الفكاهة الغائبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسعدني افتتاح صباح اليوم بالكتابة عن أدب مفعم بالحيوية يُحدث فينا مفارقات نفسية وبلاغية وتنويرية تنطوي على السلوك والفهم العام، ألا وهو أدب الهزل، وكم يخطئ من يعتقد أن الفكاهة من الأجناس الهابطة أو الهزيلة التي لا أهمية أدبية فيها، فالواقع أنه أدب نادر صعب إيجاده، وبحاجة إلى فكر متقد وقدرة ذهنية ولغوية لتشكيله في حينه، لذا نلحظ في أغلب الهزل الذي قرأناه في النثر العربي وحتى العالمي، أنه ليس اختراعاً أو صناعة بقدر ما كان موقفاً مرتجلاً في سلوك أو سياق كلام لإظهار الحقيقة بعبارات تعكس الحقيقة ذاتها، لذا فصُنّاع الهزل قلة قليلة، وأغلب الهزل يأتي من موقف ذكي يتم التقاطه.

كما لا نتخيل اليوم آدابنا القديمة من دون سخرية، منذ الجاحظ إلى نجيب محفوظ في أدبهما، وحتى التوحيدي الذي طرح على الأدباء الاهتمام بأدب الهزل المغذي حاجات الإنسان الروحية والفكرية شرط أن تكون ذات مضامين ودوافع وأهداف، وبلا سخف ومزاج، إلى العالم الغربي «فرويد» الذي أعطى مفهوماً للهزل العميق البعيد عن الابتذال.

فشكراً لمن كتب وقبض على نثر أدبي قديم ساخر بهدف تمكين المرح الذكي في حكاية أو قصيدة أو حوار، فبهذا التوثيق أصبح واضحاً لنا اليوم وبعد قرون، كيف كانت علامات الروح ومستوى اللطف والدهاء والحضور للآباء الأوائل، وكم هي الذاكرة متصلة بهم ونحن نبتسم ونضحك بدل الاتصال بأدب الجد من معارك البكاء ودسائس الحزن والمعاناة.

بطبيعة الحال نميل إلى أدب الهزل لتأثيره في النفس، لأنه أدب درسي يمدنا بالوعي لإيصال ما نريد بالرضا والضحك، فنقول في العادة كلمة «نَكَتَ»، وهي في قاموس المعاني تعني الكلام المستملح، لكن «النُكتة» بضم النون هي (النقطة) المختلفة في اللون والدقة، إذن هو أثر عميق لبديهة حاضرة ولغة جزلة وفي ذروة الوقت، فأتى أدباً نادراً، والنوادر نوع من أنواع الفقه، والفقه في اللغة مصدره فَقُه، أي صار فطناً وعارفاً، وفَقه الأمر أي أدركه، إذن ما أعظم أدب الفكاهة والظرافة!

إننا نجد في صفحات الأدب جداول تُشَق منها خطوط متوازية للسقيا والنهل، قد تتقاطع، لكننا بين الجدولين الكبيرين أدب الجد وأدب الهزل، نميل إلى الفرح وأصالة الروح، ومع ذلك هو اليوم أدب غائب، وأغلب الموجود لا يرتقي لهذا المسمى، كما يتجنب البعض الدخول فيه كي لا يسقط، لأنه مستعمل كأمر رخيص ومسلٍ وضحك من غير فكر، ليتصوره البعض خفة، ولم يحظَ حتى بالاهتمام في الدراسات المكتوبة الحديثة، بينما الحقيقة أنه من أنجح الآداب إن علمنا كيفية استخدامه، فمن ابتدعه كان قصده الوعي الذي يمس القلب، فهل من أحد لا يحب الترفيه عن النفس أدباً وفقهاً؟

Email