس عشر قد أنعم بالنبالة لأسرته التي اتسمت بقوة الإيمان والعقيدة. وبرعت هذه الأسرة في العلوم، فقد أصبح ثلاثة من أخوته أعضاء في معهد فرنسا. وعلى الرغم من تدين أسرته إلا أن والده كان متفتحاً للأفكار الجديدة في عصر التنوير. وكان من أوائل الموظفين البلديين الذين انتخبوا في 1789، بعد قيام الثورة الفرنسية.وبدلاً أن تكون حادثة إعدام والده مثبطة لآماله، فقد راح يشق طريقه نحو دراسة التاريخ العربي والحضارة الإسلامية بلا كلل أو ملل، وتتلمذ على يد أستاذه المستشرق الكبير سلفستر دي ساسي، والذي ورث كرس عنه كرس الأستاذية بعد رحيله.

العيش بين المخطوطات... لعل عمله في المكتبة الكبرى في قسم المخطوطات في عام 1807 تأثير في توجهه نحو دراسة المخطوطات وتحقيقها. تبؤ كرسي تدريس اللغة اليونانية والعبرية والآرامية والفارسية في كل من مدرسة اللغات الشرقية الحّية والكوليج دي فرانس، أرفع مؤسسة أكاديمية في فرنسا آنذاك. وهذا كله أتاح له أن يقدم كتابه الهام «أبحاث حول اللغة والأدب في مصر» عام 1808 الذي أكد فيه أن دراسة اللغة في مصر القديمة يستوجب البحث عنها في اللغة القبطية. ومن ثم كتب «مذكرات جغرافية وتاريخية حول مصر». وهذا ما دفع بجان فرانسوا شامبليون أن ينشر قبل النضوج مؤلفه الهام مقدمة لكتابه «مصر تحت الفراعنة» . وبما أن كتابي ايتين كاترمير تركزا حول الأسماء القبطية للمدن المصرية، فقد أتهم شامبليون بالسرقة عندما نشر كتابه. وفي حقيقة الأمر، إن أحداً منهم لم ينقل عن الآخر. فقد تبينت اختلافات كثيرة بين تفسيراتهما إذ نشر كاترمير ترجمة لأجزاء من كتاب «تاريخ السلاطين المملوكيين في مصر»، وهو لم يكن مهتماً بتاريخ المماليك بقدر افتتانه بمفردات القرن الخامس عشر المزدهر بالقواميس. أما كتابه حول الأنباط 1835، وترجمته كتاب «تاريخ المغول في بلاد فارس» 1836 وبعض الترجمات الأخرى في مجلتي«المجلة الآسيوية» و«مجلة العلماء». وترجم إلى الفرنسية «السلوك لمعرفة الدول والملوك» للمقريزي و«مقامات الحريري» و«أمثال الميداني». وألف مجلدين عن اللغة العربية وآدابها وجغرافيتها وعلمائها. عني بالتاريخ الإسلامي، واهتم بنشر العديد من المخطوطات العربية.

الكتابة الهيروغليفية

كانت باكورة إنتاجه في الدراسات الشرقية بحث بعنوان «أبحاث نقدية وتاريخية عن اللغة والآداب في مصر» في 1808. وقد أثبت في هذه الأبحاث أن لغة مصر القديمة يجب أن يبحث عنها في اللغة القبطية، مقدماً البراهين القاطعة. وقد أفضت أبحاثه بعد سنوات قليلة، إلى حل مشكلة الكتابة الهيروغليفية. ومنذ أن عيّن أستاذاً «للغة العبرية والسريانية والكلدانية» في الكوليج دي فرانس ـ ظل يشغل هذا الكرسي قرابة أربعين عاماً ـ عني بالدراسات المتعلقة بالعهد القديم من الكتاب المقدس مما مهد له الطريق لدراسة اللغة الفينيقية والآرامية.

وقد بيّن كاترمير أن «الفلاحة النبطية» هو كتاب في الفلاحة ألّف في بلاد بابل في عهد نبوخذ نصر. وقد توالت الأبحاث بعد ذلك حول هذا الكتاب، نظراً لشدة الخلاف بين الباحثين في تحديد زمن تأليفه إلى أن نشر كاترمير كتابه «رسالة عن الأنباط».أما في ميدان الدراسات العربية والإسلامية فقد أنجز تحقيق الجزء الثاني من كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي بين عامي 1837 ـ 1845 في مجلدين، مع ترجمة تعليقاته اللغوية، والتاريخية، والجغرافية، وحياة المؤلف.

وفكر في ترجمة «خطط» المقريزي إلى اللغة الفرنسية، لكنه لم ينجزه كاملاً إلا أنه تمكن من إنجاز تحقيق كتاب «تاريخ مغول فارس». وكتب مقالات عديدة عن: عبد الله بن الزبير، والأمويين، والعباسيين، والفاطميين، و«الأمثال» للميداني، و«الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني وحياة المسعودي ومؤلفاته. وأهم من هذا كله هو انجازه العملاق بترجمة ابن خلدون في ثلاثة مجلدات عام 1858.

المقريزي بلغة موليير

احتفظت المكتبة الوطنية في باريس بعدد كبير من مخطوطات «خطط المقريزي» ما لفت انتباه المستشرقين له، فعادوا إليها واقتبسوا منها المقتطفات حول تاريخ مصر، وعلى الخصوص و المستشرق سيلفستر دب ساسي وليس لانجليه وايتين كاترمير وغيرهم.

وركز كارترمير على أهمية وتفرد الكتاب بالنسبة للتاريخ المصري، قائلاً: «يدخل موضوع هذا الكتاب في مجال فن كتابة الخطط «الطبوغرافيا» - وهو نوع من الجغرافيا التاريخية الإقليمية ــ الذي عرفته كثير من أقطار العالم الإسلامي مثل «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي و«تاريخ دمشق) لابن عساكر و«الاعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة» لابن شداد، في أوصاف طبوغرافية لهذه المدن، اختصت بها مصر الإسلامية، عبر تاريخها، إلى أن اكتمل هذا الفن في مؤلف المقريزي الضخم «المواعظ والاعتبار».

ويعتبر كتاب «خطط المقريزي» احد مفاخر التراث العربي، فهو اشمل وأوسع كتاب كتب عن مدينة إسلامية تناول فيه مؤلفه بطريقة تدعو إلى الإعجاب الظواهر التاريخية والعمرانية والطبوغرافية للمدينة».

وقد ركز المقريزي في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة الأولى، على العمران المدني للقاهرة التي أصبحت المركز الثقافي والسياسي للعالم الإسلامي آنذاك. وتناول المقريزي بوصف دقيق للشخصيات والأحداث والتقاليد والعادات والرسوم وغيرها. حتى انه «لا توجد - كما يقول كاترمير - من مدينة شرقية يمكن أن تفخر بمؤلف يبلغ مرتبة (الخطط)من حيث الاكتمال والطرافة كما هو الحال مع القاهرة».

ويعتبر كتابه أقدم كتاب متخصص في التاريخ العمراني، لا يوجد أقدم منه حتى أن كتاب «تاريخ فلورنسة»، الذي يعتبر أول كتاب في تاريخ المدن في أوروبا، فقد تم تأليفه في عام 1480 أي بعد وفاة المقريزي بنحو أربعين عاما.

مقدمة ابن خلدون في ثلاثة مجلدات

قام المستشرق الفرنسي بعمل هائل عندما أقدم على ترجمة «مقدمة ابن خلدون» في ثلاثة مجلدات، عام 1858 أي بعد وفاته بعام. وأعيد نشره ضمن دار مكتبة لبنان عام 1992. وظلت هذه الترجمة مصدراً لجميع الأوروبيين والغربيين. وقد ركز ايتين كاترمير على مائتي بيت من الشعر الهلالي من شمال أفريقيا، منها ستة عشر بيتاً من أشعار البادية في المشرق العربي. ولا نجد تلك الأشعار إلا في أقدم نسخة حققها المستشرق الفرنسي عام 1858 ، ثم نشرت في بيروت عام 1970.

لا بد من الإشارة إلى أن مكتبة ولاية بافاريا، وهي واحدة من أهم المكتبات الجامعية في اوروبا، وتحتوي على نحو 10 ملايين كتاب تقريباً، ومخطوطات بأكثر من 45 لغة، أقدمت على شراء مجموعة إتين كاترمير المكونة من 1200 مخطوطة تنتمي على بلدان الشرق الأوسط والهند. وهناك عدد كبير من أعمال المستشرق الفرنسي لم يتم نشرها.

ترجم الحريري والمقريزي وابن خلدون وأبي فرج الأصفهاني والمسعودي

في سطور

ايتين كارتمير (1782 / 1857). ولد في باريس من أسرة توارثت التجارة في الأقمشة الصوفية، وفي الوقت نفسه برز فيها في ميدان العلم نخبة ممتازة. لكن ميوله الحقيقية ما لبثت أن تكشَّفت، فبدأ في دراسة اللغات الشرقية، وبدأ منها بالعبرية، ومنها انتقل إلى اللغة العربية، فتابع دروس سلفستر دي ساسي في الكوليج دي فرانس.

وعين في قسم المخطوطات بالمكتبة الأهلية بباريس حيناً من الزمان، ثم ترك هذه الوظيفة ليصبح أستاذاً للغة والآداب اليونانية في كلية الآداب بجامعة روان (بشمالي فرنسا). وعاد إلى باريس 1811، وبقي فيها حتى نهاية حياته. وفي 1815 ـ وكان قد نشر عدة مؤلفات أكسبته شهرة واسعة ـ انتخب عضواً في أكاديمية «النقوش والآداب».

وفي 1819 عيّن أستاذاً في الكوليج دي فرانس، في كرسيّ اللغة العبرية والسريانية والكلدانية. وفي 1832 خلف الأستاذ شيزي في كرسي اللغة الفارسية بمدرسة اللغات الشرقية ـ الحيّة بباريس، إلى جانب كونه أستاذاً في الكوليج دي فرانس، التي ظل فيها حتى آخر عمره. وتوفي في أكتوبر 1857 في باريس.

إضاءة

أهم ما حققه المستشرق الفرنسي اتين كاترمير هو ترجمة خطط المقريزي ومقدمة ابن خلدون، وقدم للحضارة الغربية شربانيين هامين في نهضتهما هما: العمران وعلم الاجتماع، اللذين أبدع فيهما العرب، وسبقوا الأمم الأخرى فيها. كما ربط ذلك باهتمامه باللغات وتأليف المعاجم، والغور في أسرار اللغات ومنها الهيروغليفية التي فك رموزها اذ تمكن من نشر المعرفة العربية وإعطاء صورة مشرقة للتراث العربي والحضارة الإسلامية.

من آرائه

من يريد فهم القرآن الكريم والمجتمع العربي الإسلامي عليه إجادة اللغة العربية ومعرفة أسرار بلاغتها اللغوية

قالوا عنه

لقد أراد كاترمير أن يكون لاهوتياً، ولاهوتياً ذا نزعة عقلية، لكنه لم يُرضِ بهذا أحداً. لقد كان يقترب أحياناً من المدرسة التي تسمى في ميدان التفسير، باسم المدرسة العقلية، وهي تنزع إلى أن تجد للوقائع التي تقدم على أنها خارقة ـ تجد لها تفسيرات تاريخية.

إنه لم ينكر المعجزات، بيد أنه لم يردَّ منها إلا أقل مقدار ممكن. وحين يلتقي بمعجزة «صعبة الإنجاز»، على حد تعبيره الساذج، فإنه كان يسعى إلى التخفيف منها أو إلى تفسيرها بعمليات طبيعية وسوء فهم. وقد اقتاده هذا إلى تدقيقات قليلة الجدوى بالنسبة إلى الفيلولوجيا. فهو مثلاً، كان يميز بين المعجزات التي لا تقتضي إلا انتهاكاً للقوانين السارية على سطح كوكبنا (الأرض)، وبين المعجزات التي تقتضي وفقاً للنظام الشمسي كله، مثل معجزة يوشع.

وعلى الرغم من أن القدرة الإلهية عظيمة جداً، فإنه اعتقد أنه يخفف عنها بإعفائها من مثل هذا الجهد. لهذا لم يقرّ بأن الشمس أو الأرض قد توقفتا على صوت يوشع، وإنما اعتقد أن غيمة محملة بالحجارة مرت أمام الشمس فجعلتها تُظلّم لحظة من الوقت. ولما كانت الغيمة قد أفرغت حمولتها فوق الكنعانيين، فقد عادت الشمس إلى الظهور، وكما إننا في وطيس المعركة لا نشعر بمرور الزمن بدقة، فإن أصحاب يوشع اعتقدوا أن النهار قد استطال لمصلحتهم.أرنست رينان

مؤلفات

ــ مذكرات جغرافية وتاريخية حول مصر

ــ مصر تحت الفراعنة

ــ مذكرات حول الأنباط

ــ تاريخ مختلط لفقه اللغة المقارن الشرقية

ــ أبحاث حول اللغة والأدب في مصر

ترجمات

ــ مقدمة ابن خلدون

ــ تاريخ المغول في بلاد فارس

ــ تاريخ السلاطين المملوكيين في مصر

ــ السلوك لمعرفة الدول والملوك للمقريزي

شاكر نوري

Email