اقتران القمر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل الحضارات، تربع القمر على عرش القلوب، لاعتباره إلهاً في البدء لدى الحضارات القديمة، سواء في جزيرة العرب أو في بلاد الرافدين أو مصر وفارس واليونان والرومان والهند... وقد حمل أسماء عديدة، مثل اللات وكمر وسين ونانا وديانا وسيلين وإيزيس...

وكان القمر عند معظم الحضارات أنثى، أي إلهة وليس إلهاً، ولا أعرف لم قُلبت في اللغة مع الزمن ذكراً. لكن من الطبيعي أن الانقلاب الفكري يقابله الانقلاب اللغوي، ومع ذلك، ظل هذا الكوكب فلكياً في سمائنا كما هو في دورته من الهلال إلى التربيع إلى البدر، وما زال مؤثراً كما هو في كسوفه وخسوفه على المد والجزر وأبدان الكائنات وأمزجتها، بل ما زال هذا القمر مؤثراً في الزرع والحصد في الريف حتى الآن، ومنذ اختراع التقويم القمري على يد عالم الفلك المصري الفرعوني «تحوت»، ووضعه الشهور القمرية بمواعيدها الفلكية وأسمائها الهيروغليفية، فاستخدمها الأقباط والمسلمون فيما بعد، ورغم مرور آلاف السنين، لم يسجل هذا التقويم أي خطأ، ولو لمدة ثانية، فكانت الأعياد والمواسم كلها عندهم متزامنة مع الشمس والقمر والفلك والدين، وإلى الآن، فالتقويم الإسلامي قمري، والشعائر الدينية الإسلامية تعتمد على القمر، خاصة في صوم شهر رمضان، وليلة الإسراء والمعراج، والعيد والأشهر الحرم، إلى آخره.

والمفاجأة، فإنه حتى أسماء الشهور الشمسية، تحمل في معناها القمر، فشهر شباط يعني قمر الثلج، وآذار قمر الدودة، ونيسان القمر الوردي، وأيار قمر الزراعة والذرة، ويونيو قمر الورود، إلى بقية الشهور في معناها المقترن به.

القمر، هذا الموروث الميثولوجي الذي سكننا، خرج لنا يوم الأحد الماضي بحجمه الكبير، فاحتفل به الناس فرحاً وتصويراً بعدساتهم، ليصبح الحدث فلكياً بامتياز، يحمل عنوان «اقتران» كظاهرة طبيعية، فقد أخفى القمر كوكب الزهرة من خلفه، ليقترن بالأرض من شدة قربه، ويتزاوج مع كوكبنا.

وباعتبارها القمر أنثى، كما كانت في تاريخها، خرجت في تلك الليلة عروساً فاتنة في جمالها وبهائها وقربها منا، بعد أن حددت لنا مركزية أرضنا ودائريتها التي عرفها الأسبقون، أو إن شئنا، وبمعنى آخر، مكانة القمر في قلب الأرض بعد اقترانهما.

يبقى الخطاب الميثولوجي نابعاً من الخطاب الفلكي القديم، لا العكس... كما أن التاريخ فيه الكثير من القصص والرسوم والآثار عن القمر، فإن زرنا مجمل المتاحف الأثرية حول العالم، نجد التماثيل والقلائد القديمة والأختام والسيوف، يتربع عليها القمر أو الهلال رسماً ونقشاً وحفراً كرمز، ويتمثل هذا الهلال تحديداً، في قرني الثور والوعل، حسب المناطق الجغرافية، لتعبر عن قوة إمكانات القمر في التأثير، كما تجنب الشعراء قديماً في معلقاتهم نبذ أمهم القمر، لكونها وطناً لعشقهم الأمومي، وغرامهم المجازي، لترسم دروبهم وتنير قلوبهم.. ليرث الإنسان هذا الرمز إلى اليوم، كما نرى في استخدام دولنا المعاصرة للهلال في الرايات والمآذن والمباني  كرمز من رموزها.

Email