القريب البعيد

تعليم الصم والبكم في حاجة لاستراتيجية متكاملة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر تعليم الصم والبكم من المجالات شديدة التخصص التي تتطلب نوعية معينة من المدرسين القادرين على الوفاء باحتياجات هؤلاء الطلبة الذين يحتاجون عناية فائقة للتعامل مع احتياجاتهم الخاصة، وقد يعتقد البعض أن تعليم الصم من المهن الجامدة التي ينحصر عمل ممارسوها على مساحة ضيقة لا تتعدى في أغلب الأحوال المدارس القليلة التي تتخصص في هذا المجال.

غير أن الحقيقة غير ذلك كلية. فالمدرسون العاملون في هذا المجال شديد التخصص يمارسون مهنتهم في أطر تعليمية مختلفة عدة. فهم يعملون في المدارس الخاصة والحكومية والمعاهد التعليمية المعنية بالطلبة الذين يعانون صعوبات في السمع.

ويعملون كذلك في الجهات الحكومية التي تتعامل مع مثل هؤلاء الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة كمترجمين. كما يشاع استقدامهم في الخارج من قبل العائلات الثرية في أوروبا وأميركا كمقيمين دائمين لمساعدة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.

وفي الوقت نفسه هناك العديد من المجالات الأخرى التي يمكن أن يعمل فيها من يقدم على التخصص في لغة الإشارة وبرامج مساعدة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في السمع، مثل علم أمراض السمع وبرمجيات التقنيات السمعية والبصرية والاستشارات والإدارة المدرسية.

ومن هنا يتضح بشكل كبير أن مجال تعليم الصم والبكم يوفر خيارات مهنية عديدة للأفراد الذين يهتمون بالعمل مع تلك الفئات من الطلبة، كما أن طرق التدريس في هذا المجال تتسم هي الأخرى بالمرونة التي تتيح للمدرس والمتعلم قدراً من الحرية لتوصيل المعلومة بأقصر الطرق وأكثرها فعالية.

غير أنه منذ أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، قام جدل كبير بين أنصار الأسلوب اليدوي، وأنصار الأسلوب الشفوي في تعليم الصم، وذلك في الوقت الذي أثبتت فيه الدراسات البحثية والاستطلاعية في علم لغة الإشارة الافتقار إلى أساس علمي لتطبيق المنهج العلمي في التدريس تطبيقاً صارماً.

وقد برز منذ بداية الثمانينات تعبير «الاتصال الشامل» كفلسفة تدمج ما يتناسب من طرق الاتصال السمعية واليدوية والشفوية، وهو يشمل الإيماء والإشارة والقراءة والكتابة، وأية صيغة من شأنها إيضاح الاتصال وتيسيره.

وانطلاقاً من هذه المعرفة بدأت بعض الدول المهتمة بتعليم الصم والبكم وذوي الاحتياجات الخاصة بشكل عام في تطبيق ما يعرف باسم برامج الاتصال التامة. وتبين الدراسات أن عناصر مثل تلك البرامج تتلخص في اتباع الوسائل التالية في آن واحد:

1ـ لغة الإشارة

2ـ النطق

3ـ قراءة الشفاه

4ـ القراءة والكتابة

وتركز تلك البرامج أيضا على التدريب السماعي.

إن هذا التطور في فلسفة تعليم الصم نابع في الأساس من تغير النظرة إلى تعليم اللغة من كونه عملية تقنية قائمة بذاتها إلى عملية تشتمل على تنمية الطفل ككل ولا يمكن فصلها عن حالته، علاوة على انه لا يمكن لشخص أن يتعلم لغة ما من دون أن يتعرض لها ومن دون تنميتها عن طريق استخدامها في المواقف المختلفة.

وبالتالي فان برامج الاتصال التام تنطلق من فلسفة منفتحة على كل الأساليب وأنماط التدريب بقصد الاستخدام الأمثل لكل مناهج الاتصال المعروفة، وتتخذ موقفا إيجابيا من المتغيرات الفردية بجانب الأخذ بعين الاعتبار ما يتعرض له الصم من صعوبات في التكيف اجتماعيا ونفسيا وتعليميا.

وهذه الفلسفة صادق عليها رسميا الاتحاد العالمي للصم، وأدى التطبيق والتجريب العملي لها في العديد من البلدان إلى نتيجة مفادها انه لم يعد من الصواب الأخذ بالفكرة القديمة القائلة إن استخدام لغة الإشارة يعوق نمو اللغة المنطوقة والمكتوبة وبدأ الاعتراف المتزايد بلغة الإشارة وتقبلها وتحويلها من إشارات بدائية وبيتية إلى لغة لها بنيتها وقواعدها.

ولأن غالبية برامج تدريب الأطفال الصم على الكلام تتركز بالدرجة الأولى على استراتيجيات لفظ الدلالة والمشمول بهذه الدلالة، فإن غالبية الأطفال الصم لا تنمي المستويات المتعلقة بالمضمون والمفهوم، ولهذا نجد أن كلامهم يقتصر على الحديث عن الأشياء أو التجارب التي تقع في سياقهم المباشر، فمثلا لا يمكن عرض كلمة «صناعة» أو «إنتاج» في صورة أو كلمة معزولة.

إن لغة الإشارة، التي تعد اللغة الطبيعية للصم، يمكنها، في حال أن يحسن توظيفها، أن تفي بهذا الغرض المتمثل في إنماء المستويات المتعلقة بالمضمون والمفهوم.

فضلا عن ذلك، فان برامج الاتصال الشامل معتمدة عالميا من قبل منظمة اليونسكو، وقابلة للتطبيق في مجتمعات مختلفة من حيث درجة تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وتنطلق مثل تلك البرنامج من استثمار عناصر القوة عند الصم بدلا من نقاط الضعف لديه، وذلك في ضوء الحقيقة المتمثلة في أن الصم يمتلكون قدرات عالية يجب التعامل معها بوسائل الاتصال المناسبة بجانب صقل ثقتهم بأنفسهم.

وينبغي الإشارة في هذا الصدد أيضا إلى أن فلسفة الاتصال الشامل تعتمد بشكل كبير على الاتصال مع المجتمع وتمنح دورا أكبر لجمعيات الآباء والأمهات ومنظمات الصم باعتبارهم شركاء في تعليم الأطفال الصم.

وفي ضوء الأهمية الكبيرة لتوفير المناخ الأمثل للتعلم أمام تلك الفئات التي تعاني ضعفاً في السمع، شددت الدراسات التي أعدت في هذا الشأن على ضرورة أن يلعب الآباء والأمهات الذين لديهم أبناء يعانون مثل ذلك المرض دورا إيجابيا في التخفيف من المعاناة التي يتكبدها هؤلاء في حياتهم العملية وذلك عن طريق الإقدام على تعلم لغة الإشارة، بصفتها الوسيلة الوحيدة للتخاطب مع الصم والبكم.

وتبين تلك الدراسات أن هناك تقصيراً مؤسفاً بشكل كبير من جانب الآباء والأمهات في تعلم تلك اللغة والاعتماد بشكل أساسي على المعلم أو المدرسة غير أن جميع الأبحاث تؤكد أن دور البيت لا يمكن بحال الاستغناء عنه إذ أن المعلم أو المدرسة مهما بلغت كفاءتهما يتعاملان مع الشخص الذي يعاني الصمم أو الطرش كنموذج دراسي أو حالة مرضية بعيدا عن البعد العاطفي والنفسي للشخص أو للطفل، هو البعد الذي يتوافر لدى الوالدين دون غيرهما.

حاتم حسين

Email