حرب بلا أطراف

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلف القضبان الحديدية التي تملأ أرجاءها جدران مهجورة لا تسمع فيها سوى صدى طلقات رصاص تضرب في عرض الحائط لتصطد في الزاوية الأخرى بأعناق بندقيات تقتل حتى نفسها! عالم حالك يتعنون بأصوات صراخ تكاد تخرج قوقعة الأذن من مكانها، هنا يجلس المعتقل ليصعق نفسه بكومة أفكار تغزوها التساؤلات المحيرة، حتى يجد نفسه يخوض حرباً داخلية تقوم بها السيوف بمبارزة نفسها، يلبس السجين أصفاده بنفسه وكأنه يسلم روحه لأحضان ذلك السجن المهيب الذي رممه بأسلوب معماري فريد من نوعه، حتى أن المسامير تشتكي قائلة: إلى متى سوف أعلق في تلك اللوحات الرمادية البائسة؟ أم أن تلك اللوحة ستنافس الموناليزا في معيار غرابتها وكأنها تنظر إلينا بمنظار يكاد يجعلنا نصدق أننا بالفعل وقعنا في دائرة الخطر. يغزو محيط تلك الدائرة كتلة من الأفكار المميتة التي تجعل المعتقل يشعر بأن ليس لتساؤلاته أي جواب منطقي، لأنه يستمر في إطلاق اللوم لذاته حتى يسقط نفسه طريح فراش أهلكته عثرات تلك الحرب القاسية.

محاربة الشخص مع ذاته تخرج من باطنه حصيلة من الأفكار الانهزامية، لأنه لا يقبل التكيف مع التغييرات التي تحتم عليه التأقلم معها، فهو لا يقبل أن تتعرج خطوطه المستقيمة فجأة، أيظن أن ذلك العالم من الممكن أن تظل خطوطه الهندسية صامدة لا تنحني مع تلك التغييرات التي قد تجعلنا نأخذ بمسطرة العزم لإعادة كل ضلع في مكانه الصحيح، ولكن أيعقل أن يعيش ذلك المعتقل كل حياته في صراع يحبس الأنفاس لدرجة أنه يأخذ بعتاد تلك المعركة الدامية معلناً الحرب العالمية الثالثة بينه وبين ذاته؟

تستمر تلك الفئة بالنقد الدائم لتصرفاتها وأفعالها، لأنها لا تتقبل حدوث أي خطأ من الممكن أن يغير مجرى حياتها، وهي لا تعلم أننا نتعلم من الأخطاء لنجعلها دروساً حياتية تمر في ذاكرة حياتنا اليومية. يبدأ هؤلاء بشحن أسلحتهم برصاص التمرد والمقاومة لمحو دفاتر السلام والطمأنينة، لينقشوا تفاصيل ذلك الغزو الفكري الذي أطلقوه في عنان تفكيرهم، حتى أن خريطة غوغل لم تعد تستوعب لغتهم الصماء، ليجدوا أنفسهم بالفعل قد وقعوا في أعماق الطريق المنحدرة.

في الواقع أن هناك مقتطفات في ذاكرة حياتنا نجد فيها أن السلام مع الذات يجعل الحياة تكتب لنا تفاصيل مختلفة مليئة بملامح التفاؤل دون التدقيق لكل غرزة أنبتت ثغرها في عروق ذلك العقل الذي أهلكته أدوات الاستفهام من كثرة تكرارها في ذلك الحوار المعقد، الذي نستنتج من حبكته أن الحياة لا تريد أن تجعلنا نسخة واحدة كررتها تلك الحرب الصامتة، لتصبح حرباً بلا أطراف.

 

 

Email