أنصت..

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتزاحم بداخلنا أصوات كثيرة، ويعلو صداها، وتصبح أحياناً كالصراخ، وأحياناً أخرى كالأنين. لا نميز ولا نستمع ولا نفهم أياً منها. في كل مرة نصمت، لكن يبقى بداخلنا ازدحام للأحاديث، وتستمر النقاشات والحوارات بلا توقف، سؤال وراء سؤال، وحكم وراء حكم، واستسلام وراء استسلام. وبين طيات هذه الدوامة تختنق أصوات حنونة ولطيفة، يخفت صداها، ويختفي صوت الحماس والتحفيز لا يعرف طريقاً للظهور.

نبدأ بالحديث مع الآخرين لا نفهم ما يقولون أو حتى عن ماذا يتكلمون، كل همنا في تلك اللحظة أن نعد العتاد والعدة لنجهز الردود التي ندافع بها عن أنفسنا حتى وإن لم نكن متهمين في الأساس، ونبني لنا حصناً حصيناً لنبعد أي شكوك أو أحكام ونبحث عن شماعة فارغة لتعليق الأعذار.

أما في حديث البراعم والطفولة وبراءة الحرف، فنتقمص الأدوار ونلبس الأقنعة المخيفة لدور الأم والأب الناهي والآمر والناصح والرادع. ومع كبيرنا نتأفف من لحظات لا تعوض؛ لأننا سئمنا القصص نفسها التي لم نفهمها وتخطينا بكبريائنا تواضع الحديث معهم.

أنصت؛ فهل جربت أن تنصت، هل حاولت أن تستمع لصوت واحد في كل مرة بداخلك. كل ما نحتاج إليه هو أن ننصت، لنسكت زحمة الحديث وننصت لدواخلنا أولاً، فعندما تتراكم تلك الأفكار وتتزاحم لا مجال أن تفهم ما تريد وما تحتاج إليه من أفكارك إلا إذا أنصت.

قال تعالى: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» أي أن تسمع بكامل الاهتمام، وأن تُسَخِّر كل الحواس بأن تصمت فقط لتسمع ذلك الصوت الذي ربما طال الوقت وأنت تبحث عنه.

أنصت؛ فلست بحاجة إلى أن تعد عتاد الرد للدفاع، فمن يحادثك ويتكلم معك لا يرغب سوى بأن تنصت له، وتلك البراعم الصغيرة قد تحتاج منك لحظة حنان فقط إذا أنصت، ومن كلام كبيرنا كل العبر والتجارب والخبرات بين حروفه البسيطة. فتلك الزوجة الصبور كل ما احتاجت إليه هو أن ينصت لها، لا أن يبدأ بصب وبال نصائحه عليها، أما هو فما كان إلا ليجد أذناً تسمعه لا صوت يلومه ويؤنبه.

ولتتعلم الإنصات، مارس تمارين التأمل وخاصة في الطبيعة، فهي تمنحك فرصة أن تهدأ داخلياً تماماً، لتوقف جميع الأصوات بداخلك وتركز فيما تريد. وبرمج عقلك على أن تقول له بصوت حازم «توقف» في حال تزاحمت أفكارك وأصواتك الداخلية.

كثيرة هي المواقف التي مرت في حياتنا، ما كانت تحتاج منا سوى أن ننصت لأنفسنا أولاً ولغيرنا.

Email