50 عاماً على صدور كتاب رائد

«الربيع الصامت» يفضح جرائم البشرية ضد البيئة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يسمونه الكتاب "الشرارة".. بمعنى أنه كتاب صدر ليشعل جذوة لاتزال متقدة اللهيب في طول الكرة الأرضية وعرضها.. ورغم أن عنوان الكتاب الذي نقصده جاء فى عبارة بسيطة.. هادئة ولكنها كانت عبارة موحية وتستدعى أكثر من تأمل وأكثر من سؤال. والعنوان هو: الربيع الصامت.

ومن هذه التساؤلات التي أثارها هذا العنوان ما كان يدور حول قضايا من قبيل مايلي:

.. ترى كيف يكون الربيع صامتا؟ .. وإذا كتبت الأقدار الصمت على الربيع، فأين تذهب شقشقة العصافير.. وهديل اليمام وسجع الحمام.. وانتفاضة الشجر بالأزهار والبراعم والثمار بعد إغفاءة طويلة من سبات الشتاء..

وعندما يأتي الربيع صامتا.. فثمة مشكلة.. معضلة.. تلتمس السبيل إلى الحل بكل تأكيد.

والحق.. أنْ كان هذا بالضبط الهدف الذي قصدت إلى تحقيقه والقضايا التي أرادت مناقشتها مؤلفة هذا الكتاب.

هي مثقفة أميركية.. اسمها "راشيل كارسون" تأمَلتْ.. وفكّرتْ.. وكابدت الوحدة بغير زواج وحين وصل عمرها إلى سن السادسة والخمسين.. قررت أن تصدر كتاب "الربيع الصامت".

وكان ذلك على وجه التحديد في مثل هذه الأيام من أواخر شهر سبتمبر من عام 1962. من هنا حرصت الأوساط المعنية.. التي تغطي دوائر السياسة والاقتصاد ودوائر العلم والشأن العام على تذكير الناس بالاحتفال بالعيد الخمسيني.. الذهبي إن شئت لصدور ذلك الكتاب.

تأثير الكتاب

لم تكد تمضى أشهر معدودات على هذا الصدور حتى بدأت تأثيراته تشق طريقها إلى برلمان الولايات المتحدة الذي بادر أعضاء مستواه الأعلى، في مجلس الشيوخ إلى دعوة المؤلفة للإدلاء بشهادتها أمام لجنة الكونجرس الفرعية المعنية بموضوع المبيدات الحشرية، التى حذرت مؤلفة الكتاب الصادر من نتائجها الفادحة.

وخاصة مادة "دي.دي.تي" التي قالت الباحثة كارسون انها تُلحق أبلغ الضرر بجوانب شتى من حياة البشر، كما تؤدى إلى هلاك العديد من الأنواع والفصائل الحية ومنها الطيور التي لم يعد يسمع لها صوت عند قدوم الربيع الذي أصبح صامتا.. بغير نشيد أو هديل أو غناء.

ولقد صدر من كتاب "الربيع الصامت" أكثر من 2 مليون نسخة.. وكانت شهادة مؤلفته أماكم الكونجرس يوم 4 يونيه عام 1963 رغم أن كانت راشيل كارسون أيامها تعاني من ويلات السرطان الذي أنهى حياتها مبكرا وربما دون أن تشهد التأثيرات الواسعة والعميقة التي تسبب فيها صدور الكتاب الذي أصدرته، كما ألمحنا في عام 1962. وربما خفف من آلامها لحظة الإدلاء بشهادتها العلمية في أروقة البرلمان.. ذلك التصريح الذي سمعته من السيناتور الديمقراطي "إرنست غروننغ" وكان ممثلا لولاية آلاسكا وقال فيه:

- ثمة لحظات في تاريخ البشرية تشهد صدور كتاب، فإذا به يؤدى إلى تغيير عميق وملموس في مسار التاريخ..

الوعي البيئي

وهنا تعلق أحدث دراسة منشورة في هذا السياق تقول فى سطورها الباحثة الأميركية "إليزا غريزوولد":

- لقد إستطاعت راشيل كارسون، بغير قصد متعمد من جانبها، أن تؤثر على حركة الوعى البيئى على نحو لم يعرفه العالم من قبل..

بهذه السطور استهلت "إليزا غريزوولد" دراستها المنشورة فى (المجلة الأسبوعية الصادرة عن نيويورك تايمز، الأحد المؤرخ 23/9/2012) حيث ألقت المزيد من الأضواء على أبعاد الرسالة الفكرية والعلمية بل الإنسانية التى أودعتها راشيل كارسون وهى تغالب أفظع آلام المرض. ثم بلورت هذه الأبعاد على النحو التالي:

"..لقد أعلنت كارسون تحذيراتها من مغبة الاستخدام (غير الحذر أو غير الرشيد) للمبيدات قاتلة الآفات.. وذكرت أنه ما إن تدخل هذه المبيدات دائرة المحيط الحيوي الذي يضم الكائنات الحية من نبات وبشر وحيوان فإذا بها لاتقتصر على قتل الحشرات أو الآفات بل هي تمضى كي تشق طريقها إلى سلسلة الغذاء الذي تقتات عليه تلك الكائنات الحية فتهدد بقاء الطيور والأسماك ويمكن أن تؤدى أيضا إلى إصابة الأطفال من البشر بأمراض شتى.

سياق واحد

والحق- تقول إليزا غريزوولد أيضا- أن كثيرا من هذه المعلومات لم يكن جديدا، فقد كان معروفا على الصعيدين النظري والميداني، وكانت الدوائر العلمية قد اطلعت على هذه النتائج لوقت لم يكن بالقصير.. لكن أفضال وإسهامات "راشيل كارسون" الإمبريقية (الميدانية- العلمية) أنها جمعت هذا كله ضمن سياق واحد في فصول كتابها الذي استهدفت به الجمهور العام. وكان أن بدأت بعبارة "الربيع الصامت" عنوانا لكتابها كي تختم مقولات نفس الكتاب باستخلاص نتائج صارخة المحتوى وبعيدة المدى في آن معاً.

وبهذا تضيف دراسة النيويورك تايمز- فى عبارة موجزة وموحية لتقول:

- بهذا.. استطاعت كارسون.. التى جمعت بين صدق المواطَنة وغزارة العلم أن توقد شعلة اسمها البعد الأيكولو أو الوعى البيئي.. ومن ثم رسمت طريقا مازال متعدد المراحل والأبعاد بكل مقياس.

ويكاد ينعقد الإجماع على أن كتاب "الربيع الصامت" الذي تعددت ترجماته إلى لغات عالمية شتى (منها عربيتنا الشريفة التي توفر عليها أستاذ كبير هو صديقنا الراحل الدكتور أحمد مستجير عليه رحمة الله) جاء أقرب إلى مرافعة حارة وصادقة وبليغة لتحذر البشر من أنهم حين يصيبون الطبيعة بالسموم فلن تتورع الطبيعة من جانبها عن أن تسمم البشر على حد سواء.

شهرة عالمية

ولقد بلغت أطروحات الباحثة كارسون من حيث البلاغة والفعالية إلى حد أن لم يلق كتاب آخر صدر على مدار نصف القرن الأخير ما سبق ولقيه "الربيع الصامت" من فعالية وتأثير على قرارات السياسة ومسارات وتوجهات الإجراءات الدولية التي سبق اتخاذها، وما برح يتم اتخاذها، سواء على صعيد فرادى الدول والنظم السياسية في العالم.

أو في إطار منظومة الأمم المتحدة، وكلها مازالت ترى في أفكار وتوجهات وتحذيرات راشيل كارسون ما يشكل "إنجيل" الحركة البيئية، وخاصة بعد أن انتبه العالم كله من غفوة ما بعد الحروب العالمية إلى حيث انعقد في السبعينات أول تجمع دولي معنّى بالبيئة البشرية وقضاياها وهمومها وكان ذلك في استوكهولم عاصمة السويد..

وكان لقاء السويد أقرب موضوعيا إلى التمهيد لانعقاد المجمع المحوري الذي حمل اسم مؤتمر "البيئة والتنمية" الذي ضم ما يكاد يكون جميع دول عالمنا من أعضاء منظومة الأمم المتحدة واحتضنته في يونيه من عام 1992 مدينة ريودى انيرو، كبرى حواضر البرازيل فيما عاودت.

كما هو معروف، الأمم المتحدة في يونيو الماضي بالذات استضافة الطبعة المستجدة من مؤتمر البيئة والتنمية الذي اختارت له المنظومة العالمية عنوان "ريو+20" آية على صدق ما سبقت إليه راشيل كارسون، منذ 50 عاما حين قالت في كتابها بالحرف:

- " إن تصرفاتنا المدمرة الرعناء تدخل ضمن الدورات الشاسعة لكوكب الأرض، ولكنها لاتلبث عبر الزمن أن ترتَد إلينا حاملة المزيد من الأخطار التي تهدد كياننا ذاته.."

من الريف إلى الصحافة

الخير في المجتمع

وربما يجمع بين عمل الاجتهاد العلمي وعمل الإبداع الروائي أن كلا من "راشيل" و "هارييت" كانت تقصد إلى استنفار نوازع الخير في وجدان أهل المجتمع الأميركي.. تلك التي تدفع البشر إلى اتخاذ إجراءات الإصلاح وقد بدأ كل منهم بنفسه، سواء كان إصلاحا يرفض استعباد البشر كما فى كتاب "الكوخ" أو ينّبه إلى ضرورة حفظ البيئة التي يعيش فيها البشر بعيدا عن أدواء التلوث وأخطار التدهور والإنحدار كما فى كتاب "الربيع".

ومن عجب أن تحذيرات "كارسون" إزاء الدمار الذي يُلْحقه البشر بالبيئة بدأت مع عقد الأربعينات، ويبدو أنها استخدمت أو استغلت ما ساد النصف الأخير من العقد المذكور من مخاوف بل هواجس إزاء خطر انتشار الغبار النووي ليعصف بالبيئة البشرية أو يُهلك الحرث والنسل كما يقول التعبير المتواتر. وكانت تلك انشغالات أعقبت ما حدث من استخدام أميركا للقنبلة الذرية في كل من هيروشيما ونجازاكي باليابان فى عام 1945 تحت شعار إنهاء الحرب العالمية الثانية. وهنا تضيف دراسة "النيويورك تايمز ماجازين" قائلة:

- إن كارسون استخدمت الهستيريا التي أصابت تلك الحقبة من أجل جذب اهتمام قارئيها حيث رسمت خطا موازيا بين الخوف من انتشار وتساقط الإشعاع الذرى وبين خطر رأته في تلك الفترة جديدا، ولكنه غير منظور ويتمثل فى كيماويات المبيدات التي رأتها تهديدا مستترا ومن ثم خبيثا لأنه غير محسوس للبيئة التي نعيش بين ظهرانيها..

بين التأييد والتنديد

وكان طبيعيا للدعوة التي تضمّنها كتاب "راشيل كارسون" أن تلقى معارضة.. مريرة فى بعض الأحيان، بقدر ما حظيت بتأييد وقبول وإشادة واسعة النطاق فى أحيان أخرى.

رحلت راشيل كارسون عن الحياة ولما تبلغ السابعة والخمسين بل أمضت سنوات عمرها الأخيرة فريسة للألم الفادح الشديد لكنها تركت للإنسانية صفحات وفصولا لا تنسى .. فمازال لكتاب "الربيع الصامت" أهميته منذ أن رأى النور فى 27 سبتمبر عام 1962.. ويومها تلقفته أيدى القراء..

وخاصة بعد أن كان جمهور "ذي نيويوركر" قد طالع ثلاث حلقات منشورة بالتسلسل في أعداد المجلة المذكورة مما أدى إلى زيادة الشغف بالاطلاع على جميع محتويات هذا العمل الذي لايزال يقف شاهدا على صدق ريادة الفكر وعلى أن العطاء العلمي الذي يقصد خير الإنسانية لا يمكن أن يتبدد أو يضيع.

راشيل كارسون

 عالمة أحياء بحرية وكاتبة علمية أميركية، ألفت عدة كتب تعكس اهتمامها طوال حياتها بالحياة في البحار وسواحل البحار.

أكدت كارسون في كتبها العلاقة المتبادلة بين جميع الكائنات الحية واعتماد الرفاهية الإنسانية على العمليات الطبيعية. ولفت كتابها الربيع الصامت عام 1962 انتباه الرأي العام إلى الاستخدام الضار والمدمر لمبيدات الآفات.

ولدت في سبرينج ديل بولاية بنسلفانيا عام 1907 وتخرجت في كلية بنسلفانيا للنساء في عام 1929م، وحصلت على درجة الماجستير من جامعة جونز هوبكنز في عام 1932م، وعملت في هيئة الأسماك والحياة الفطرية الأميركية.

ألفت أربعة كتب : الربيع الصامت ، تحت رياح البحر ، حافة البحر ، البحر من حولنا. ومنحت في عام 1951 جائزة الكتاب الوطني.

توفيت نتيجة مضاعفات سرطان الثدي وذلك في أبريل عام 1964.

 تطور العلاقة بين الإنسان ولطبيعة

 خمسون عاماً مضت بالضبط على نشر الطبعة الأولى من كتاب الباحثة الأميركية "راشيل كارسون" الذي صدرت ترجمته العربية تحت عنوانه الشهير وهو "الربيع الصامت". ويوم صدور النسخة الإنجليزية بأميركا في 27 سبتمبر من عام 1962.. استرعى الانتباه يومها كيف "طارت جميع النسخ".

- كما قيل- من أرفف المكتبات آية على مدى ما أثارته مقولات الكتاب المذكور من اهتمام جماهير القراء في الولايات المتحدة، وخاصة ما يتصل بالتحذيرات التي أطلقتها المؤلفة إزاء الأخطار التي يُلحقها البشر بالبيئة التي يعيشون فيها، وقد تؤدى تصرفاتهم واستخداماتهم إلى تدمير التوازن البيئي وهو ما يرتد إلى البشر أنفسهم على شكل علل وأمراض تصيبهم من جراء التلوث والدمار الذي يصيب بيئة كوكب الأرض نفسها.

لقد مر الإنسان منذ بدء الخليقة بمراحل مختلفة في تعايشه مع البيئة المحيطة، وبدأ الإنسان وجوده على الأرض وسط الطبيعة التي سبقت وجوده بحقبات زمنية طويلة لا يعلمها سوى الخالق وحده عز وجل، مر الإنسان في البداية بمرحلة الخوف والرعب والقهر من الطبيعة القوية التي كانت تقف إمكانيات البشر الأوائل المتواضعة عاجزة تماما أمام أبسط مكوناتها، وكان الإنسان مطاردا مما حوله من حيوانات عملاقة انقرض أغلبها لأسباب أيضا مجهولة حتى الآن.

ولم يستطع الإنسان لعقود طويلة مقاومة قهر الطبيعة له، ثم دخل في مرحلة التعايش معها مع بداية نشأة التجمعات البشرية الصغيرة حول بقع المياه، حيث ظهرت بوادر أول أنشطة الزراعة وصيد الحيوانات، ثم تطورت هذه المجتمعات وكبرت مع مرور العقود والقرون.

وبدا للإنسان أنه أصبح قادرا على التعامل مع الطبيعة وترويضها وتسخيرها لخدمة أغراضه المعيشية، ولم تعترض الطبيعة على تعامل الإنسان معها، بل ظلت تعطيه ما يريد وبسخاء تام، وظلت العلاقة بين الطبيعة والإنسان هادئة ومثمرة، إلى أن ظهرت الصناعات التي تعتمد على استخدام الطاقة والمحروقات، هنا ظهرت بوادر الخصام والمشاكل بين الإنسان والبيئة الطبيعية المحيطة به.

وخاصة مع بدايات صعود الأبخرة وسحب الدخان والغازات الناتجة عن محروقات الصناعة لتحتل مساحات كبيرة من الفضاء المحيط بالأرض، ولم تشكو الطبيعة من هذه الاعتداءات البشرية والتزمت الصمت لعقود طويلة، لكن الصناعات تطورت وحركة الآلات زادت.

وزادت معها المحروقات وتصاعد الأبخرة وسحب الدخان بالشكل الذي بات يخنق الطبيعة والبيئة المحيطة ويؤثر بشكل مباشر على وجود وصحة الكائنات الحية، ومع تزايد وتفاقم المشاكل البيئية لم تعد الطبيعة قادرة على الصمت والصبر وتحمل المزيد، فاضطرت للرد والثورة والغضب، فزادت الكوارث الطبيعية وكبر حجمها وخسائرها من فيضانات وزلازل وسيول وجفاف وحرائق لمساحات شاسعة من الغابات، ولم يتنبه الإنسان لغضب الطبيعة وثورتها إلا بعد تفاقم المشكلة بالقدر الذي بات من الصعب حلها ومواجهتها.

وفيما تحتفل أوساط علمية على المستوى الدولي بانقضاء 50 عاما على صدور كتاب "الربيع الصامت" فهي إنما تعدّ الكتاب نبراسا لحركة الانتصار للبيئة الكوكبية ودعوة صونها من آفات التلوث من جراء ما ينجم عن الأنشطة البشرية من ملوثات وانبعاثات ضارة فيما لاتزال تلك الأوساط تشهد بالريادة للباحثة "راشيل كارسون" التي وضعت كتابها ومؤلفاتها وأدلت بشهادتها الدامغة أمام لجان الكونجرس الأميركي بينما كانت تعانى من آلام المرض الخبيث إلى حدود لم تكن تُطاق.

Email