الحداثة والنوستالجيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بدايات الاتحاد في السبعينات، جاء الحداثيون من الشباب المتعلم والموهوب شعراً ورسماً... ومن مختلف إمارات الدولة، برغبة شديدة في التغيير من خلال الإبداع والكتابة، يدعون إلى محاربة الثبات الفكري ومدعومين بثقافة الحداثة المنتشرة في المنطقة كلها، فمن الصعب ألا يجدد كل عصر نفسه، والشباب الفتي يبحث عن الفكر الإنساني العادل في كل زمن، فكتبوا الكثير من الكتابات التنويرية للمجتمع.. كما كان لافتاً انتشارها في عالمنا العربي بعد تحريره من مستعمره، سواء في المغرب العربي والمشرق العربي أو في الخليج العربي.

الحداثة سبقٌ زمنيٌ وأمر طبيعي لن يكف يوماً عن الحراك، وقبول الحداثة في الإمارات كان في البدء هادئاً ومنسجماً، لكنها كانت مجازفة للبعض، هي برأيه صادمة ومناهضة للتقليد المعاش.. كما ظهر موقف عدائي آخر من هذه الفكرة بوصفها خبيثة دخيلة تميل إلى تمزيق المجتمع، وأنها أزمة من أزمات القيم والدين.. ظهور الاختلاف هنا بين مؤيد ومعارض ومسالم.. أفرز جمهوراً تنويرياً نشأ في ظل ثقافة عقلانية فكرية، وجمهور تقليدي عدّل موقفه عن الحداثة بوصفها متعالية الفكر، وجمهور صارم رأى في الحداثة تمرداً يؤدي بهم إلى التشكيك في الأسس الدينية.. لتبدأ المواجهة اللغوية.

أما أصحاب الفكر الكلاسيكي والاتجاه الأدبي المحافظ في الدولة فلم يشاؤوا قبول عالم الحداثة بكامل أفكارها، كما أنهم لم يختاروا المشاجرة معهم لأنها تشوه صورة المجتمع والعلاقات بين بعضهم البعض وهم من يريدون الحفاظ عليها بسبب الروح التاريخية والعائلية الممتدة بينهم، بالمقابل أظهر الحداثيون في العشرية التالية ميلاً إلى العزلة وكسلاً وصمتاً أمام التيار الديني السياسي الذي أخذ يتوسع في مجتمعات المنطقة ككل.. ويتمكن في الكثير من الجوانب الإدارية في المؤسسات، مع إلقاء محاضرات منظمة عن الحداثة المقلدة للغرب، بالإضافة إلى نشاطهم الكبير في نشر دراسات تبين الموقف السلبي للحداثيين من الدين، فكان ذلك لهم بالمرصاد أمام الجيل الجديد في مجتمع التسعينات الذي أبدى جاهزيته لتقبل أفكار أقرب إلى التقاليد وطريقة عيش أسرهم.

أمام كل هذه العناصر المجتمعة اتهم أنصار الحداثة الحداثيون بالانهزامية وانتصار الثابت على عقولهم المفتوحة، وكان المأزق الحزين في كيف ينهزم التنوير وفي القرن العشرين؟ أما في الألفية الجديدة زحف أنصار العلوم والتكنولوجيا والذكاء الاجتماعي إلى مقدمة المجتمع، مع تصدي السياسة الحكيمة للتيار الديني الطامع للسلطة، أخذ الحداثيون ينمون بخجل أمام كل تلك الأفكار التي بدأت تتكدس، وأمام مراقبة المجتمع المحافظ لما يكتبون، وأمام مجتمع متعطش لقراءة الأدب الكلاسيكي والتاريخ القديم لأرضه، حتى تفهم الكاتب الحداثي المجتمع النوستالجي برمته أمام زحف البناء والتغيير. ما جعلهم بدلاً من المواجهة الصريحة والمعلنة، يدخلون في عالم التأليف الخيالي المليء بالنوستالجيا وعبور الماضي في أحداث مفتعلة لقول ما يريدون.

 

Email