عمره 70 عاماً وزبائنه شواب وشباب

مقهى الشارقة الشعبي.. مأكولات ب«الأبيض والأسود»

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على ضفاف عصرية تسترخي ضاربة في قدمها عقوداً من الزمن، كل شيء من حولها يوحي بعكس ما تجود به.. مكانها هناك على بحيرة خالد في الشارقة؛ يعج بمواصفات الحداثة والترفيه.

وعلى طول الشارع المحاذي تزدحم المحلات والمطاعم بماركاتها العالمية، وفي المحيط ضجيج لا ينقطع يوحي بروح عصرية دائمة الحضور من الليل إلى الليل دون توقف.. أما هي فلا تزال شاهدة على عراقة شعب بماضي لا يجرأ أن ينسلخ عن جسد الحداثة.في زمن تلاشت فيه كل أسباب البساطة والعيش المتواضع، وطفت على السطح كل مقومات الغلاء والتعقيد والتقليد و«البريستيج»، قد يستحيل توقع مكاناً يجمع بين المقهى والمطعم والمجلس الشعبي.. يحكي أروع القصص والمواقف، ويسجل أجمل لحظات المتعة المتجددة، في أجواء مفعمة بالرومانسية وبوتيرة عالية من الخصوصية والإتقان.

المقهى الوحيد

ذلك المكان يتخذ في شكله التقليدي الفريد من نوعه أنسب المواقع على بحيرة الشارقة، فيما تزخر أركانه بزبائن مختلفة الأجناس والأعمار، وهو الذي يوفر ركناً خاصاً للعائلات، جملة من الخدمات والامتيازات متوفرة في ذلك الركن الأوحد على مستوى الإمارات، الممتد على مساحة تقدر بنحو ألف متر مربع.

وهي بالتأكيد وعلى الرغم مما يحيط بها من أوجه الغلاء، إلا أنها لا تلغي مبدأً اعتمد منذ عقود، يتحدد في الإبقاء على الأسعار الرمزية للمنتجات الشعبية المقدمة والتي تبدأ من الشاي «الكرك» والقهوة وحتى المأكولات والمشاوي الشعبية، أسعارها تتحدد بين درهمين و15 درهماً كأقصى مبلغ يمكن أن يدفعه الزبون في ذلك المكان.

إنها القهوة الشعبية في الشارقة، التي يزيد عمرها عن سبعين عاماً، فهي أول مقهى شعبي وجد على مستوى الإمارة، وهي التي بدأت العمل منذ العام 1937 وكان موقعها في سوق «العرصة» القديم على شاطئ البحر، ذلك المكان الذي ظل لسنوات ملتقى للتجار من مختلف دول العالم، وقد بدأت تلك القهوة الشعبية بمبادرة عائلية.

ولا تزال تحت إدارة وإشراف الحاج عبد العزيز محمد جاسم الذي يتجاوز عمره الثمانين عاماً، والذي كان حين إنشاءها شاباً صغيراً ولحسن حظه فقد عايش لحظات البداية على بساطتها مع أبيه وعمه وجده، الذين اهتموا بأدق تفاصيل ذلك المكان المتواضع في سوق العرصة، وكان اسمه في ذلك الوقت «قهوة سارباز».

وفاء الأجيال

الحاج جمال أبو محمد واحد من عناوين الماضي الراسخة، إلى يومنا هذا يواظب على قضاء أمسية اشتهاها منذ عقود من الزمن ولا يزال يحافظ على جماليتها مع مجموعة أصدقاء له ترعرعوا سوياً منذ الصغر.

وهو يقول إن المقهى برائحته الفريدة يختصر له وللكثيرين ممن ألفوا ذلك المسمى في صباهم، سنوات طويلة تزخر بمختلف أشكال المتعة والذكرى التي لا تنسى، وهو شخصياً لا يقبل في يوم من الأيام أن يخلد إلى فراشه دون أن يدوس بقدمه عتبة ذلك المكان، وقد أصبح بالنسبة له تقليداً لا يمكن البقاء من دونه..

الحاج جمال يأتي إلى المقهى باستمرار ويجلس على طاولة محددة، كراسيها تتكئ على ملامح تراثية مختلفة، وهي التي اعتاد الجلوس عليها منذ عشرات السنين، لذلك ستبقى قريبة من روحه ووجدانه طالما أن في العمر بقية.

المقهى الشعبية؛ «قهوة سارباز» قديماً حظي بحضور شعبي متميز ونال مكانة مرموقة ورفيعة في نفوس من اعتادوا البقاء فيها لأطول وقت ممكن.. ففي السابق وفي سوق «العرصة» بالتحديد كان يجتمع سكان مدينة الشارقة شيباً وشباناً، وفي ذلك المقهى كان التجار يلتقون ويستريحون وأحياناً يبيتون فيه.

لذلك نال ومنذ القدم مكانة كبيرة في النفوس، وظل منذ ذلك الوقت المكان الأنسب للجميع، حيث أنه يوفر المبيت للزوار والتجار، ويقدم لهم المأكولات والمشروبات الشعبية التقليدية التي يشتهونها، التي لا تزال إلى الآن السلعة الراسخة في المقهى الشعبي الساطع بأركانه التراثية.

انتقال وثبات

في فترة الخمسينات انتقلت المقهى من مكانه الأول في سوق العرصة إلى السوق القديم في الشارقة، وهناك أيضاً واصل نهجه التراثي الذي لا يتحول، وبحكم العلاقة الأصيلة التي تربط الزبائن بذلك المكان، فقد توجه إليه زبائنه التقليديين بحثاً عن متعة قديمة متجددة لا يجدونها في مكان سوى «قهوة سارباز» الشعبية.

وبعد ذلك الوقت أغلقت لفترة من الزمن، حتى أعيد افتتاحها في العام 1982 بموقعها الجديد والحالي على بحيرة الشارقة، وحينها حرصت بلدية الشارقة على التواصل مع الحاج عبد العزيز محمد حتى يتولى إدارة وتسيير أعمال القهوة، التي لم تعد مجرد مشروع تجاري خاص، وقد ارتقى بدلالاته التراثية والقديمة إلى مسمى تراثي يخص إمارة الشارقة رسمياً.

حيث تم تعيين مالكها قديماً على ملاك بلدية الشارقة ليتولى أمر القهوة الشعبية القديمة، وذلك بحكم درايته بخصوصية ذلك المكان وأهميته التراثية والاجتماعية التي تعود لأكثر من سبعة عقود من الزمن.

عبد العزيز محمد الذي يتولى بمساعدة أبنائه إدارة ذلك المقهى، محافظاً على أدق التفاصيل التقليدية والتراثية، أكد أن الأكلات والمشروبات الشعبية التي كانت تقدم قبل 70 عاماً لا تزال متاحة للزبائن على اختلاف أعمارهم وجنسياتهم، وبأسعار قليلة تحاكي واقعها في السابق.

مشيراً إلى أن المقهى الشعبي في الشارقة هو المكان الوحيد على مستوى الدولة الذي يوفر مأكولات ومشروبات شعبية تراثية بأسعار رمزية، حيث أن الهدف منه ليس ربحياً أو تجارياً بقدر ما هو المحافظة على التراث وعلى اسم وعنوان عايشه الأجداد لسنوات طويلة.

استعادة الماضي

وقال عبد العزيز إن المقهى الشعبي ومنذ انتقاله ليتخذ من بحيرة الشارقة موقعاً له شيد على شكل «عريش» متواضع، ودام على هذا الحال حتى العام 2004، حيث خصص لها مبنى تراثياً تقليدياً بكل ما يحتويه من أركان ومسميات.

وقد حظي تصميم مبناها الحالي بشكله التراثي المميز باهتمام مبالغ وإشراف ومتابعة مباشرة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للإتحاد حاكم الشارقة، لا سيما وأن ذلك المبنى يتبع حالياً لهيئة التراث في إمارة الشارقة.

عنوان ثابت في زمن التحولات

مضى أكثر من سبعين عاماً، وما زال المقهى الشعبي قابضا على الكثير من الخصوصيات التراثية ومن ألوان القدم المعهودة، لكنه حتماً لم يتمكن من المحافظة على كل شيء كان موجوداً ضمن أركان مقهى «سارباز» قديماً، وكما يقول صاحب المقهى فإن كل شيء في قهوته الشعبية نابض بروح التراث الأصيل، إلا التلفاز ذو الشاشة الكبيرة.

والعمال الأجانب البالغ عددهم 12 عاملاً، وهم القائمون على إعداد المأكولات والمشروبات الشعبية، وإن كان للحاج عبد العزيز لمسة إشرافية يومية لا يتخلى عنها كما يقول، فإن لم يحالفه القدر الحضور إلى مقهاه في أحد الأيام، حتماً تجده يصر على تذوق وتفحص كل ما يطهى في المقهى، وهو جالس في بيته..

الهدف من إصراره هو الإبقاء على جودة الماضي لذة في أفواه وقلوب وأذهان الحاضرين، فهو مقهى وجد ليظل ثابتا في زمن يتحول فيه كل شيء.

الشارقة - عنان كتانة

Email