حوار - حوار

ت + ت - الحجم الطبيعي

بلا شك أن مشروع «حوار الحضارات» مهم للتوضيح وملهم للتعبير عن علاقات الدول القائمة لإيجاد المشترك، ويقيناً أن المقاييس لم تضِعْ يوماً بيننا كبشر ونحن على هذه الأرض الوحيدة ببيئتها وفضائها المشاع للجميع، لكنه الطمع والاستعلاء المتسلل في نفوس البعض جيلاً بعد جيل، يتبعه إهمال الحوار، لتحضر العداوة بألوانها، ونسيان جمالية فكرة التعدد والتمايز والاختلاف بين البشرية... وهكذا.

وفي كنف التناقض الحاد، يحضر الاستيعاب المتأخر وفي كل زمن، عن ذلك المعنى من وحدة الهموم الفكرية، ليجمعنا من جديد حوار الحضارات الذي نادى به المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي، مهما كانت ثقافتنا ودياناتنا واقتصادنا وسياساتنا.

بلا شك أن المشترك بيننا على الكرة الأرضية أعمق من المختلف، وبالتالي أرقى هدف يقدمه الإنسان أثناء الحوار هو إيجاد الأنموذج المشترك بين الشعوب يسهم ولا يعزل، يقرب ولا يبعد، أو دعوني أقول: شيء يجمع ما بيننا، ويشد على ما لدينا، ويسحب ما يجرنا، ويكافئ تقدمنا... لا حوار متعالٍ بسبب فكر أو ثروة أو تاريخ حانق أو مذهب أو دين.

رؤية ولو واحدة نستطيع الانطلاق منها، نؤسس علاقات جديدة ومبصرة تأخذنا نحو الارتباط الوطيد، بعد تاريخ طويل من الخصام، ولنقتنع أنه من أجل إقامة الحوار، لا شيء كالحب والتعاطف يحتذي به الكبار في العالم، أولئك المسيطرون في الدول العظمى يستطيعون السير في طريقه بدلاً من الهيمنة وتمجيد القوة.

حوار السلام أو حوار الحضارات أو القبول، باعتقادي هو ليس وليد المفكر «غارودي»، فقبله بـ7 قرون كَتبَ الرحالة الأندلسي ابن جبير رحلاته في مخطوطته النادرة والمحفوظة اليوم في جامعة «لايدن» الهولندية، وصفاً لبلدان من القرن 12 الميلادي، وملاحظاته الدقيقة الآمنة عن الإسكندرية التي تدفع أوقافها الإسلامية ضرائب يهود ومسيحيي المدينة مقابل مئات المساجد المتوفرة فيها، إلى مملكة القدس المسيحية ليصف السلام والحال المزدهر للمسلمين فيها، منتقلاً بسلام على سفن «جنوة» الإيطالية في البحر المتوسط.

ويكتب نصاً دقيقاً للغاية وهو يمر بالأمكنة الجغرافية الأوروبية بأسمائها كيف يعيش المسلمون فيها بشكل مريح، وهم يسلمون نصف محاصيلهم إلى الفرنجة وقت الحصاد، مقابل حماية منازلهم وأراضيهم والسهر على راحتهم... والمفارقة في فترة كان المسلمون يعيشون الأذى في بلادهم الإسلامية بسبب الاختلاف المذهبي أو العقيدي.

وها نحن المعاصرون اليوم نقرأ هذا السفر الوصفي الإبداعي الحواري البعيد لحضارات وحكايات راقية من أجل التعايش رغم الاختلاف... نتساءل بعد كل التجارب التاريخية العنيفة: ما الذي يجعل أياً من الشعوب يتصور بأنه بؤرة الكون، ليحدث كل هذا الضجيج لنفسه ولمن حوله؟ فلم يعد أمام هذا الإنسان الكوني سوى الحوار الإنساني لفكرة موجهة للحب فقط وبلا توقف، كي يتصدى به لنظريات الأطماع الخائبة.

 

Email