نرى توجهاً آحادي الجانب في النظرة إلى التعليم، كان يترسخ بقوة في السنوات الأخيرة، في العالم العربي، وهو جانب تحكمه إلى حد بعيد متطلبات تلبية احتياجات سوق العمل، وتخريج أشخاص بمهارات، تسمح لهم بإيجاد وظائف وتسيير أعمال، تحتاج إليها السوق والشركات إجمالاً، وعلى أهمية هذا التوجه في إعداد خريجين لسوق العمل.
إلا أن تأثيره على التعليم كان أعمق بكثير، ذلك أنه كان يجري على حساب إهمال كل ما يتعلق بالعلوم الإنسانية من آداب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة، أي كل ما ينمي الاحتياجات المعرفية النفسية والروحية والأخلاقية للإنسان.
والحال أنه منذ أن أصبح منطق الشركات والأرباح يطغى على منطق الدولة، والمواطنة في العالم العربي، والتعليم يتحول إلى مجرد أداة لسوق العمل، وكان طبيعياً بالتالي أن تتفوق اللغة الإنجليزية على لغتنا، وأن تصبح إدارة الأعمال والكمبيوتر والعلوم والإعلام في أعلى اهتمامات مدارسنا وجامعاتنا على حساب الآداب الإنسانية التي يقولون: إنها لا تساعد الطلبة في التنافس في الاقتصاد العالمي، ولا تؤمن لهم وظائف عالية الأجر.
لكن ماذا عن الجوانب الفكرية والأخلاقية، التي كانت دوماً جزءاً من التعليم، فهل لنا أن نتصور مجتمعاً لا يهتم طلبته في الفيزياء النووية بتأثير مداركهم على حياة الشعوب، ولا يعنى أطباؤه ومعلموه بأي رسالة أخلاقية سوى اللهاث خلف المال، ويغفل مديرو شركاته بتأثير مبادلاتهم في إفقار المجتمعات.
والملاحظ أنه منذ أن بات الهم الأساسي للتعليم تلبية احتياجات سوق العمل، بدلاً من إعداد أجيال جديدة مشاركة في حل قضاياها الاجتماعية، غاب الدور التوجيهي للمعلم، وكف الطلبة عن مناقشة مواضيع تاريخهم وثقافتهم، وأصبح جل اهتمامهم النجاح، والحصول على المال.
وللتعليم سلطة لا يستهان بها في توسيع المدارك الفكرية، والاطلاع على التجارب العالمية، ونشر قيم المسؤولية المجتمعية والخدمة العامة والعدالة والتسامح والمفاهيم الإنسانية، وربما دوره الأكبر هو في تحكيم العقل، ونشر التفاؤل بشأن قدرة الإنسان على حل مشكلاته من جوع وفقر وحروب بجهوده الذاتية، والتفاؤل ضروري لاجتياز هذه الفترة المثيرة للقنوط، والقاحلة فكرياً، والغارقة إما في الغيبيات وإما مؤشرات الاقتصاد العالمي.