إنعاش بلا توقيت

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك أحداث قاطعة تكتب بأقلام سقاها الزمان مرارة الأوجاع، لتحتسي قهوة الوداع وسط أجواء ترانيم صوت فيروز المخملي، إلى أن يبدأ انقطاع أوتار الفرح شيئاً فشيئاً، دخان أخرج شظاياه الخانقة ليلون المكان باللون الرمادي الباهت، الذي سرق جمال تلك المدينة بلحظة مباغتة.. عيون تترقب وقلوب ترجف رعباً لتتسارع نبضاتها، وكأنها تعلن بينها وبين ذاتها أن تلك القلوب تحتاج لإنعاش مفاجئ، لتتمكن من وقف تلك الضربات المتتالية التي أتعبت ذلك القلب المرهف، لتبدأ خطواته تتعرج لنهاية غير معروفة.

حينها بدأ ذلك الدخان يفرد عضلاته الهزيلة، ليمتد إلى نوافذ أحكمت على نفسها بقطع زجاج، لتصل رائحة الخوف إلى كيان هؤلاء البشر، وما إن استطاع ذلك الدخان أن يثبت مسماره إلى أن يحدث ما لم يكن بالحسبان! وكأن هيروشيما تعيد سرد قصتها من جديد، لحظات رعب عاشها هؤلاء الناس، منتظرين ما وراء هذا الحريق، إلى أن ينبثق هذا الانفجار الهائل ليمحي لنا ملامح تلك المدينة، وقام بتسديد ركلات قاسية إليها، ليتعالى صراخ طفل مناجياً والده، مردداً أنه لا يريد أن يأخذ الموت براءته وطفولته ويصبح اسمه في سجلات الوفيات التي ذهلت من أعداد الضحايا، الذين وضع لهم ذلك الانفجار المميت نهاية لقصة لم تبدأ بعد، وكأنه يسلم ذلك النعش ليبقيهم في سبات دائم، ويسكت أفواههم ويخيطها بغرزة ملطخة بدم هؤلاء الأبرياء، حتى بدأوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وأصبحت قصتهم تروى في نشرة الأخبار بنبرة يكسوها الحزن والعجز، ليعلن المذيع عن خالص تعازيه لأسر هؤلاء الذين ذهبت أرواحهم وظلت دماؤهم الزكية تفوح برائحة المسك في سماء بيروت.

دموع تحكي لنا مرارة الفقد لتصب في زاوية بدأ ينبوعها يخطف موجات الفرح وسط أهازيج بدأت تشحن جو المكان، حتى أتى ذلك الانفجار ليبدل فستان الزفاف إلى بياض يملأه الحزن والخوف من أن تكون النهاية فاجعة. ركامُ البيوت شيّب جمال هذا المكان الذي تعودنا أن نسمع فيه ضحكات أهاليه الكرام، وبات يتردد في أرجائه صوت بكاء وصرخات عالية، أخرجت الحنجرة من موقعها تستغيث أملاً بعودة لبنان كما عهدناه لوحة مرسومة بأيادي شعبه، رسمها بريشة العطاء والجمال، إلى أن بدأت تنزف وتلطخ باللون الأحمر القاتل، ليردد الجميع «من قلبي سلاماً لبيروت»، التي باغت شعبها سكتة قلبية مفاجئة، حتى انسد مجرى تنفس الأمل لتمتلئ غرف العمليات بجراح لم تلتئم بعد، وأخبرونا أن ذلك الإنعاش لم يجدِ شيئاً.. ولكننا نخبرك يا لبنان أننا للنفس الأخير نقف معك صفاً واحداً حتى نعيد جمال تلك اللوحة المفقودة.

Email