ياسر عرفات.. زعيم شعب ورمز قضية ـ الحلقة 12

عرفات يرفض نشر وثيقة السلام الفلسطينية باسمه

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتحدث المؤلف بسام أبو شريف في هذه الحلقة من الكتاب عن الأفكار الفلسطينية للسلام التي صاغها هو بنفسه وعرضها على عرفات، الذي وافق عليها بدوره، وصرّح له بنشرها، ولكن من دون أن يوضع اسمه عليها. واستغل أبو شريف اجتماع القمة العربية المنعقدة في الجزائر في يونيو 1988.

وحضور عدد كبير من مراسلي الصحف الغربية، فوزع كتيباً عليهم يحوي المقال ـ الوثيقة، الذي يتضمن الرؤية الفلسطينية للسلام التي تقوم على أساس الدولتين من خلال الاعتراف المتبادل بين إسرائيل و(م.ت.ف) وتطبيق قرارات الشرعية الدولية في هذا الخصوص.

ويشرح لنا مؤلف الكتاب ردود الفعل التي ثارت حول الوثيقة في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية وفي مختلف العواصم العالمية المؤثرة، وكيف أدت إلى حشر حكومة شامير في الزاوية وإبراز الجانب الفلسطيني كطرف يبحث عن السلام.

كنا قد دخلنا شهر مايو، وكان معلوماً أن قمة ختامية حاسمة ستعقد في موسكو بين الرئيس ريغان والرئيس غورباتشوف لتوقيع اتفاق نهائي للحد من انتشار الأسلحة النووية، وجدولة تدمير مخزون هذه الأسلحة لدى البلدين وإعلان انتهاء الحرب الباردة.

وقد واجه الزعيمان في قمة ريكيافيك المشكلات التي تعترض الاتفاق وتمت إعادة بحث الأمر في مالطا وحصل تقدم بسيط بالرغم من تصريحات غورباتشوف آنذاك.

وكان من المنطقي والطبيعي أن يفكر أي محلل أو متتبع لهذه القمم، بأن الزعيمين الأميركي والسوفييتي سيناقشان تحت بند إنهاء الحرب الباردة كل النقاط الساخنة وكيفية إيجاد حلول لها، وكان آنذاك على رأس تلك البؤر الساخنة أفغانستان والوجود العسكري السوفييتي فيها والشرق الأوسط.

والخطة كانت تقضي أن تنشر «م.ت.ف» إعلاناً سياسياً قبل هذه القمة حتى يصبح تصورها مطروحاً على جدول أعمال الزعيمين كحل سياسي للصراع في الشرق الأوسط.

لكن رفض الرئيس ياسر عرفات نشر تلك الوثيقة السياسية باسمه قلل كثيراً من فرصة إدراج الوثيقة ـ المبادرة على جدول أعمال الزعيمين.

رغم ذلك، ولقناعتي بأهمية هذا الإعلان الذي يعطي هدفاً ملموساً قابلاً للتحقيق استناداً للقرارات الدولية، رحت أعمل لنشر هذا الموقف السياسي في صحف ذات تأثير على الرأي العام وعلى البيت الأبيض.

جرأة ياسر عرفات في اتخاذ مواقف سياسية شجاعة لا تعني إطلاقاً أنه لا يدقق ولا يتفحص بإمعان المواقف أو ردود الفعل المتوقعة.

وهذه إحدى ميزات تلك الشخصية العملاقة فهو حريص كل الحرص دائماً على الاستماع للآراء، على اختلافها، ليتمكن في النهاية من تقييم المواقف بدقة وفي كثير من الأحيان، عندما يصل إلى نتائج تدل على أن بعض المواقف قد تثير جدلاً واسعاً وضجة كبيرة يبتعد هو ويطلق ما هو مقتنع به عبر شخص آخر فإن نالت الأفكار نجاحاً فالنجاح له .

وإن لم تنل فالخسارة للشخص، البعض يسمي هذا الجانب من شخصية الرئيس ياسر عرفات إطلاق بالونات اختبار والبعض يسمي ذلك إطلاق السمكة الكشافة أي تلك التي تكشف الطريق لسرب السمك.

واعتقد أن قراره بنشر تلك الوثيقة باسمي كان من باب إرسال مستكشف للطريق أي في حقيقة الأمر كبش الفداء ولذلك رفض الاطلاع على الوثيقة أو قراءتها ذلك أنه في حال حدوث ردود فعل سلبية على أفكارها ومضامينها سيكون صادقاً إذا قال أنا لم أطلع عليها ولم اقرأها وهي وجهة نظر لصاحبها وإن هذا هو جزء من ديمقراطيتنا.

«الواشنطن بوست» صحيفة أميركية ذات انتشار واسع وتأثير في الدوائر السياسية في واشنطن ولذلك ركزتُ على هذه الصحيفة لنشر مقال الإعلان كي يصل بأسرع وقت لمكاتب المسؤولين الأميركيين.

إضافة لذلك، كانت تربطني صداقة قديمة برئيس تحريرها بن برادلي وبمراسلها في الشرق الأوسط جون راندال الاتصال مع بن برادلي كان صعباً وهو عادة أصعب من الاتصال برئيس الولايات المتحدة ولذلك اتصلت بجون راندال الذي كان يقيم في باريس آنذاك.

وطلبت منه المساعدة في نشر المقال على صفحات ال«واشنطن بوست» وأعلمني راندال أنه سيغادر باريس إلى تونس في اليوم التالي وسيأتي لزيارتي لبحث الموضوع.

وبالفعل زارني في مكتبي في اليوم التالي، وبعد أن شرحت له أهمية نشر المقال قبل 29 مايو، قال لي إنه غير مخول بالتدخل في صفحات الرأي فهذه الصفحات لها محررها المستقل إضافة إلى أن محررها في تلك الفترة كان من كبار مؤيدي إسرائيل.

وخلص للقول بأن أضمن طريقة هي أن نرسل لرئيس التحرير بن برادلي رسالة اليكترونية لنطلب منه التدخل لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يطلب من محرر صفحات الرأي نشر مقال معين في وقت معين.

ورغم رد بن برادلي الإيجابي على الرسالة، قرر محرر صفحات الرأي عدم نشر الموضوع لأنه لا يخدم مصلحة إسرائيل.

لقد فوّت علينا الفرصة وأصابني ذلك بإحباط شديد لكنني لم استسلم كان لا بد من نشر هذا المقال في الصحف الأميركية الكبيرة وفكرت ملياً في الأمر ووصلت إلى حل أنهي به حالة الإحباط ليحل محلها استنفار لمتابعة العمل.

فقد كان مقرراً أن يلتقي الملوك والرؤساء العرب في قمة مهمة في الجزائر في الخامس من يونيو من عام 1988.

ومن الطبيعي أن يتوجه للقمة وفد فلسطيني كبير فبالإضافة إلى حجم الوجود السياسي الفلسطيني الكبير في الجزائر، كانت تونس المقر المؤقت للقيادة الفلسطينية على مرمى حجر من العاصمة الجزائرية مما يسهل ذهاب عدد كبير من المساعدين لينشطوا خارج قاعات القمة العربية.

اتصلت بأحد المسؤولين الجزائريين لأسأله عن حجم الجسم الصحافي الذي سمحت له الجزائر بالدخول لتغطية أعمال ونتائج القمة العربية، فقال لي إنه كبير، وطلبت منه أن يعطيني العدد التقريبي فأجاب أكثر من خمسمئة.

* هذه هي الفرصة

حشد كبير للصحافة العربية والدولية ومحطات التلفزة وتوزيع الإعلان السياسي على هذا الجسم الصحافي سوف يبرزه في أكثر من مكان دون شك.

أعلمت صديقي فواز ناجية رئيس تحرير «ميد إيست ميرور» في لندن بالفكرة فقام بتحضير «ميد إيست ميرور» لنشره في الخامس من يونيو في طبعة خاصة، وأرسل لي بعد أيام مئات من النسخ من كتيب صغير يحمل شعار منظمة التحرير الفلسطينية يتضمن قرارات الأمم المتحدة الأساسية المتصلة بالقضية الفلسطينية.

وعدة مقالات بينها ذلك المقال، الإعلان تحت عنوان «احتمالات السلام في الشرق الأوسط» توجهنا إلى الجزائر لحضور القمة العربية، وكان قد سبقني إليها مجموعة من المساعدين للعمل في أوساط المراسلين ولتوزيع الكتيب الذي يتضمن الوثيقة.

بعد جلسة الافتتاح بدأ المساعدون بتوزيع الكتيب، أول رد فعل على تلك الوثيقة جاء من يوسف مراسل «نيويورك تايمز» في الشرق الأوسط آنذاك قال لي هذه جمرة حامية لا يمكنني التعاطي معها إنها متفجرة.

وأصبحت الوثيقة مدار حديث الصحافيين والمراسلين كونها تطرح لأول مرة أفكاراً ومواقف فلسطينية تدعو إلى حل سياسي وإقامة السلام على أساس دولتين على أرض فلسطين التاريخية.

جيرالدين بروك مراسلة «وول ستريت جورنال» التقطت الموضوع وركزت رسالتها الأولى لصحيفتها على مشروع سلام فلسطيني ولينشر على الصفحة الأولى وهذا يعد مهنياً نجاحاً باهراً للمقال.

وشكل مقال جيرالدين بروك أزمة للمراسلين الآخرين، إذ راحت صحفهم تطالبهم بإرسال تقاريرهم حوله وتنتقدهم لعدم التقاط ذلك السبق الصحافي بدلاً من جيرالدين بروك.

والتقطت الصحافة السنارة وراح جميع أولئك المراسلين الذين لم يتمكنوا من الحصول على الكتيب أو لم ينتبهوا إليه يبحثون عن نسخ ذلك الكتيب

اتصل بي توني لويس من «نيويورك تايمز» وطلب مني إرسال النص فوراً لأنه يريد نشره كاملاً في صفحة الرأي واتصل كذلك رئيس تحرير واشنطن تايمز وطلب الشيء ذاته وكذلك الصحف البريطانية.

وفي اليوم التالي جاءني أول تعليق من زعيم عربي فقد التقيت بإبراهيم عز الدين وزير الإعلام الأردني آنذاك الذي أخرج من جيبه نسخة من الكتيب وراح يستفسر مني حول بعض الجمل الواردة في المقال، وكان مشاراً لها بلون أخضر عريض وأبلغني إبراهيم عز الدين أن الملك حسين طلب منه الاستفسار عن هذه الجمل التي علّمها بالأخضر.

بعد شرحي قال لي هذا انقلاب سياسي فأجبته إنه اختبار نوايا الولايات المتحدة والغرب.

وامتد الحديث، والكتابة عن الوثيقة، طوال أيام المؤتمر وكتبت صحف إسرائيلية العديد من المقالات التحليلية حوله ومن الذين امتدحوا الوثيقة الصحافي الإسرائيلي أمنون كابليوك.

انتهت القمة التي أطلق عليها اسم قمة الانتفاضة وعدنا إلى تونس.

* ردود الفعل

لم يطل الوقت بالمعلقين للإدلاء بردود فعلهم على الوثيقة، فقد سارع إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل إلى الإدلاء بتعليق حول الوثيقة التي صاغت ولأول مرة في تاريخ الصراع، مبادرة لإيجاد حل سياسي يؤدي إلى السلام في الشرق الأوسط يتهم كاتب المقال الوثيقة بأنه يحاول تضليل الرأي العام العالمي وأنه يذرّ الرماد في العيون وأنه أداة فلسطينية لخداع الرأي العام الدولي والمحلي.

ورفض شامير جملة وتفصيلاً ما جاء في الوثيقة وبشكل خاص حل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية وعلّل ذلك بأن «م.ت.ف» إرهابية ولا يمكن التفاهم أو التفاوض مع الإرهابيين.

وعزفت أوركسترا الليكود لحن الرفض بقيادة شامير لكن حزب العمل وقيادته التي كانت ضمن الائتلاف الحكومي الذي يرأسه شامير لاذت بالصمت لفترة من الوقت فيما أبدى يوسي ساريد رأياً مرحباً ومطالباً بإعطاء السلام فرصة والتعامل بايجابية مع ما طرحته الوثيقة.

ورحبت مجموعات السلام الإسرائيلية المختلفة بالحل الذي طرحته الوثيقة، والذي ينسجم بواقعية مع قرارات الشرعية الدولية التي شكلت سقفاً لأي حل سياسي ممكن .

وشكلت هذه المواقف المتضاربة داخل إسرائيل حافزاً لسيل من المقالات والتعليقات في الصحف الإسرائيلية وبرامج التلفزة وتراوحت الآراء بين الرفض المطلق والقبول المتحفظ.

لقد فرضت الوثيقة نفسها على مجمل الجدل السياسي في إسرائيل، في ظل تنفيذ حكومة شامير لسياسة القبضة الحديدية التي بطشت بالجميع أطفالاً ونساءً ورجالاً.

وعلى الصعيد الفلسطيني تبودلت الآراء كذلك فمن رافض مشكك بأهداف المقال الذي نشر إلى قابل متحمس له.

وكان أول المعلقين أبو إياد الذي أدلى للصحافة بتعليق هاجم فيه ما نشر ووصفه بأنه عبث سياسي أما بقية أعضاء القيادة فقد التزموا الصمت، ربما لشعورهم أن ما نشرته يعبر عن رأي الرئيس عرفات ولم يرغبوا في المعارضة قبل أن يجتمعوا إليه لبحث الأمر.

لكن المفاجأة الكبيرة لقيادة «م.ت.ف» كانت ترحيب قيادات الداخل المتحمس لما نشر وهذا الموقف كان حجر الأساس.

ليس هذا فحسب بل استندت قيادات الداخل إلى الوثيقة لشن هجوم سياسي كبير طال القيادات الإسرائيلية والرأي العام الإسرائيلي، لإظهار النوايا السلمية لمنظمة التحرير ولنفي التضليل الرسمي الإسرائيلي حول الطابع الإرهابي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والإصرار على أن الانتفاضة حركة إرهابية، وليست مقاومة شعبية وشرعية للاحتلال.

؟ موقف صارم

كانت تربطني بأبي إياد صداقة حميمة منذ فترة طويلة فضلاً عن كوننا زملاء فاتصلت به معاتباً على ما صرح به حول الوثيقة والتي وصفها بأنها عبث سياسي فأجابني بسرعة.

عم بسام، أنا لست رجل كرسي في هذه الثورة تطبخون السياسة من خلف ظهري أنا لا أقبل بهذا.

فقلت له إنه لا يوجد أي طبخ سياسي، وإن الأمر كله وجهة نظر نشرتها لأرى ردود الفعل ونضع الأميركان والأوروبيين على المحك الحقيقي، حتى لا يبقى إصرارهم على أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من خلال قرارات الشرعية الدولية والفكرة هي إذا قبلت «م.ت.ف» بقرارات الشرعية الدولية وبحل الدولتين على أرض فلسطين، سيتحرك الغرب لفرض هذا الحل هذا كل ما في الأمر.

أجابني ضاحكاً:

«تعال لنتحدث بالموضوع هل تظن أنني لا أعرف أبو عمار وهل تظن أنني لا أعرفك تعال لنتحدث».

توجهت فوراً لمكتب أبو إياد الذي رحب بي كعادته قائلاً كيف يتم هذا دون علمي يا بسام؟

فأجبته ماذا تم؟ لم يتم شيء سوى نشر وجهة نظر.

نظر إلي بخبث وقال أريد أن أعرف كل شيء هل هنالك وعود أميركية ما مقابل هذه المواقف؟

فأجبته: لم يجر الاتصال مع أي جهة حتى الآن.

وعاد ليقول مشككاً: هذا الموضوع أصبح الشغل الشاغل للجميع من تل أبيب إلى واشنطن وأنا أعرف أجهزة الإعلام إن لم يكن لديها ضوء أخضر لإبراز الموضوع فبإمكانهم إطفاؤه بسرعة.

أجبت سريعاً هذا صحيح لكن الموضوع فاجأهم مما جعلهم غير قادرين على التعتيم عليه.

وسألني قل لي بصراحة ماذا يريد أبو عمار فابتسمت قائلاً تسألني أنا يا أبا إياد؟ أنت تعلم أنه يريد دولة مستقلة ذات سيادة على الضفة وغزة، وكذلك أنت.

ابتسم وقال هذا صحيح ولكن يجب أن نبقى على اتصال.

وفيما أهم بالمغادرة قلت له أنصح بأن تعدل الموقف، لا تقل إنه عبث سياسي إنه موقف سياسي جاد وعملي ومقبول دولياً.

ودعني وعدت إلى مكتبي

وفي اليوم التالي أدلى أبو إياد بتصريحات مضمونها يحمل مضمون الوثيقة نفسها، وزاد عليها أن «م.ت.ف» على استعداد لإعلان اعتراف متبادل بين دولتي إسرائيل وفلسطين.

بعدها انطلق الجدل الفلسطيني في الخارج على أوسع نطاق.

وفي داخل الأرض المحتلة استند فيصل الحسيني وسري نسيبة، وغيرهم من قادة الداخل لهذه الوثيقة، وتحركوا على نطاق واسع في الإطارين الفلسطيني والإسرائيلي لتحقيق الاختراق السياسي المطلوب.

وامتدت المناظرات والنقاش والصراع حول برنامج السلام.

كان قادة الداخل يحاولون باستمرار خلق أجواء تتيح المجال لمناقشة التوصل لحل سياسي يؤدي للسلام لكن هذه الوثيقة أعطتهم ـ دون جدال ـ ورقة قوية جداً في نقاشهم وحوارهم مع القوى الإسرائيلية التي تريد السلام لكنها تتردد بأن تتقدم نحوه لأن ميثاق «م.ت.ف» وبرنامجها يسعيان لتدمير إسرائيل وليس إقامة السلام معها.

وفي المرحلة الثانية من حواراتهم، استند بعض الإسرائيليين في تكتيكهم إلى القول بأن هذه الوثيقة لا تمثل رأي «م.ت.ف» بل تمثل رأي كاتبها.

كنت على اتصال دائم مع الإخوة في الداخل، عبر محطتنا للاتصالات، وأثارت الوثيقة اهتماماً كبيراً على الصعيد العربي، فجرت اتصالات عديدة لتتحرى أمراً واحداً هل يعبر المقال عن وجهة نظر «م.ت.ف» الرسمية أم لا.

وطلبت الإدارة الأميركية من السعودية التحقق من هذا الأمر وتلقيت اتصالاً من خالد الحسن، وكان آنذاك في زيارة للسعودية، وأبلغني أن مسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية موجود في الرياض، وأنه طلب من الخارجية السعودية التحقق مما إذا كان المقال يعبر رسمياً عن وجهة نظر جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية أم لا.

لم أتمكن من الإجابة فقال لي:

«بسام، أستطيع أن أعطي موقفاً رسمياً إذا أكدت لي أن أبو عمار موافق على ما نشرت».

فقلت له: «الحقيقة أبو عمار لم يقرأ المقال لكنني أعرف أنه يعبر عن وجهة نظره وأقترح أن تتصل به».

وأبدى الاتحاد السوفييتي اهتماماً كبيراً بالموضوع وحرك قنواته الدبلوماسية وغير الدبلوماسية لمعرفة حقيقة تلك الوثيقة هل هي رسمية أم غير رسمية.

ألمانيا وبريطانيا وفرنسا اهتمت بالأمر كذلك، وأجرت اتصالات على مستويات دبلوماسية عادية لتتحقق بلباقة من الموضوع نفسه: هل تعبر أم لا تعبر عن موقف «م.ت.ف»؟ وحذت حذوهم لاحقاً بقية الدول الأوروبية.

كل هذا كان يدور، وتقوم الدنيا ولا تقعد والرئيس ياسر عرفات يراقب ويتابع صامتاً هذه ميزه من ميزات الرئيس، وربما خطط لذلك.

لقد وافق على إلقاء الطُعم وراح ينتظر ليرى من سيبلعه؟

لاذ بالصمت انتظاراً يريد الثمن والثمن هو الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف.

فلماذا يعطي قبل أن يأخذ؟

في حياته السياسية الطويلة، كان عرفات لاعباً سياسياً ماهراً. والسياسة تبادل مصالح ومقايضة.

وفي ظل إشراك المصالح والمقايضة كان عرفات دائماً حريصاً على نيل ما تستوجبه مصالح الشعب الفلسطيني مقابل أية مرونة أو أية مساومة كان يعلم أن الواقع الدولي والإقليمي والعربي والمحلي لا يمكّن ولن يمكّن في المستقبل المنظور الشعب الفلسطيني من استرجاع كامل أرضه .

ولذلك راح يفكر بالممكن الذي يحافظ على حد أدنى من مصالح الشعب الفلسطيني، ويؤمّن له ملاذاً يعيد له كرامته وإنسانيته ويتيح له المجال للنمو والتطور ولذلك كان مستعداً للمساومة التاريخية، شريطة أن يضمن مصلحة الشعب الفلسطيني.

كان مسروراً لما ولّدته الوثيقة ولما قامت به قوة الاستطلاع السياسية.

وتعززت مكانة «م.ت.ف» دولياً فمن ناحية كانت الانتفاضة البطلة قد أمدت «م.ت.ف» بالدعم وركزت أنظار العالم على فلسطين وها هي «م.ت.ف» تعطي الانتفاضة موقفاً سياسياً يعزز من وضعها وثقلها وقدرتها على حشر حكومة شامير في زاوية صعبة.

واكتملت تقريباً من التمام العلاقة الجدلية بين النضال الميداني والمواقف السياسية العملية والمنسجمة مع القبول من قبل المجتمع الدولي وإكمال هذه العلاقة الجدلية سيضع إسرائيل حتماً في زاوية صعبة ومحرجة، ستضطر معها للتجاوب مع الجهود الدولية وإن كان ذلك تكتيكاً.

شعر عرفات بالغبطة دون أن يعبر عن ذلك فقد انتظر النتيجة المهمة، وهي قبول الإدارة الأميركية بهذا الموقف أساساً للشروع في حل الصراع، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس قرارات الشرعية الدولية.

؟ صمت عرفات

في ظل صمت الرئيس ياسر عرفات ازداد النقاش حدة داخل الساحة الفلسطينية ومؤسساتها، وراحت الجهات الأوروبية الرسمية المهتمة بما طرح تتصل مباشرة أو من خلال سفارات ومكاتب «م.ت.ف» تدعوني فيها لزيارتها لمناقشة ما نشرت ومنها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والنرويج والسويد وفنلندا.

وقرر الرئيس ياسر عرفات أن يقوم بجولة سريعة يزور خلالها بعض دول أوروبا الشرقية قبل التوجه إلى مقره في بغداد أراد عرفات أن يجس النبض ويستطلع الآفاق قبل أن يقدم على خطوة علنية وكان يعلم أن بعض دول شرق أوروبا مثل رومانيا ويوغوسلافيا كانت على صلة بالغرب وبإسرائيل ولذلك فإن جس نبض قادتها حول ما نشر قد يساعده على تحديد بوصلة التحرك السياسي.

وشعر الرئيس بأهمية ما نشر وتأثيره منذ اللحظة الأولى لهذه الزيارة.

ففي مطار بلغراد حيث كانت الترويكا الحاكمة في استقباله سأل الرئيس اليوغوسلافي عما نشر وهل يعبر عن موقف «م.ت.ف» أم أنه رأي شخصي؟

فدعاني الرئيس للاقتراب قائلاً إنهم يسألون عن مقالك وهم معجبون جداً بما كتبت صافحتهم وبادرني الرئيس اليوغوسلافي بالقول ما نشرته جيد جداً ويفتح الطرق نحو السلام أكمل وتابع مثل هذه الكتابات.

فانتهزت الفرصة لأقول ولأول مرة شكراً، سأتابع لكن يجب أن أقول انها أفكار الرئيس عرفات.

وابتسم عرفات ابتسامة عريضة وتوجهنا نحو قصر الضيافة.

بعد دقائق معدودة، أُبلغ الرئيس أن وزير خارجية الاتحاد السوفييتي يريد أن يكلمه هاتفياً وأنه ينتظر على الخط.

التقط الرئيس الهاتف وراح يشرح له تطورات الأوضاع داخل الأراضي المحتلة وفظاعة الممارسات الإسرائيلية ضد شعبنا وطلب منه المساعدة بالتحرك دولياً لوقف العدوان على شعبنا الأعزل.

وفجأة نظر الرئيس لقاعة الجلوس وطلب مني الاقتراب اقتربت فقال لي بحيث يسمع شيفرنادزة كل كلمة: بسام، أنت كتبت إيه في المقالة؟ معالي الوزير يسأل عن المقالة نظرت إليه بدهشة سرعان ما تلاشت لأنني فهمت قصده فهو يريد أن يقول لشيفرنادزة إنه لا يعلم ماذا كتبت وأنهم إذا كانوا مهتمين بما نشر فليتحركوا لضمان الثمن الدولة الفلسطينية المستقلة.

وقال الرئيس لشيفرنادزة إنه سيناقش الأمر لاحقاً وسيرى ما هو موقف القيادة. وتوجهنا إلى مقر الرئيس في بغداد لمس الرئيس أن هنالك تقبلاً وارتياحاً للخط السياسي المطروح وأنه قد يفتح الطريق أمام مفاوضات سياسية لتطبيق حل الدولتين.

وخلال رحلة العودة، كما هي عادته، انكب على ملفاته محاولاً إنجاز عمله الشاق قبل الوصول إلى بغداد ليتفرغ لإدارة شؤون الانتفاضة.

ما إن وصلنا مقره حتى أصدر تعليماته بدعوة أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والمجلس المركزي ل«م.ت.ف» للاجتماع في بغداد خلال ذلك الأسبوع.

فكرت بالأمر لقد أصبح الموضوع جدياً، فهذه الخطوة الأولى التي يتخذها الرئيس ليحضر النقاش داخل المؤسسات الفلسطينية كي تتحول الأفكار التي طرحت في الوثيقة إلى موقف رسمي.

لقد اقتنع الرئيس بأن هذا البرنامج سيفتح الطريق أمام اعتراف دولي وربما مفاوضات سياسية.

كانت حسابات الرئيس دقيقة، فبعد ترك المجال لنقاش علني بين مؤيد ومعارض، وبعد أن أعطى فرصة لردود الفعل الدولية والإقليمية والعربية، وبعد أن أيقن أن القيادات الفلسطينية داخل الأرض المحتلة تؤيد ذلك بكل قوة، وتعتبر الموقف دعماً سياسياً هائلاً في المواجهة مع العدوان الإسرائيلي.

بعد كل هذا قرر أن ينقل النقاش لمؤسسات «م.ت.ف» وكان واضحاً أن هدفه هو التوجه للمجلس الوطني الفلسطيني في نهاية جولات النقاش في المؤسسات الرسمية، للتصويت على برنامج سياسي جديد يتضمن المضامين التي نشرت في الوثيقة أي التفاوض على حل سياسي يؤدي لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت عام 1967 مقابل الاعتراف بإسرائيل وحقها بالوجود خلف حدود آمنة ومعترف بها.

وما أن بدأت الاجتماعات في بغداد حتى أصدر لي الرئيس أمراً بالتوجه للإمارات لأجري اتصالات مع المسؤولين حول دعم الانتفاضة مادياً.

وتوجهت للإمارات حسب تعليماته.

وكان واضحاً أن الرئيس لا يريد أن أحضر تلك الاجتماعات لأنه يعلم أنها ستكون صاخبة وأن النقاش قد يتحول إلى نقاش مؤذ.

حينما عدت من الإمارات أحمل التبرعات للانتفاضة، كانت الاجتماعات قد انتهت وانتهى بعض الأصدقاء ليحذروني من الأجواء السائدة، ليقدموا لي النصيحة بعدم الوقوع في هذه الفخاخ حرصاً على تاريخي النضالي.

خلاصة الموضوع أن الرئيس أنهى النقاش باقتراح تشكيل لجنة تحقيق من أعضاء المجلس المركزي للتحقيق معي في ملابسات هذا المقال وتبعاته.

كانت تلك إحدى طرقه في تجاوز الأزمات ودثر الخلافات.

طبعاً لم يتصل بي أحد ولم يحقق معي أحد.

وانهمكنا في العمل إلى أن قرر الرئيس العودة إلى تونس لعقد اجتماعات تمهيدية لعقد المجلس الوطني الفلسطيني.

بدا واضحاً أنه مصصم على عدم التردد كي لا تفلت الفرصة من يده ورغم معرفته بأن لا شيء ملموس مادياً حول ما سيجنيه الشعب الفلسطيني، إلا أن حاسته أشارت إلى أهمية إقرار هذا التوجه السياسي الجديد ليشكل منصة انطلاق جديدة، لفرصة جديدة تفتح أمام الفلسطينيين أبواب الأمل وقد تتوج انتفاضتهم بالاستقلال والحرية.

خلال تلك الفترة قمت بتلبية دعوات أوروبية عديدة كانت معظمها دعوات من مراكز أبحاث معروفة بصلتها الوثيقة بوزارات الخارجية، وانصبّ النقاش في كل الحالات حول الوثيقة لمست مدى التأييد والشعور بالارتياح لأن الأساس الذي استندت إليه كل الأفكار كان الشرعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة التي اتخذت بالإجماع، خصوصاً قراري مجلس الأمن.

ودعتني جامعة أوكسفورد لإلقاء محاضرة والإجابة عن الأسئلة المطروحة قاعة المحاضرات في أوكسفورد كانت ممتلئة جلوساً ووقوفاً فقد حشد الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي اليميني وكأن المحاضرة ستكون موضوع منازلة وحضرها مدير عام الخارجية البريطانية والسفراء العرب.

ركز اليهود المتطرفون على الإرهاب وطبيعة «م.ت.ف» الإرهابية فيما ركز أنصار السلام على الحل والسلام.

وفي نهاية المحاضرة اقترب مني مدير عام الخارجية البريطانية ليبلغني أنه يرحب بي في وزارة الخارجية وكانت هذه أول بادرة رسمية، ولمح إلى أن لقاء قد يرتب لي مع وزير الدولة للشؤون الخارجية.

في لندن كانت الدعوة موجهة من «تشاتم هاوس» وهو مركز أبحاث استراتيجي وثيق العلاقة بالخارجية البريطانية.

وفي باريس كانت مؤسسة الأبحاث افري الداعية، وتبعتها محاضرة في جامعة العلوم السياسية سيانس بوليتيكس وكلتاهما معروفتان بقربهما من الخارجية الفرنسية.

أما في ألمانيا فكان اللقاء أولاً مع مركز أبحاث مقرب من الخارجية الألمانية ثم لقاء في الخارجية الألمانية نائب الوزير حدد الألمان خلاله دعمهم وتأييدهم الواضح لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

اتصلت بالرئيس متحدثاً عن الاجتماعات والمحاضرات وعن الجو العام لمواقف هذه الدول الأوروبية فسرّ لذلك وقال لي إكبس.

وتابعت بالفعل لقد فتحت هذه الأفكار السياسية أبواباً كانت مغلقة إلا من الشكليات.

Email