الغوص في أعماق الذاكرة الغائبة فكرة لا تلقى رواجاً عند العديد من البشر، وسلوك يشبه البحث عن إبرة في كومة القش، أو الإبحار ضد التيار عندما لا يكون الجو ملائماً..
ولا الريح مواتية، فهو عمل يواجه بعامل مصيري اسمه «الوقت».. سيما إن كان الأمر يتعلق بالتوثيق، فأعداد من يحتفظون بالذاكرة الأعمق في تناقص، بينما يبقى العمل البحثي أقصى ما يمكننا تدوينه بمداد الذاكرة البشرية التي تحمل على عاتقها ما تنوء به الحواسيب والأقراص. معجم المصطلحات البحرية في دولة الإمارات العربية المتحدة هدية الباحث الإماراتي جمعة بن ثالث للمكتبة الإماراتية. الزاخرة بأعمال التراث التي توثق تاريخ وثقافة الوطن، ومحاولة جادة لاعتماد مرجع أساسي باللهجة المحلية في كل ما يتعلق بالبيئة البحرية في الدولة وما تضمه بين دفتيها من أدوات ووسائل نقل ومناطق وغيرها، والمعجم عمل بحثي وطني أشرفت عليه جمعية الإمارات للغوص وتولت دعمه هيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي في بادرة لدعم كافة أشكال العمل البحثي والتوثيقي وجعله في متناول الأجيال المقبلة.
رحلة البحث
كان العمل على جمع المصطلحات البحرية وتدوينها مزودة بالشرح الدقيق أمراً تطلب رحلات عديدة من البحث والاستقصاء بحسب جمعة بن ثالث المشرف على إعداده، و«استمرت رحلة تدوين المعجم ست سنوات من العمل، بدأت بحب الاستطلاع وجمع المعلومات من خلال مجالسة كبار السن من «النواخذة» ومن امتهنوا الصيد وخرجوا في رحلات الغوص.
حيث حرصت في كل رحلة على اصطحاب ما يمكنني من تدوين أي معلومة جديدة». ولم يكتف بن ثالث بذلك، بل سعى إلى التوسع في البحث عن المعلومة عبر عدد من الرواة، فكان يستقي معلوماته من ثلاثة إلى أربعة رواة لكي يتم اعتمادها كما راعى عند بدئه في تدوين المصطلحات الفروق في استخدامات ومعاني المفردات من إمارة لأخرى.
واعتبر بن ثالث أن مشروع البحث عن المصطلحات البحرية وتدوينها في معجم مازال مستمراً، فهو يعمل على إعداد الجزء الثاني من المعجم، وأكد أن رحلة البحث والتقصي قائمة بفضل جهود المؤسسات الراعية للمشروع في المزيد من الدعم.
لاشك أن مشروعاً بحجم معجم متخصص للمصطلحات البحرية عمل له أهداف يلخصها بن ثالث في رغبته تثقيف الجيل الشاب بمكون مهم في الثقافة الإماراتية وهو البيئة البحرية ومدى ارتباط شريحة كبيرة من سكان الدولة بها، باعتبارها شكلت ولا تزال مصدراً رئيسياً للرزق لدى العديد من العائلات، إلى جانب كونها جزءاً أساسياً لفهم تراث الدولة وحضارتها، ما يعمل على تعزيز الهوية الوطنية.
وبناءً على ذلك تم اختيار هيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي لدعم المشروع وتبنيه باعتبارها حلقة الوصل بين المعلومة والطلاب وانطلاقاً من دورها في توفير مواد تعليمية وثقافية مساندة لمنهاج التربية الوطنية.
مصطلحات وصور
تستحوذ المصطلحات التي تم تبويبها بترتيب أبجدي على 270 صفحة من القطع الكبير، مزودة بالمعاني وأحياناً بالصور متضمنةً المفردات المشروحة والتي تم التقاط عدد منها خصيصاً للمعجم. بينما تشمل المفردات كل ما يمت للبيئة البحرية بصلة، مثل أنواع الكائنات البحرية، وأسماء الجزر ومغاصات اللؤلؤ وأنواعه وأهم المناطق الساحلية، كما أنه يعرض أدوات الصيد وتفاصيلها الأكثر تعقيداً بالإضافة إلى أنواع الرياح وعلاقاتها بمواسم الصيد.
كما يستوقف المتصفح للكتاب التنوع الذي غلب على مصطلحاته. فتدرج بالعرض بدءاً بالمفردات البسيطة والتي مازالت متداولةً مثل الدانة (أجود أنواع اللؤلؤ) مروراً بالأسماء الفنية والتقنية ووصولاً إلى أكثرها تعقيداً أو المفردات المهملة مثل «خاكه» وتعني أردأ أنواع اللؤلؤ.
ويعرض المعجم تفاصيل جمالية في اللهجة المحلية، حيث تطرق لعدد من الألفاظ التي تبدو متشابهة في النطق والكتابة. ولكنها تختلف بشكل جوهري في المعنى، مثال على ذلك مفردة «دوباي» والتي تعني الرياح الشمالية التي تهب على المنطقة الواقعة بين جزيرة سلامة وساحل الباطنة في عمان؛ أما مفردة «دوبايه» فهي الحجم الكبير من قراقير الصيد.
إلى جانب الرواة والمتعاونين الذين بلغ عددهم 32 بين «نوخذه» مارس المهنة وباحث استهواه ركوب أمواجها، اعتمد بن ثالث على 15 مرجعاً في إعداد المعجم وحصر مفرداته، وتناولت المصادر التي تم اعتمادها موضوعات ذات علاقة بالبيئة والكائنات البحرية. وأخرى حول رحلات الغوص على اللؤلؤ والصيد وطرق صيد الأسماك وصناعة السفن والتقاويم البحرية، إلى جانب عدد من المعاجم الخاصة بالمصطلحات العامية وأسماء الأسماك في الدولة ودول الخليج.
وتطلب العمل على إعداد المعجم إيجاد الصور ذات العلاقة بالمفردات، مثل صور السفن والأسماك وبعض الكائنات البحرية التي استوجب الوصول إليها الغوص تحت الماء حيث تم تصويرها خصيصاً للمعجم، وتم الاستعانة بفريق من المصورين الإماراتيين المحترفين ممن ساهموا في إنجاح العمل بدءاً بالتصوير والإخراج الفني وتصميم الغلاف، كما تولى فريق عمل كبير العمل التطوعي لإنجاز المعجم وإصداره بصورته النهائية حيث تولى عدد منهم التصوير والتنسيق والمتابعة ومعالجة الصور إلى جانب الدعم الفني والتقني من قبل عدد من الجهات والمؤسسات المختصة بالبيئة البحرية والتراث.
صور متحركة
إن تصفح المعجم هو أشبه بالغوص في مياه البحر الذي احتضن صفوة ذكريات الأهالي وأطلقوا على كل جزءٍ فيه اسماً تخليداً لمكونات تلك العلاقة المتأصلة. فالقارئ هنا يسمع هدير المياه.. ويستشعر اتجاهات الرياح.. يتحرك في جنبات المراكب والسفن. يوغل في العمق ويغوص في أعماق الكلام مستعرضاً أدق تفاصيل رحلة الغوص.. سائحاً مختلف سواحل المنطقة وجزرها متداخلاً مع تعرجات رمالها.
هنا نلتقط أشعة من ضوء الكلام، ونستعرض بعض ما جاء في المعجم. مجموعة أداوت الطواش (بائع اللؤلؤ) التي تتكون من الصندوق المسمى «البشتخته» والطوس (الأوعية المعدنية) التي يصنف بها حصيلته ودفتر أوزان اللؤلؤ والعدسات والميزان وغيرها تسمى «دَسْته»، والمفردة تشمل عدداً من الكلمات التي راعى المعجم شرحها مثل «الطواش» و«البشتخته».
هناك أيضاً القرقور وأنواعه وأحجامه، فالقرقور بحسب المعجم هو مصيدة الأسماك ويتواجد بأحجام عدة، وأحدها «الدوبايه» وهي أكبر أحجام قراقير الصيد، والقراقير تتخذ شكل الأقفاص بحيث تكون لها قاعدة وقبة وفتحات مخروطية تدخل عبرها الأسماك.
ويذكر المعجم في باب النون عدداً من مغاصات اللؤلؤ، والمسماة نيوة مثل نيوة آدم التي تقع بالقرب من مملكة البحرين وميوة ارحمه في دولة قطر ونيوة فريحات وبن حنضول التي يصل عمقها إلى 10 أبواع.
وعكفت جمعية الإمارات للغوص منذ تأسيسها في عام 1995 على تنمية الموروث البحري والحفاظ عليه، عبر عدد من الفعاليات والأنشطة التي تنظمها بهدف تشجيع رياضة الغوص وممارستها وفق المعايير الدولية.
ويأتي المعجم ثمرة لجهود تحرص الجمعية على دعمها لإيمانها بضرورة دعم الهوية الوطنية، حيث أشار بن ثالث إلى أنه يجري العمل مع هيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي لتوزيع الموسوعة على كافة مدارس الإمارة، وإقامة دورات تدريبية وتثقيفية للمعلمين والمعلمات والطلبة لاعتمداها مرجعاً أساسياً في دعم منهاج التربية الوطنية.
كما تعمل الجمعية بالتعاون مع هيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي على تنظيم دورات تدريبية على الغوص المفتوح للطلبة في المدارس الحكومية خلال ملتقى المعرفة الصيفي الذي تنظمه الهيئة.
أمل الفلاسي