خيول جامحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة جدارية تتداخل فيها الحروف مجتمعة، كأنها جحفلة من خيول حرة عطشى تجمح اندفاعتها قبيل مسيل ماء؛ وكلما رأيتها تذكرت رجلاً عرفته خلال حياتي في مهنة الصحافة، قادته مراهقته الجامحة إلى التفاوض مع الملياردير اليوناني الشهير قسطنطين أوناسيس، في حادثة خلدتها عدسات مصوري الصحافة العالمية.

كان شاباً اختطف طائرة يونانية في السبعينات. وصدف أن ملكيتها تعود إلى أوناسيس، الذي جاء بكل جدية يعرض نفسه رهينة بديلة عن ركاب طائرة، قائلاً أنهم في حكم ضيوفه والمحتمين ببيته واسمه، في مناقبية أثارت الخاطف الشاب، فاكتفى بكلمة شرف من الملياردير الأسطوري بالسعي لتحقيق مطالبه، وأفرج عن الركاب الرهائن.

بعد انتهاء الحكاية، وعودة الخاطف إلى بلاده، أرسل له أوناسيس رسالة بريدية يشكره فيها على استجابته. ولا أنسى رسم حروف الرسالة التي كتبها امبراطور النقل البحري بخط يده، لا سيما تلك الجملة الافتتاحية المهذبة التي يخاطب بها الخاطف بـ«سير»، والختامية التي يقول فيها بالإنجليزية: «حفظك الله». ويرد عليه الخاطف السابق برسالة يقول فيها: «بل الشكر لك سيدي، أنك سعيت بتصميم مخلص وصادق أن لا تتلطخ يداي، أنا الشاب المندفع، أو قضيتي، بدماء الأبرياء».

لاحقاً تحول الخاطف السابق إلى رجل أعمال ناجح. ووصل التوفيق به إلى بدء مشروع طموح تجسد بإنشاء مصنع لتجميع السيارات في الأردن.

من المدهش أن الخاطف السابق، تحول إلى ناسك متأمل وفنان تشكيلي. وكرس وقته لمشروع إقامة أكبر معرض في التاريخ لفنان واحد، يضم ألف لوحة، كان رسمها فعلاً.

أتذكر لليوم أن هذا الرجل قال لي مفسراً تجربته في اختطاف طائرة أوناسيس: «لقد كانت لدي انحيازات ضيقة حادة، ولكنني لاحقاً بعد تجربة التفاوض مع أوناسيس، أدركت أنني كنت مجرد شاب جامح يحاول أن ينتمي إلى العالم والإنسانية، ولكن بأدوات فادحة».

وبالنظر إلى تقلبات تجربة هذا الرجل الذي عرفته، وكلما تذكرت تلك اللوحة، أفكر في نفسي: يمكن للمرء أن يكون جامحاً، دون أن يهرق قطرة دم واحدة، تماماً مثل الخيول، أو مثل الحروف التي تجمح حينما تفاجؤها فكرة مذهلة!

Email