عش حراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أصعب أن تجد نفسك تائهاً، ضائعاً، ممزقاً بين قارتين، بين مدينتين، تفتش عن ذاتك، هنا وهناك، بين المحطات والمطارات، في الأزقة، في الشوارع الخلفية، وبين البسطاء في القرى البعيدة النائية، إلى متى هذا التيه، هذا الشتات؟

يتعمق الشتات في نفسك كثيراً، لم تعد كما أنت، فتقضي أيامك تائهاً، أربعون عاماً من التيه لم تكن كافية، ضيعت ذاتك مراراً وتكراراً، لم يبقَ من العمر المزيد، ما عدت تقوى على الصمود، لم تكن تجيد تعلم الدروس، لا تجيد أشياء كثيرة، تكرر أخطاءك، تثق بالناس بسهولة، أمثالك لا تناسبهم تعقيدات المدينة، وها أنت ذا تقف الآن حائراً، تنكفئ على نفسك، تعتريك مشاعر مبهمة متضاربة، يضطرب الفؤاد، يرتجف، تشعر بأنك تشيخ بوتيرة سريعة، تدهمك المخاوف، تشعر بأنه لم يعد لديك رغبة في القيام بأي شيء، تُرى هل تسربت مشاعر الملل والضجر إلى نفسك، بعد أن خفتت وتيرة الإثارة، أم أنك لم تعد قادراً على الصمود؟ ترى هل حان الآن وقت الاستسلام وأنت المناضل دائماً؟

تضحك، لأنك توقن أن الاستسلام ليس خياراً، لطالما كان الأمل هو المحرك الذي يبعث في نفسك تلك الطاقة الإيجابية لمواصلة الحياة كأنها مغامرة مثيرة مشوقة، تضحك من المواقف السخيفة التي تجد نفسك فيها، تسخر منها، تتغابى، تتغافل، وتواصل المسير غير عابئ بما يحدث حولك، تتعامل مع كل شيء ببلاهة، بهدوء، لقد وصلت إلى المرحلة الملكية، فلم يعد شيء مهماً، لقد أيقنت أنه لا يمكن إصلاح الكون، ولا حل مشكلات العالم، فأنت مجرد عابر سبيل، عليك مواصلة المسير، مواصلة السفر نحو وجهات جديدة، عش حياتك، حريتك، فقد ولدت حراً محلقاً في السماء لتبدو كل الأشياء على الأرض صغيرة.

 

Email