ياسر عرفات ـ زعيم شعب ورمز قضية - الحلقة الثامنة

عرفات يعود إلى طرابلس اللبنانية إثباتاً لاستقلالية القرار الفلسطيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

ساد العلاقات الفلسطينية ـ السورية توتر شديد وصل لاحقاً إلى حد الصدام أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في النصف الثاني من عقد السبعينات.

ولقد تفجر الصراع الداخلي في لبنان، بسبب تراكم الإجحاف الذي كان يلحق ببعض الطوائف، لصالح طوائف أخرى، في وقت انقلبت فيه الموازين الديموغرافية: فالشيعة في لبنان أصبحوا الأكثرية، لكن حقوقهم برلمانياً واقتصادياً وحصتهم في السلطة التنفيذية بقيت على حالها التي رسمها الفرنسيون قبل خروجهم من لبنان ونيل الاستقلال.

لكن الظروف الإقليمية التي انفجر فيها هذا الصراع كانت ظروفاً خطيرة، من حيث رغبة إسرائيل وسعيها لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية، وإقامة حكومة لبنانية مستعدة لتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في الوقت الذي كانت سورية تسعى فيه للسيطرة على الملفين اللبناني والفلسطيني لتصبح القوة الإقليمية القادرة على التفاوض مع إسرائيل لإنهاء احتلالها الجولان والضفة الغربية وغزة.

ورفض ياسر عرفات كافة أشكال محاولات الهيمنة أو رهن القرار الفلسطيني للاستراتيجية السورية.

ورغم ذلك سعى لمنع تورط «م.ت.ف» في الصراع الداخلي اللبناني، وإضافة ثقل كبير لوزن القوى الوطنية اللبنانية التي كانت تعمل لكسر الإجحاف في المجتمع اللبناني وخلق نوع من التوازن القائم على الحقائق الديموغرافية الراهنة، تماماً مثلما كانت تخشى سورية من أن تتجه القوى المسيحية اليمينية في لبنان نحو إسرائيل طلباً للعون، كان عرفات يخشى ذلك.

وحاول منعه برفض الضغوط التي كانت تمارسها بعض فصائل منظمة التحرير والقوى الوطنية اللبنانية، لزج القوات الفلسطينية في الصراع الدائر إلى جانب القوى الوطنية اللبنانية.

لكن سورية قررت التحرك بزج قواها العسكرية إلى جانب القوى المسيحية اليمينية لمنع ارتمائها في أحضان إسرائيل مما أخل كثيراً بالمعادلة، وزاد من الضغوط على ياسر عرفات، الذي استمر في معارضة ذلك.

في ذلك الوقت، لم تكن سورية تملك المعلومات الكافية حول العلاقات التي نسجتها القوى اليمينية اللبنانية مع إسرائيل تدريباً وتسليحاً وتنسيقاً وراحت دوائر استخبارية في هذه الأحزاب اليمينية، تعمل عبر الاستفزاز والاستهداف لجر القوات الفلسطينية أكثر فأكثر نحو ساحة المعركة.

وذلك لتقوية الروابط مع إسرائيل من ناحية ولجر السوريين لمواجهة مع الفلسطينيين تخدم مصلحتهم الاستراتيجية. كان الجميع يفكر بمصلحة ذاتية.

فئات تدافع عن الأمر الواقع الذي أكل الدهر عليه وشرب، وفئات تعمل لتغيير ذلك دون أن يكون واضحاً بذهنها شكل ومضمون المعادلة الجديدة، فاحتدم الصراع كل يحاول القضاء على الآخر أما إسرائيل فقد كانت منغمسة سراً، وتراقب عن كثب مجريات الأمور، لتحديد مكان وزمان اقتناصها الفرصة لتدمير «م.ت.ف» وإقامة حكومة لبنانية موالية لها.

* أسباب التوتر

بدا أن التوتر الشديد في العلاقات السورية الفلسطينية سببه تفجر الحرب الأهلية اللبنانية لكن السبب الحقيقي كان إصرار سورية على الهيمنة على القرارين الفلسطيني واللبناني لتقوية موقعها التفاوضي بما أن خيار الحرب لم يعد وارداً منذ نهاية 1973.

وراحت سورية تنسج سراً علاقات مع مراكز وقوى داخل فتح بهدف خلخلة زعامة عرفات، وإقناع فتح بالتحالف الاستراتيجي مع سورية.

وتبين ذلك واضحاً في المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في دمشق مقر الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1979، حيث تمكن تحالف قوى اليسار مع مراكز قوى في اللجنة المركزية لحركة فتح من شل المجلس الوطني.

واستنفر عرفات وراح يعبئ الفتحاويين، تارة يطلب منهم الخروج من الجلسة لإفقادها النصاب، وتارة أخرى يعودون وهم ينشدون أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها، إلى أن حصل ما لم يكن في الحسبان فقد اغتالت إسرائيل أبو حسن سلامة «علي سلامة» في بيروت، وكان مقرباً وعزيزاً على قلب عرفات.

فتقرر أن يعزي أعضاء المجلس الوطني الرئيس ياسر عرفات، الذي وضع نظارة سوداء على عينيه وراح يتقبل التعازي وكأنه يتقبل المبايعة مرة أخرى، بعد أن كادت البيعة أن تفرط.

بعد انتهاء العزاء عاد عرفات لقاعة المجلس الوطني وهرول الجميع للقاعة ولم يترك مجالاً لأحد، فقد كان الخطر يكمن في إنهاء جلسات المجلس الوطني من دون أن تنتخب قيادة، مما كان سيخلق فراغاً خطيراً.

وأعلن الرئيس اقتراحه بأن تبقى القيادة على حالها أي أن يعيد المجلس الوطني انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية السابقة

وعلى الرغم من المداخلات ومحاولات التعديل أصر ياسر عرفات فقد كان يريد أن يثبت لسورية أن القرار الفلسطيني سيبقى مستقلاًّ،.

وأنها لن تتمكن حتى وإن تحالفت مع بعضٍ من فتح من التأثير أو التحكم بالقرار وهكذا كان صوّت المجلس الوطني بالأغلبية، ورفع ياسر عرفات الجلسات وتحرك موكبه، دون إبطاء، إلى بيروت رغم تحذيره من أن طريق الجبل مغلقة بسبب الثلوج.

استمرت المحاولات لإصلاح العلاقات السورية ـ الفلسطينية، ودعت دمشق وفداً من اللجنة المركزية لحركة فتح لبحث العلاقات.

وفي نهاية الاجتماعات بين القيادتين السورية والفلسطينية دون حضور عرفات والأسد تمت صياغة وثيقة تحت عنوان «التعاون الاستراتيجي الفلسطيني السوري». وكان على الطرفين أن يتبادلا موافقة القيادتين عليها قبل أن تصبح سارية المفعول وكان أبو إياد يرأس وفد اللجنة المركزية لفتح.

ماذا يريد حافظ الأسد؟، بادرني بالسؤال قبل منتصف الليل في مكتبه بمقر جيش التحرير الفلسطيني قرب جامعة بيروت العربية في بيروت.ناولني نص مشروع التحالف الاستراتيجي لأطلع عليه وأبدي الرأي.

بعدها أجبته من الواضح أنه يريد الثقل الفلسطيني إلى جانبه، وهذا يتطلب وضع ضوابط لهذا الثقل بحيث لا يخرج عن تصوره أو عن تحركه.

هذا يعني فقدان استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، سأل الرئيس، فأجبت هذا وارد جداً في مضمون الوثيقة المقترحة، وفي اليوم التالي زارني ليلاً صديقي وأمير شعرائنا محمود درويش.

وفيما نحن نتحدث، وقد كسرت عقارب الساعة كل الحواجز، قرع باب البيت فتحت فإذا بفتحي، كبير مرافقي أبو عمار، يقف أمامي حاملاً سلاحه وقال بسرعة الرئيس قادم، كانت الساعة تقارب الثالثة صباحاً بعد بضع ثوان أطل الرئيس قائلاً وهو يبتسم ابتسامة عريضة قفشتكم أي لقد أمسكت بكم.

رحبت به.

جلس بهدوء وصمت لحظات ثم قال:

أريد أن أسألكما سؤالاً

ماذا يريد حافظ الأسد؟

لقد طرح السؤال ذاته الذي كان قد طرحه علي بالأمس في مقر جيش التحرير الفلسطيني.

واستمع الرئيس لنفس الجواب، فهبّ واقفاً وقال إذاً علينا أن ندافع عن استقلالية قرارنا وقد يكون لذلك ثمن باهظ.

وأصبح واضحاً للجميع أن محاولات لجم «م.ت.ف» والهيمنة عليها أو اعتقال قرارها المستقل، فشلت.

وراحت إسرائيل من طرفها تهدد وتتوعد ووجهت أكثر من رسالة تهديد لسورية التي كانت تنشر قوات لها في أكثر من موقع في لبنان باستثناء الجنوب عبر الولايات المتحدة ودول أوروبية.

والرسائل كانت واضحة.

إذا لم تلجموا «م.ت.ف» سنضطر نحن للقيام بذلك.

وطلب الإسرائيليون من سورية أن تضغط على «م.ت.ف» لإعادة نشر قواتها بحيث تبتعد عن الحدود الإسرائيلية اللبنانية أربعين كيلومتراً، وذلك كي يصبح مدى صواريخ القوات الفلسطينية أقصر من أن يضرب أرضاً إسرائيلية.

هيأت إسرائيل نفسها للغزو باجتياح عام الذي كان محدوداً وراح المسؤولون الإسرائيليون يحثّون الإدارة الأميركية على منحهم الضوء الأخضر لتنظيف أربعين كيلومتراً من أرض الجنوب اللبناني من أي وجود عسكري فلسطيني.

وفي ربيع العام أعطى الرئيس ريغان الضوء الأخضر، فقام شارون في الخامس من يونيو عام 1982 بغزو لبنان وليس تنظيف أربعين كيلومتراً حسبما طلبت إسرائيل سابقاً.

واضطرت القوات الفلسطينية والقيادة الفلسطينية للخروج من لبنان بناء على الاتفاق الذي أبرمه فيليب حبيب المبعوث الرئاسي الأميركي للبنان.

وقّعت سورية اتفاقاً لوقف إطلاق النار في العاشر من يونيو أي بعد خمسة أيام من المعارك مع الجيش الإسرائيلي الغازي، لتترك بذلك أجنحة القوات الوطنية اللبنانية والفلسطينية مكشوفة وكانت خطط الدفاع الفلسطينية قد أخذت بالحسبان وجود القوات السورية في تلك المواقع.

لقد أبلى الجنود السوريون في بحمدون والجبال الشرقية بلاء حسناً وأوقفوا تقدم الجيش الإسرائيلي لكن اتفاق وقف إطلاق النار أخرجهم من المعارك فيما تحولت قواتهم قليلة العدد في بيروت إلى كم غير فاعل بسبب فقدان الذخائر. وتحملت القوات الفلسطينية مسؤولية رعايتهم.

* الخروج من بيروت

أدت كل هذه التراكمات بياسر عرفات إلى رفض فكرة التوجه إلى سورية بعد الاتفاق على مغادرة القوات الفلسطينية والقيادة الفلسطينية بيروت بحماية دولية، وأن تحل محلهم قوات متعددة الجنسيات لحماية المخيمات.

قرر ياسر عرفات التوجه أولاً لليونان ومن اليونان إلى أماكن أخرى، ولم يكن لدى أحد شك بأن قراره هذا كان نوعاً من العتاب أو الإدانة للموقف السوري.

وحاول الرئيس ياسر عرفات أن يقنع أعضاء القيادة الفلسطينية بالخروج معه، وعدم التوجه لدمشق حتى تكون الرسالة واضحة لكنه لم ينجح في إقناع قادة التنظيمات اليسارية أو قادة يسار فتح بالخروج معه.

قبل ثلاثة أيام من مغادرتنا بيروت إلى طرطوس «ميناء سوري» على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عقد المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اجتماعاً طارئاً لبحث الترتيبات النهائية للخروج ومتابعة العمل من سورية.

ترأس الاجتماع الدكتور جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية وكان ذلك في مكتبي بمقر مجلة الهدف التي توليت رئاسة تحريرها لفترة طويلة.

وبينما نحن منهمكون في مناقشة الترتيبات، فتح باب المكتب وإذا بالرئيس ياسر عرفات يرافقه عدد من المسلحين يطل قائلاً وهو يضحك.

«كبسة»« كبستكم» على من تتآمرون؟

كان يضج بالحيوية ويمازح ويضحك وهرع نحو الحكيم ليعانقه وجلس قائلاً: « اعتبروني عضو مكتب سياسي عندكم لنكمل الحديث» وضحك الجميع.

أطرق قليلاً وهو يهز ساقه ثم رفع رأسه وقال اسمحوا لي أن أقول كلمة قبل أن أترككم تتابعون عملكم:

رغم ضآلة إمكاناتنا، هزمنا شارون ألحقها فوراً بكلمة وحدنا عارفين يعني إيه وحدنا، وهم يتصورون أننا نغادر بيروت نحو الاندثار والانهيار؟ لكننا لن ننهار ولن نندثر.

أنا عائد للقدس ولا أعتقد أن أحداً منكم يمانع عودتي للقدس لكن طريق القدس لن تمر بدمشق يجب أن نشق طريقنا

لذلك أقول لأخي جورج تعال معي.

تلاحمنا في الميدان يجب أن يتلوه تلاحم سياسي تعال معي أنا رايح اليونان، ومن هناك سأتوجه لأرض الله الواسعة

فأجابه الحكيم بكل تهذيب أن وجهة مغادرته تخضع لقرار المكتب السياسي، وليس لقراره الشخصي وأن قرار المكتب السياسي هو أن يتوجه لسورية وكذلك أعضاء المكتب السياسي المضطرون للمغادرة.

رفع الرئيس رأسه الذي كان مطرقاً لسماع ما يقوله الحكيم، وقال:حسناً، إذاً جئتكم مودعاً وسنلتقي حتماً. وقف وصافح الحكيم والبقية وخرج من المكتب.

رافقته للخارج حتى باب سيارته، وفيما هو يدخل السيارة قال لي لقد صمدنا وانتصرنا وخروجنا من بيروت هو توجه للقدس

ازداد التوتر الذي ساد العلاقات السورية الفلسطينية مع الزيارة الأولى التي قام بها الرئيس لدمشق بعد خروجه من بيروت على ظهر سفينة يونانية إلى اليونان.

فقد شددت السلطات السورية من إجراءاتها لتقييد الحركة والنشاط الفلسطيني وفرضت في منطقة البقاع إجراءات تحد من حركة الفلسطينيين وتغير مواقعهم.

وبلغ التوتر حداً كبيراً حين نصب مسلحون كميناً لموكب اللواء سعد صايل قائد القوات الفلسطينية في البقاع واغتالوه

وسرت شائعات كثيرة بعضها يتهم السلطات السورية باغتياله، والبعض يتهم عملاء إسرائيليين لكن الحد الأدنى لتلك الشائعات كان يوجه اللوم للسلطات السورية لعدم إرسالها طائرة هليكوبتر لنقل اللواء سعد صايل إلى المستشفى، وتركه ينزف حتى استشهد.

كان من المقرر أن يقوم الرئيس بتلك الجولة على القوات للتهنئة بالعيد لكنه ألغى ذلك بناء على تحذيرات وصلته. فقد مُنعت القيادة الفلسطينية منذ خروجها من بيروت من العودة للبنان.

وحذر الرئيس كافة القيادات من التوجه إلى لبنان وحاول ثني اللواء سعد صايل، الذي أصر على زيارة القوات وتهنئتها بالعيد خاصة بعد خروج القيادة من بيروت، مؤكداً أن هذه الزيارة سترفع معنويات القوات.وشمل التضييق منع الفرق الإعلامية التلفزيونية وغيرها من دخول دمشق لإجراء مقابلات مع الرئيس ياسر عرفات.

وفي غرفة داخلية صغيرة، من غرف مكتب الرئيس بدمشق سألني الرئيس ما هو رأيك، هل أذهب للمطار وأقابلهم هناك وأغادر؟.

فكرت قليلاً وقلت لا أعتقد أنه يجب التسرع.

كانت أصداء مجزرة صبرا وشاتيلا ما زالت تهز ضمائر الجميع وفي تلك الفترة وافق الرئيس على إجراء سلسلة مقابلات على غير عادته للتركيز على مجزرة صبرا وشاتيلا.

قرر الرئيس ألا يغادر لكنني شعرت أنه بدأ يعيد حساباته منذ تلك اللحظة غير أن زيارته الثانية شهدت توتراً أكبر وطفح الكيل بالنسبة للسلطات السورية التي كانت تلاحظ حركة واسعة لإعادة انتشار القوات الفلسطينية في البقاع والهرمل فصدر الأمر بترحيل عرفات، الذي أبلغ القيادة الفلسطينية أنه تلقى تبليغاً بمغادرة سوريا فرافقه الدكتور جورج حبش ونايف حواتمه في نفس السيارة كحماية له من أي اعتداء يمكن أن يتعرض له وهو في طريقه للمطار.

كانت الإجراءات بعيدة كل البعد عن اللياقة وطلب ضابط صغير الرتبة من الرئيس أن يغادر على أول طائرة مهما كانت وجهتها.استنفر مرافقو الرئيس وكانوا يحملون أسلحتهم الرشاشة، وبدأ البحث عن طائرة مغادرة ليستقلها الرئيس ومرافقوه.

بحث الإخوة الأمر مع قائد طائرة تونسية تتهيأ للإقلاع فاتصل بتونس وأعطي ضوءاً أخضر بأن يضع نفسه وطائرته تحت تصرف الرئيس ياسر عرفات.

* وغادر أبو عمار دمشق

كانت تشيكوسلوفاكيا قد دعت منذ فترة لمؤتمر دولي حول السلام في الشرق الأوسط ولم نكن ندري ما إذا كان الرئيس سيلبي الدعوة أم لا.

فبعد أن غادر الرئيس عرفات دمشق بقيت فيها مع زملائي أعضاء المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكنت ضمن الوفد الذي تقرر أن يمثل فلسطين في هذا المؤتمر فغادرت دمشق إلى براغ.

ضم الوفد عدداً كبيراً من القيادات الفلسطينية لكن الجميع كان يترقب الخبر اليقين هل سيحضر الرئيس ياسر عرفات أم لا

وفي الصباح الباكر من يوم افتتاح المؤتمر أبلغنا سفير فلسطين لدى تشيكوسلوفاكيا عاطف أبو بكر آنذاك بأن الرئيس سيصل إلى براغ، وأن على من يريد المشاركة باستقباله التوجه إلى قاعة التشريفات الرئاسية في مطار براغ فتوجهت للمطار.

فتح باب الطائرة وهبط الرئيس ومن خلفه مرافقوه صافح الجميع وعانقهم وعندما عانقني ضغط بشدة على كتفي عوضاً عن الكلام وتحركنا على عجل وهرول الجميع نحو السيارات بينما سرت على مهل مفكراً ومتأثراً.

بعد انتهاء المؤتمر وتفادي الصدام السياسي مع الوفد السوري التقينا في منزل سفير فلسطين عاطف أبو بكر، وتحدث الرئيس للموجودين حول الأوضاع الخطيرة في المنطقة وحول محاولة السلطات السورية شق حركة فتح.

وشق القوات الفلسطينية، وحول استخدامها لبعض قيادات فتح التي انشقت وانحازت لها، لضرب حركة فتح وأن هذا التصرف هو استكمال للمؤامرة على منظمة التحرير الفلسطينية، ومحاولة تصفيتها، الشيء الذي عجزت عن تنفيذه إسرائيل.

* عرفات في طرابلس

انتهى الاجتماع وبدأ الفريق المرافق للرئيس يتهيأ للمغادرة

انتحى الرئيس بي جانباً وسأل:

هل ستعود إلى دمشق؟ فقلت له نعم.

فقال: خذ حذرك أما أنا فسأتوجه إلى طرابلس قريباً

فسألت بدهشة كبيرة: طرابلس؟

طرابلس الغرب؟؟

فأجاب: لا طرابلس الشمال. أخوك أبو جهاد ينتظرني هناك:

ولم أعلق: كان قراراً خطيراً جداً.

فهو يعلم أن إسرائيل تريد تصفيته، وأن السلطات السورية لا ترغب بوجوده في تلك المنطقة، وأن طرابلس الشمال مطوقة من كل الجهات بما في ذلك البحر.

كان قراراً خطيراً يشبه قرار الانتحار. لكني لم أعلق.

كان واضحاً أنه يريد أن يقول للسلطات السورية إن لا أحد يستطيع الهيمنة على القرار الفلسطيني، وأن من انشق وانحاز لهم لا يمثل حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية وأنه مستعد للاستشهاد دفاعاً عن استقلالية القرار الفلسطيني.

لكن كيف سيصل إلى طرابلس ـ سألت نفسي ـ سورية مغلقا، لبنان مغلق، البحر مغلق، فالشاطيء اللبناني يعج بالزوارق الحربية الإسرائيلية.

لكنه وصل إلى طرابلس كيف وصل؟

قصة وصول الرئيس إلى طرابلس قصة تشبه الأفلام البوليسية، وقد لا يتخيل إنسان أن الرئيس اتخذ قراراً بمجازفة كان من السهل أن يكون ضحيتها لكنه اتخذ القرار وجازف ووصل.

رتبت رحلة الرئيس إلى طرابلس الشمال في بداية الأمر دون استخدام الهاتف أو الفاكس أو البريد الإلكتروني، عبر لقاءات مباشرة بين منظمي الرحلة والأشخاص المعنيين، وذلك تحاشياً لأي خطأ أو خرق أمني واختيرت مجموعة من الشباب من الذين رافقوا الرئيس على مدى سنوات، والجميع يطمئن لوفائهم وولائهم وحرصهم على الرئيس.

سفير فلسطين لدى قبرص فؤاد البيطار لعب دوراً محورياً في ترتيب تلك الرحلة. «طرابلس طرابلس».كانت المرة الأولى التي يتخلى فيها الرئيس عن بزته العسكرية ومسدسه والحطة الفلسطينية.

صباح اليوم السادس عشر من سبتمبر العام 1983قبل يومين من عيد الأضحى اتصل مكتب الرئيس في تونس بالسفير فؤاد البيطار هاتفياً أبلغه أحد مساعدي الرئيس، أن مجموعة من أصدقاء الرئيس ستصل إلى لارنكا، وأن الرئيس يطلب منه الاهتمام بهم لأنهم عزيزون عليه ولم يتطرق للتفاصيل.

وأجرى مكتب الرئيس اتصالاً هاتفياً آخر مع السفير فؤاد البيطار بعد ثلاث ساعات من الاتصال الأول، وكرر أحد مساعدي عرفات توصية الرئيس بالاهتمام بالمتوجهين إلى لارنكا، لكن هذا الاتصال تطرق إلى مواضيع جديدة، فقد أعلم فؤاد البيطار أن المجموعة ستصل لارنكا، وأن عليه تأمينهم في الفندق، وترتيب وصولهم إلى طرابلس، لرؤية الأخ أبو جهاد الذي كان موجوداً في طرابلس على رأس القوات الفلسطينية.

أدرك السفير أن الأمر ليس توصية عادية بل إن مهمة هؤلاء الأصدقاء مهمة خاصة وازدادت الحيرة، إذ لم يبلغوا فؤاد بيطار عن رقم الرحلة، أو موعدها أو موعد السفر وعندما استفسر هو لم يتلق أي جواب.

وفي اليوم التالي اتصل الرئيس ياسر عرفات بنفسه بفؤاد البيطار وقال له «يا فؤاد، إنهم أصدقاء مهمون، وهم يحملون رسالة لأخيك أبو جهاد، وأريد منك أن تهتم أنت شخصياً بهم»، وازدادت حيرة السفير.

وعندما خطر له أن المجموعة القادمة قد تكون الرئيس ومن معه، طرد الفكرة مباشرة، إذ لو كان الرئيس هو الذي سيصل إلى لارنكا، لما تحدث معه هاتفياً.

بعد منتصف الليل، تلقى فؤاد اتصالاً هاتفياً آخر من مكتب الرئيس، للاستفسار عما إذا أجرى الترتيبات اللازمة لركاب الطائرة الخاصة، طائرة رجال الأعمال التي ستصله صباحاً.وبعد ساعة من ذلك الحديث تلقى فؤاد اتصالاً آخر وكان المتحدث هذه المرة الرئيس نفسه.

أكد على فؤاد اهتمامه الشخصي بالإخوة المتوجهين إلى لارنكا، وأنه يعتمد عليه لأنه سيتوجه للجزائر ثم لليمن، لقضاء العيد مع القوات الفلسطينية المتمركزة في هذين البلدين الشقيقين وأنه لن يتمكن من الاتصال به قبل ساعات.فوعد فؤاد الرئيس خيراً وطلب منه أن يطمئن من كل النواحي.

قام فؤاد بالترتيبات اللازمة واستأجر زورقاً سريعاً قادراً على قطع المسافة بين لارنكا وطرابلس خلال ثلاث ساعات وفي الصباح التالي، أبلغ فؤاد بأن الطائرة الخاصة تقترب من مطار لارنكا، فتوجه فوراً لقاعة التشريفات بالمطار وعند الساعة التاسعة صباحاً حطت الطائرة واقتربت.

كما هي العادة من الباحة الخارجية لقاعة التشريفات وما إن هدأت محركاتها حتى اقترب فؤاد منها وعندما فتح الباب وأنزل سلمها الصغير، صعد فؤاد للطائرة ليحييّ المجموعة وليتعرف إليها.

ويقول فؤاد البيطار، إنه في تلك اللحظات كان على يقين، وهو يصعد سلم الطائرة ان الرئيس ياسر عرفات، لا يمكن أن يكون ضمن المجموعة. ولهذا كان ذهوله كبيراً عندما رأى الرئيس يجلس على مقعد من مقاعد الطائرة كان الرئيس حليق الذقن، إلا من شارب كثيف، ويلبس ثياباً مدنية.

لم يعتد أحد على رؤية الرئيس عرفات بهذا الشكل لكن ها هو في طائرة خاصة وينوي التوجه إلى طرابلس.

أسقط بيد فؤاد البيطار الذي قال لا أستطيع تحمل هذه المسؤولية سيدي الرئيس؟

فأجاب الرئيس فوراً.

هذا أمر عسكري، لنتحرك بسرعة ولا تضيع الوقت.

أمام هذا الأمر، هبط الجميع من الطائرة وتوجهوا لقاعة التشريفات التي كانت تبعد أمتاراً عن الطائرة.

ولم ينتبه أحد لهوية المجموعة وجلس الجميع في القاعة، والذهول ما زال يسيطر على فؤاد البيطار الذي شعر بجسامة المسؤولية التي يتحملها في تلك اللحظة.

لكن سرعان ما تحرك فؤاد فقال للرئيس من الأفضل أن نتحرك فوراً لمنزلي، حتى لا ينكشف سرُّنا فقد يدخل القاعة في أية لحظة ضيوف التشريفات وتحرك الجميع فورا لمنزل السفير، وترك الرئيس لأخذ قسط من الراحة.

كان كل شيء جاهزاً لكن في اللحظة الأخيرة حصل ما لم يكن متوقعاً فقد اعتذر صاحب الزورق السريع وأبلغ ملاذ نائب السفير بأنه لن يتمكن من القيام بتلك الرحلة لأسباب طارئة.

أجرى فؤاد اتصالات سريعة لتأمين زورق آخر وتم ذلك ولكن الزورق هذه المرة كان زورقاً بطيئاً وستستغرق الرحلة تسع ساعات مما يعرضه للمخاطر أكثر بكثير من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الزورق السريع فالساعات التسع ستضع الزورق تحت رحمة أية دورية خفر سواحل أو زوارق حربية إسرائيلية لكن قرار الرئيس كان قاطعاً على بركة الله، لنتوجه فوراً.

وتحرك الجميع إلى لارنكا مرة أخرى.

أسدلت الستائر على نوافذ السيارة وجلس الرئيس في المقعد الخلفي وطلب منه عدم لمس الستائر وألا يلتفت لأحد عند الوصول.

قرب الميناء، أوقفت السيارة وهبط فؤاد ليكمل الاتفاق مع صاحب الزورق، وأعطى الرئيس صحيفة يونانية، وطلب منه تصفحها تمويهاً.

خلال دقائق تم كل شيء، وكانت الساعة تشير للحادية عشرة والنصف صباحاً عندما صعد الرئيس ومرافقوه للزورق.

لم يصعد فؤاد للزورق لتوديع الرئيس خشية أن يلفت الانتباه ودعه دامعاً، وتم الاتفاق أن يتصلوا بفؤاد فور الوصول لطمأنته وطمأنة الإخوان.

أبحرت الباخرة الصغيرة نحو شواطئ لبنان وعاد فؤاد للسفارة، واستدعى كل من ساهم في الترتيبات وطلب منهم الجلوس في مكتبه، وأبلغهم أنه سيغلق عليهم الباب، وسيقطع خطوط الهاتف عنه إلى أن يصل الرئيس، وبعدها سيكونون أحراراً وقبل خروجه من المكتب نظر إليهم قائلاً هذا الإجراء حماية لكم في حال حدوث أي خطأ.

زاد بطء القارب رتابة فيما كانت تنشدّ قلوب وأعصاب المجموعة نحو الوصول للشاطيء بأسرع وقت ممكن.وبعد مضي عدة ساعات أراد الرئيس أن يصعد إلى سطح المركب ليرى من بعيد شواطيء لبنان وفلسطين.

حاول المرافقون ثنيه عن ذلك لكنه أصر. لاحظ القبطان أن شيئاً غريباً يكتنف هذه المجموعة كان القبطان سوري الأصل من أرواد.وعندما صعد الرئيس لسطح الزورق تحيط به المجموعة، دقق النظر في وجهه وعرفه عرف أنه يحمل في زورقه الرئيس ياسر عرفات

هجم القبطان معانقاً الرئيس قائلاً:

يا رئيس أنت قائدنا ورمزنا أنت أمانة في عنقي.

فشعر الرئيس أن بإمكانه التمتع بمنظر الشاطيء، شاطيء فلسطين ولبنان.

وعند الوصول للمياه الإقليمية اللبنانية أبلغ الرئيس أن قاربه الباخرة الصغيرة تحتاج لمياه عميقة للرسو وأن الشاطيء القريب من نهر البارد ليس عميقاً.

أعطى قبطان الباخرة إشارات لقوارب الصيد المنتشرة في تلك المياه فاقترب واحد منها فاوضه القبطان واتفق على نقل المجموعة للشاطيء مقابل أجر كبير.

واضطر قارب الصيد أن يتوقف على بعد أمتار عديدة من الرمال لأنه لا يستطيع التقدم أكثر.

فقام أحد المرافقين بحمل الرئيس على كتفه وعبر الأمتار المعدودة من البحر كانت المياه تصل إلى وسطه، فتقدم حتى وصل الشاطئ وانزل الرئيس من على كتفه.

ولحق الآخرون بهما.

أسرعوا نحو الشارع العام وأوقف أحد الاخوة سيارة أجرة وطلب من السائق أن يقلهم لمدخل المخيم.

انتبه السائق فراح ينظر عبر مرآة السيارة للراكب الذي جلس في الخلف يحيط به الشباب ثم راح يصرخ فجأة أبو عمار قائدنا كلنا فداك.

أراد السائق أن يوقف السيارة ليعانق الرئيس لكن الرئيس طلب منه أن يتابع سيره بسرعة.

فتابع سيره نحو مدخل المخيم أوقف السائق سيارته عند مدخل المخيم وهرع نحو الباب الخلفي ليفتحه فهبط الرئيس من السيارة، وعانقه السائق بقوة وودعه داعياً له بالنصر.

وتقدم الجميع نحو المخيم.

كانت الراحة تبدو على وجه الرئيس، وأعصابه مرتاحة، فسار يحث الخطى نحو مقر القيادة.

وهناك كان أبو جهاد بانتظاره.

انتهت الرحلة الخطرة لتبدأ المعركة الأخطر.

ويودع جنبلاط لدى مغادرته بيروت 1982

صبرا وشاتيلا.. مجزرة هزت ضمير العالم.

Email