الدروب الطويلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجدتني في الغرفة الفندقية أحدق في الفراغ، الوقت متأخّر، أشعر بالإرهاق، كان يوماً طويلاً، السفر براً على ما فيه من مشقة لكنه لا يخلو من المغامرة والاستكشاف، ومتعة كبيرة في مشاهدة الطبيعة، ومعايشة تجارب جديدة، بضع ساعات من النهار قضيتها في السفر براً، المتعة في الترحال وليس في الوصول إلى الوجهة، الوصول إلى الوجهة يعني نهاية الرحلة، النهاية قد تكون بداية جديدة، الدروب طويلة، غامضة، وعِرة، لا نهائية، الحياة رحلة وليست وجهة، طريق الإسكندرية الصحراوي، اختراق القرى والبلدات.

والتوقف في بضع محطات، التسكع قليلاً قبل مواصلة الرحلة، ثم الطريق الساحلي الدولي، وصولاً إلى مدينة العلمين الواقعة في هذا الجزء الشمالي من قارة أفريقيا، اكتسبت هذه المدينة شهرتها منذ الحرب العالمية الثانية، حين دارت على أرضها معركة العلمين التي تعد أحد أشهر معارك الحرب العالمية الثانية بين دول الحلفاء ودول المحور.

والتي منيت فيها قوات الفيلق الإفريقي الألماني بالهزيمة، بقيادة رومل الثعلب الألماني الماكر، وجدتني أعيش تفاصيل المعركة، كأنها فيلم سينمائي بالأبيض والأسود، النعاس يغالبني، يبدو ماكراً كالثعلب رومل، يهرب مني كلما هممت بالقبض عليه، وبعد عدة محاولات فاشلة للاستسلام للنوم، تركت الغرفة ونزلت إلى بهو الفندق الذي يبدو خاوياً في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل.

أخذتني قدماي إلى خارج الفندق، ثمّة سيارة أجرة في الخارج، ألح عليّ سائقها ليقلني إلى بعض المقاهي التي لا تغلق الا مع أول خيوط الفجر، اعتذرت فلست من رواد المقاهي ولا الملاهي، مشيت بضع دقائق حتى وجدت نفسي أقف أمام البحر الأبيض المتوسط، أحدق في المياه الداكنة المضطربة، الأمواج تتلاطم بصخب ثم سرعان ما تتماهى على الشاطئ، كأنها تنتحر لتعود إلى البحر مرة أخرى، انتحار أبدي، ودورة حياة أزلية، تدور في ذهني ألف ألف فكرة، ثمة ضوضاء في رأسي، من الذي استبدل الموسيقى بهذه الضوضاء، تنفست عميقاً في محاولة لتصفية الذهن، الهواء منعش، مشبع بشيء من الرطوبة لها طعم البحر، بل يشبه طعم جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، وسانتوريني اليونانية، شعرت كأن تلك الجزر تناديني، لكن أمامي رحلة طويلة في الوطن العربي الكبير، أبعدت صور الجزر الأوروبية من مخيلتي، حاولت ترتيب الأفكار المتضاربة في رأسي، وجدت بضعة أحلام تنتظر، عشت لحظات فيها، آه، حتماً أحتاج إلى مثل هذا الهروب من الواقع، لم يكن مونتغمري عبقرياً ولا شجاعاً لينتصر على رومل لكن الأخطاء جعلت رومل يخسر وصنعت من مونتغمري بطلاً يخلده التاريخ.

Email