ربطت الرئيس عرفات علاقات ود واحترام مع عدد من القيادات العالمية. واكتسب مزيداً من الاحترام والتقدير بسبب إخلاصه ووفائه لأصدقائه، خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تعرّض لها هؤلاء الأصدقاء في بعض الأوقات. والظروف الصعبة هنا تعني الكثير فقد تعرض بعضهم للاغتيال وتركت عائلاتهم دون راع.

وبعضهم تعرض لهجمات وانقلابات وشرد. لكن الرئيس ياسر عرفات كان دائماً وفياً لأصدقائه وأميناً على عائلاتهم وبذل كل ما أمكنه ضمن (إمكاناته) لمساعدة هذه العائلات وأصدقائه.

خصلة الوفاء هذه ميزة من ميزات شخصية ياسر عرفات. وهو يشعر دائماً بالمسؤولية تجاه شعبه وأصدقاء شعبه ومن وقف مع شعبه في نضاله من أجل الحرية والاستقلال.

ورغم تساؤلات البعض عما يدفعنا لدعم هذه العائلات وهؤلاء القادة، استمر ياسر عرفات في الوفاء لأصدقائه ودعمهم، لأنه كان يعلم أن هذه خصلة نبيلة، تجعل من قضية شعبه ومنه شخصياً رمزاً للتضامن من أجل الحرية والاستقلال.

أحد عوامل تحوله إلى عملاق عالمي كان حرصه والتزامه بدعم الأحرار في العالم كلما تمكن من ذلك وحسب إمكاناته المتاحة.

ذو الفقار علي بوتو صديقه قتل، وترك عائلة مشردة، حرص الذين اغتالوه على إذلالها وحرمانها من كل الحقوق. وكانت ابنته بنازير، طالبة في الجامعة فتكفل بكل ما يلزمها.

كذلك أولاد لومومبا، كنيث كاوندا، وغيرهم.

إنه الفارس النبيل الذي لا يرضخ لميزان قوى جائر، ليبتعد عن أصدقائه وعائلاتهم. بل يتحدى الجميع، كروبين هود، لينصف المظلومين حسب قدراته.

والعلاقة التي ربطت ياسر عرفات بعائلة غاندي علاقة حميمة ومثيرة ولها معانٍ كبيرة. فقد كان معجباً جداً بالمهاتما غاندي حين كان طالباً.

جواهر لال نهرو، كان زعيماً من زعماء العالم الناهض، عالم دول عدم الانحياز، الذي أرسى أسسه وأقام صرحه عام 1960 كل من جوزيف بروس تيتو العملاق (يوغسلافيا) وأحمد سوكارنو العملاق (إندونيسيا) وجمال عبد الناصر العملاق (مصر) وجواهر لآل نهرو العملاق (الهند).

وقد غاب العمالقة جميعهم عن الحياة وبدأ بالبروز عمالقة آخرون منهم ياسر عرفات، وأنديرا غاندي، وفيديل كاسترو ومانديلا السجين.

في ظل الصراع بين معسكري الشرق والغرب (حلف الناتو وحلف وارسو)، قرر هؤلاء العمالقة الخروج من دائرة النفوذين الشرقي والغربي وأن يشقوا لشعوبهم وشعوب العالم طريقاً ثالثاً أسموه طريق عدم الانحياز أي «عدم الانحياز» للشرق أو للغرب.

وعدم الزج بشعوبهم ومصالحهم في أتون الصراع الذي أطلق عليه فيما بعد «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفييتي ومن يقود من الدول التي انطوت تحت اللواء الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة والدول التي انطوت تحت لوائها لمواجهة الدول الشيوعية التي اعتبر الغرب أنها خلف الستار الحديدي.

مؤسسو حركة عدم الانحياز ضموا منذ اللحظة الأولى ملياراً ونصف مليار من البشر ليقولوا كلمتهم في هذا الصراع. كانوا ينادون بشن المعارك ضد الفقر والتخلف ومن أجل التنمية الاقتصادية، ومحو الفقر، ورفع مستوى التعليم ومحاربة الأمراض، والسلام العالمي.

كان لقاء القمة في باندونغ (إندونيسيا) ولقاء القمة بريوني حدثين ضخّا زخماً لا حدود له لهذه الحركة الجديدة، فراحت الدول المستقلة حديثاً والمتعثرة اقتصادياً، تنضم تباعاً لهذه الحركة النبيلة.

توفي جواهر لال نهرو في الرابع عشر من نوفمبر عام 1964. وبدأت حقبة جديدة في الهند: حقبة أنديرا غاندي، التي قادت بشجاعة الأمة الهندية من الفقر المدقع إلى إنشاء الصناعة وتطويرها وإلى أخذ الأمة الهندية دورها في السياسة العالمية: دور يوازي ثقل هذه الأمة عدداً وثروة وإمكانات.

معظم ما كتبه جواهر لآل نهرو في السجن أو خارجه، كان موجهاً لأنديرا غاندي.

أنديرا غاندي كانت ابنة نهرو. وكان نهرو مهتماً طوال الوقت بتثقيف ابنته وتوعيتها، منذ نعومة أظافرها، حول مبادئ سامية: الحرية، الاستقلال، حق تقرير المصير، حقوق الإنسان، التنمية الاقتصادية.

وكان هو قد درس في كلية هارو الشهيرة (إنجلترا) وتخرج من جامعة كمبريدج (إنجلترا) قبل أن يعود للهند وينتخب رئيساً لحزب المؤتمر ويصبح أول رئيس وزراء للهند عام 1947، بعد استقلالها.

مؤلفات نهرو جميعها كانت مهداة لابنته أنديرا، التي خلفته في رئاسة الحكومة بعد أن انتخبت رئيسة لحزب المؤتمر ولكتلة المؤتمر البرلمانية في العام.

رفضت أنديرا أن تستلم رئاسة الحكومة عام 1964 بعد وفاة والدها. فقد شعرت بفراغ كبير وإحباط شديد بعد وفاة نهرو، الحدث الذي أنزل بالأمة الهندية حزناً قاتلاً وخيمت على الهند موجة من الحزن لم يسبقها سوى تلك الغيمة من الحزن التي خيمت على الهند عندما توفي المهاتما غاندي.

فقدت زوجها فيروز غاندي، الذي توفي شاباً وفقدت والدها وأصبحت وحيدة مع ولديها.

رفضت في البداية كما قلنا تولي المسؤولية السياسية لكنها عادت وقبلت في العام 1966. ومنذ تلك اللحظة ظهرت شخصية أنديرا غاندي وبرزت عندها كل المواصفات والقدرات التي زرعها ونماها والدها نهرو. وأصبحت أول امرأة تقود أمة بأكملها وتحولت في شتى أنحاء العالم رمزاً للنساء المكافحات من أجل حقوق ومساواة المرأة بالرجل.

* اغتيال غاندي

وفي العام 1971 انتصرت في الانتخابات انتصاراً كاسحاً، ثم أقصيت لاحقاً تحت تأثير اتهامات بالفساد لكنها خاضت معارك قضائية وعادت للحكم عام 1977. وأجرت انتخابات في العام 1980 لتفوز فيها فوزاً منقطع النظير وكرست بذلك قيادتها للهند تكريساً ديمقراطيا قوياً.

وراح أعداؤها يخططون للتخلص منها وتحطيمها فاغتالوا ابنها الأكبر بتفجير طائرته الصغيرة التي كان يقودها في أجواء نيودلهي.

ثم اغتالوها هي عندما أطلق النار عليها حرسها الخاص (من الهندوس). وكانت قبل اغتيالها بأيام قد جمعت عائلتها، راجيف ابنها الثاني وزوجته وأطفاله، وأعلمتهم أنها تخشى من المؤامرات التي تحاك ضدها وأوصتهم بالانتباه، وحذرت أحفادها من اللعب خارج أسوار المنزل. ثم أملت عليهم تفاصيل الجنازة التي تريدها لنفسها في حال اغتيالها.

وكنت أنا، قد نبهتها ونحن خارجان من مكتبها في نيودلهي في العام 1984 من خطورة التحرك وحدها ودون حماية عسكرية عندها نظرت إليّ وقالت: أنا لا أخشى الموت لقد انتخبني الشعب بأغلبية كبيرة وهذا يعطيني ثقة بالنفس لا حدود لها.

امرأة عظيمة المواهب وتملك طاقة لا حدود لها. درست في جامعة الشاعر والفيلسوف الهندي الكبير، طاغور وأكملت تعليمها في جامعة أكسفورد بإنجلترا. وقادت الهند نحو مستقبل أفضل وأدخلت بلدها نادي التصنيع والحاسوب.

تلك هي المرأة التي أعجب بها الملايين وأعجب بها ياسر عرفات وأعجبت هي بياسر عرفات. منذ السبعينات ربطت ياسر عرفات بأنديرا غاندي علاقة متينة صلبة على أسس سياسية واضحة: الحرية والتطور والنمو للشعوب.

ونمت العلاقة لتصبح حميمة على صعيد شخصي وعائلي فقد وجد الاثنان، كل منهما في الآخر، الجانب الذي يفقده. رأت فيه الرجل المكافح بشرف وصلابة من أجل حرية شعبه، كما كان والدها، ورأت فيه القائد الذي تتمنى أن يصبح على شاكلته ابنها، ورأى فيها الحكمة والصلابة والقوة والاستقلال وكرامة أمة بأكملها.

الحميمية في العلاقة كانت لا تخفى على أحد، عند السلام وأثناء الحديث وأثناء الطعام. وكان ياسر عرفات أحد القلائل من بين أصدقائها، الذي أدخلته عرينها وأصبح ياسر عرفات يعامل وكأنه أحد أفراد أسرتها.

كان عرينها ممنوعاً على الكثيرين فقد كانت تخشى على أحفادها وعلى ابنها، تحميهم وتعمل جاهدة لينهلوا من العلم والحكمة ما نهلت منه هي وكان ياسر عرفات مصدراً من مصادر المعرفة والحكمة. وأصبح يلقب داخل البيت من قبل أبنائها وأحفادها «العم».

وأصبحت أنديرا غاندي بالنسبة لعرفات، مصدراً من مصادر الحكمة والنصح، ومناقشة التطورات وبلورة المواقف والقرارات، وكذلك هو بالنسبة لها. وظهر ذلك جلياً في مجموعة دول عدم الانحياز وفي الأزمات التي واجهتها أنديرا غاندي وواجهها هو.

فقد واجهت أنديرا غاندي عواصف خطيرة مع الباكستان وفي كشمير وبنغلاديدش وسريلانكا.

وواجه هو عواصف وأزمات في الأردن ولبنان وبالطبع مع الإسرائيليين.

اغتيالها أصابه في الصميم. ولم أره حزيناً كما رأيته عندما تلقى الخبر. ومنذ جنازتها، يقوم ياسر عرفات بزيارة قبرها ليروي الشجرة التي زرعها أمام ذلك القبر وينحني بإجلال ويقف مفكراً، متذكراً أمامها لدقائق عدة.

غياب أنديرا الأليم، عمّق العلاقة الحميمة مع عائلتها فالعم ياسر عرفات تحول إلى «القريب الوحيد» لهم فهو صديق والدة راجيف، وجدة الأحفاد (أولاد راجيف).

واستمر الجميع ينادونه «العم». حتى راجيف، كان يناديه العم عندما يكون معه في جلسة خاصة وعندما أصبح راجيف رئيساً للوزراء، ازدادت زيارات ياسر عرفات للهند ووثق العلاقة بينهما وبين الفلسطينيين.

كان يعلم أن راجيف يشعر بالوحدة القاسية بعد رحيل أمه وأخيه، ومن قبلهما رحيل أبيه وجده. كان يشعر بأنه أصبح وحيداً في مواجهة أعاصير الهند وتناقضاتها الداخلية المعقدة. ولا شك أن الحديث مع ياسر عرفات، الذي وضعت أمه أنديرا ثقتها فيه، أعطاه المزيد من الثقة بالنفس وبث فيه روح الشجاعة لمواجهة عواصف الهند، وللسير بخطى ثابتة في السياسة الخارجية لدولة كبيرة كالهند.

أثناء إحدى زياراته لراجيف والهند، أقيم احتفال كبير ألقيت فيه الكلمات قبل أن يضع ياسر عرفات حجر الأساس لقاعة جامعية كبيرة، تبرع بها ياسر عرفات باسم الشعب الفلسطيني للجيل الهندي الجامعي.

وكانت الهند تمر آنذاك بموسم زراعي سيئ، إذ أتى الجفاف على المزروعات.

في ذلك الاحتفال، راح الخطباء الواحد تلو الآخر يلقون الكلمات ويؤكدون على التلاحم بين الشعبين الهندي والفلسطيني.

وعندما جاء دور الرئيس ياسر عرفات انهال المطر الغزير من غيوم كانت ملبدّة لأيام دون أن تفك أسر المطر. وتتابع المطر الغزير... غزير جداً لدرجة أن السرادق المقام في العراء أمام موقع القاعة لم يصمد.

وتعالت الهتافات، وتعالى الشكر وردد الحضور اسم ياسر عرفات.

وعلى مائدة العشاء في تلك الليلة، تبودلت كلمات الترحيب والتحية كما هي العادة، فبدأ راجيف كلمته بالقول: إن ياسر عرفات خير وبركة على الهند والهنود، فقد جلب لنا المطر والخير، وهو عزيز على الهنود وعزيز بعمق على قلوب عائلتي وقلبي أنا.

احتفال العائلة بعيد ميلاد راجيف كان دائماً احتفالاً عائلياً محصوراً بأقرب الأقارب والمقربين.

ورافقت الرئيس، مرة، لحفل ميلاد راجيف في بيت العائلة. كانت تلك هي المرة الأولى التي ادخل فيها بيت العائلة. فقد كنا دائماً ضيوفاً ننزل في قصر الضيافة الرسمي وتقام كل النشاطات في ذلك القصر. تلك الزيارة كانت خارقة للعادة. والعادة كانت دائماً أرفع مستوى من الاستقبال.

في تلك الزيارة كسر الهنود، المعروفون بحرصهم على الحفاظ على التقاليد والبروتوكول، التقاليد والبروتوكول.

فاستقبال كبار الضيوف (الرؤساء والملوك) يتم عادةً في باحة القصر الجمهوري وليس على أرض المطار فإذا بهم قد أعدوا له استقبالاً رسمياً على أرض المطار وفي باحة القصر الجمهوري. كان ذلك مؤثراً للغاية بعد أن سار موكبنا من المطار إلى القصر الجمهوري، استقبل الخيالة ممتطين أحصنتهم، بلباسهم الأحمر والذهبي الرائع، استقبلوا الرئيس وأحاطوا بالسيارة التي تقله من الجانبين.

وقادوها بنسق جميل نحو مدخل القصر، حيث اصطف حرس الشرف والفرقة الموسيقية، فعزفت الفرقة السلامين الوطنيين الفلسطيني والهندي، واستعرض الرئيس ـ يرافقه رئيس الهند ـ حرس الشرف ودخلنا للقصر.

كان ذلك جميلاً وأنيقاً ومؤثراً. وهمس في أذني أحد الوزراء الهنود «الملكة إليزابيث لم تحظ بذلك».

جلس راجيف إلى جانب الرئيس عرفات في إحدى قاعات الاستقبال الملحقة بجناح الرئيس، وتحدثا قليلاً وتم إطلاع الرئيس على الخطوط العريضة لبرنامج الزيارة والمباحثات. ثم استأذن راجيف للذهاب إلى مكتبه، ووجه الدعوة للرئيس لحضور عيد ميلاده بصوت شابه الهمس.

* في بيت العائلة

لم يكن برنامج الوفد يشير إلى أي نشاط في الليلة الأولى من الزيارة. لكن الرئيس طلب مني أن أحضر نفسي لمرافقته إلى بيت العائلة لحضور عيد ميلاد راجيف. ففعلت.

ما إن دخلنا المنزل، حتى اندفع أطفال راجيف، وهم يصرخون ويضحكون، نحو ياسر عرفات مرددين «العم. العم». عانقهم وعانقوه، فيما راجيف وزوجته سونيا يبتسمان بسعادة حقيقية وقلبهما مفعم بالفرح. وعانقت سونيا وراجيف ياسر عرفات وشكراه بكل تهذيب على مجيئه.

كان احتفالاً بسيطاً. لكنني أقول إن ألذ أكل ذقته في حياتي كان ذلك الأكل (الهندي بالطبع) الذي تناولناه على مائدة سونيا وراجيف في بيتهما العائلي.

كانت الجلسة دافئة للغاية ودار حديث ذو شجون، وتناول العديد من المواضيع، من وضع الهند الداخلي، للسياسة الخارجية، لوضع الشعب الفلسطيني والأمم المتحدة.

كانت جلسة تفكير بصوت مرتفع وكان راجيف يستمع بكل انتباه وكأنه لا يريد أن يفوته حرف مما يقوله ياسر عرفات.

وتجلت حكمة ياسر عرفات تلك الليلة، وظهرت مميزات شخصيته السياسية الملمة بقواعد الصراع العالمي والإقليمي، وبتكتيكات الصراعات المحلية.

كانت الجلسة أشبه بمجلس عائلي. وربما خطرت فكرة في ذهن راجيف تلك الليلة. ربما تذكر جلسات العائلة السياسية مع أنديرا غاندي التي رحلت وتركته وحده بعد أن رحل أخوه أيضاً ووالده من قبل. (والده فيروز غاندي كان صحافياً وملماً إلماماً واسعاً بالسياسة والصراعات الدولية والإقليمية).

كانت جلسة دافئة ورائعة، غادرنا بعدها بيت عائلة غاندي نحو مقرنا الرسمي في القصر الجمهوري.

وقبل مغادرتنا الهند قام الرئيس عرفات يرافقه كافة أعضاء الوفد بزيارة قبر المرأة العظيمة أنديرا. (القبر كان رمزياً بطبيعة الحال، فقد نثر رماد جسدها فوق النهر من طائرة صغيرة).

روى ياسر عرفات الشجرة التي زرعها أمام قبرها، وأحنى رأسه دقائق (ولا شك أنه كان يراها في تلك اللحظات). ثم رفع رأسه وبدأ بالتحرك. نظرت إلى وجهه ولمحت دمعتين خجلتين في مآقيه.

غادرنا الهند، بعد أن تكللت الزيارة بنجاح كان متوقعاً. ووقعت فلسطين والهند عدة اتفاقيات تعاون في ميادين مختلفة.

صعق خبر اغتيال راجيف الرئيس صعقاً. كان الخبر صاعقاً لدرجة أنه لم يصدق. لكنه كان حقيقة. «إنه قدر هذه العائلة» لقد تحملت هذه العائلة مسؤولية تاريخية في بلد مليء بالتناقضات، وهم يدفعون الثمن.

ونكبت عائلة غاندي مرة أخرى. أعداؤهم أعداء الهند اغتالوا راجيف ليجتثوا عائلة غاندي من جذورها. فوجود رجال أو نساء من هذه العائلة كان يحطم فرص هؤلاء في الفوز بالانتخابات وحكم البلاد.

فعائلة غاندي العريقة في الثقافة والأخلاق والعلم كانت تحظى بتأييد شعبي واسع خاصة بين الفقراء وما أكثرهم في الهند، فشعرت أنها أصبحت بلا حماية ولا مستقبل وأن أولادها الآن في خطر.

وتذكرت ليلة جاءت أنديرا غاندي لتقول لهم إنها تشعر أن حياتها مهددة. وكيف أعطتهم تفاصيل جنازتها كما تريدها أن تكون. تذكرت كيف نبهت أحفادها ألا يلعبوا خارج أسوار المنزل.

كانت أنديرا تتوقع أن يغتالوا أحفادها أيضاً. وبطبيعة الحال ابنها راجيف، رغم أنها لم تقل له هذا. لكنها كانت ذكية فركزت الاهتمام على أولاده ليفهموا أنهم جميعاً مستهدفون.

سونيا، عاشت جواً أليما منذ أن تزوجت راجيف وسكنت معه الهند. فقد كان أعداء حزب المؤتمر وأعداء بيت غاندي يشهرون دائماً سيف العنصرية، بالتركيز على أن سونيا إيطالية وليست هندية. والهدف كان تجريد أبناء راجيف من الصبغة الهندية الخالصة لحرمانهم من أي مستقبل سياسي، وزاد رعبها الآن وقد اغتالوا راجيف ويهاجمونها لأنها إيطالية الأصل.

سيحاولون اغتيال أولادها. فحملتهم بعد انتهاء فترة الحداد وغادرت الهند رغم معارضة قادة حزب المؤتمر، الذين أرادوا لها أن تقود الحزب بعد اغتيال راجيف. أرادت سونيا أن تخلو لنفسها وأن تفكر. فقد سيطر رعب احتمال اغتيال أولادها عليها. فحضنتهم وغادرت لتفكر بذهن صاف.

في خضم تلك التدافعات الذهنية والعاطفية برز أمام عينيها «العم» سعدت جداً، فقد وجدت أمامها أباً وعماً وصديقاً وحكيماً فشدت الرحال لتقابله ولتأخذ النصيحة منه. وأثناء رحلتها، لامت نفسها لأنها لم تفكر باللجوء إليه للنصيحة والرأي.

لا يمكن أن تصف الانعكاسات العاطفية على وجه ياسر عرفات عندما زارته سونيا. كانت مزيجاً من عاطفة نبيلة، الحزن على من رحل، القلق على من بقي منهم قيد الحياة، الرغبة ببسط جناحيه لحمايتهم، الرغبة في الانتقام من قتلتهم والحنان، كلها في إطار من الشعور بالثقة والرغبة في السير للأمام لمواجهة كل الأخطار مهما كانت.

فبدا قوياً صامداً متماسكاً ليبث ذلك في سونيا. لقد كان يعلم تمام العلم ما تشعر به وما تخشى منه، ومدى التردد الذي تعيشه.بكت سونيا دموعا خجلة حارة دون أن تتكلم. كانت دموعها كلاماً بليغاً لخص كل ما أرادت أن تقول.

ابتسم ياسر عرفات مشجعاً وقال: آل غاندي شجعان ولدوا ليواجهوا الصعاب ويتحملوا المسؤولية. وأنت سونيا غاندي، وعليك أن تتماسكي فأنت تحملين الراية الآن. وتصرفك سوف يكون مرشداً للأولاد. شرحت سونيا للرئيس، وجهة نظر قيادة حزب المؤتمر وفسرت له مخاوفها ولم تتردد في ذكر ما يستخدمه أعداء حزب المؤتمر ضد الحزب وضدها، أي أصولها الإيطالية.

أصغى الرئيس بكل اهتمام لكل كلمة قالتها. فقد كانت صادقة ولا تطمح لمنصب وتريد أن تحمي أولادها. وعندما انتهى الكلام قال لها الرئيس: يا ابنتي يا سونيا لا يمكن لإنسان أن يهرب من قدره.

لقد تزوجت راجيف غاندي وأصبحت أم أولاده. وعائلة غاندي لم تهرب من قدرها أبداً بل خططت وعلمت وربت أولادها للتجاوب مع هذا القدر.

وعائلة غاندي قادت الهند وتحملت المسؤولية ودفعت ثمناً باهظاً لذلك. إنها عائلة متميزة ارتبطت بتاريخ الهند النضالي وارتبط تاريخ الهند النضالي بها.

هذا قدرك لا تهربي منه. كوني شجاعة كجدة الأولاد أنديرا.

أنت تتحدثين عن الأولاد. اهتمي بتربيتهم وتعليمهم وستصبحين رئيسة وزراء الهند يوماً ما، شئت أم أبيت. وعندها يجب ألا تعرقل خطواتك اتهامات أو هجمات أو استغلال حول أصولك الإيطالية.

أنت الآن زعيمة بيت غاندي فلا تترددي لحظة واحسمي أمرك. واعلمي أن لك أصدقاء وسأكون دائماً وأبداً جاهزاً للمساعدة قدر المستطاع.

هزت رأسها كأنها تقول: سألتزم بما تقول أيها العم.

وهكذا كان.

وانتخبت سونيا رئيسة لوزراء الهند في شهر مايو من العام 2004.

ياسر عرفات محاصر في مكتبه مطوق بقوات الاحتلال يبتسم فرحاً لنجاح سونيا، ويتصل بها مهنئاً بالانتصار الكاسح، وثقة الشعب الهندي وحزب المؤتمر والأحزاب المؤتلفة معه بها.

الرئيس عرفات، سعى ويسعى باستمرار لحشد مزيد من التأييد العالمي للقضية الفلسطينية ورفعة شأنها والمعادلة كانت واضحة أمامه:

القضية الفلسطينية قضية عادلة ومسلحة بقرارات دولية عديدة. لكن العالم الذي ينشغل بمشاكله أغمض العين وسد الأذن ولم يحرك ساكناً في وجه ما فعلته وتفعله إسرائيل.

وكان عليه كقائد أن يخلق واقعاً جديداً على أرض فلسطين (القتال والنضال) وان يحشد الدعم العربي والعالمي لحقوق هذا الشعب.

وفي قرارة نفسه كان يدرك أن هذه القضية العملاقة وهذا الشعب المكافح العملاق سوف يرفع من شأنه كلما رفع هو، بجهده وحركته واتصالاته، من شأن الشعب والقضية. فالترابط كان جدلياً في ذهنه وفي قرارة نفسه.

فقد بذل الشعب الفلسطيني على مدى عقود تضحيات كبيرة بالدم والمال والأرض، ولا بد لقيوده من أن تنكسر ولا بد أن ينال حريته واستقلاله.

والمعادلة الراسخة هذه جعلت من ياسر عرفات فلسطين ومن فلسطين ياسر عرفات في قلبه وقرارة نفسه.والهند كانت مكسباً كبيراً للشعب الفلسطيني عندما وقفت دون تردد إلى جانب الحق الفلسطيني.

وخاض ياسر عرفات المعترك السياسي في تلك المنطقة من آسيا. فحشد تأييد المتعارضين للحقوق الفلسطينية. الصين وباكستان والهند وسيريلانكا وبنغلاديش وكم من تناقضات وتعارضات بين هذه الدول! لكنها أجمعت على تأييد الحق الفلسطيني.

لكن سونيا غاندي، آثرت عدم القبول، قبول مسؤولية الهند كرئيسة للوزراء. وفضلت أن تُعيّن «نموهان سنغ» رئيساً للوزراء حرصاً على نجاح حزب المؤتمر في إدارة دفة الحكم، بدل الخوض في معارك جانبية حول أصولها الإيطالية.

لكني على يقين أن سونيا غاندي رئيسة حزب المؤتمر، ورئيسة كتلته البرلمانية تقوم بتحضير أولادها لتبوّء مركز الصدارة في الحياة السياسية الهندية.