تلويث الحرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعيش الحريات أسوأ عصورها، بما لا يثير جدلاً بين اثنين، على أن التجني عليها لم يعد قصراً على دولة دون أخرى، ولا قصراً كذلك على دول تمارس الجبر على أفرادها، فما يصم عصرنا أن التجني على الحرية يمارسه مجتمع دولي بكامله، على دول وجماعات تعيش بأسرها مقيدة بسلاسل ما تحدده القوى الدولية من مفاهيم.

ورغم ما قد تظهره الثورة الكبرى في الإعلام، وتطور تقنياته التي لا يمكن تقييدها في الظاهر، والانتشار الواسع لشبكات التواصل، من محاسن على مستوى الحريات، إلا أن هذا الانتشار كان في مجمله مظهراً للتعدي على الحرية، فكان في ذاته كذبة كبرى تشيع الأكاذيب والخداع والتضليل، من خلال الفوضى غير المحكومة بأخلاقيات، والتي لم تعد تطلب حتى قيماً مثل المصداقية والموضوعية، سوى أن تترك الحبل على الغارب لكل النوازع الذاتية والرؤى الفردية.

هذا واحد من الأسباب للحالة المزرية التي تعيشها الحريات اليوم، فالتقنية التي تقود ثورة الإعلام وحرية التعبير هذه، تحتكرها قوى دولية بعينها، وتستغلها أبشع استغلال في التجني على أول حقوق الإنسان في الخصوصية، وتتلصص من خلالها على الجميع دولاً وأفراداً.

وأبعد من ذلك، فهذه القوى التي تنتهك الحقوق داخل دولها وفي الخارج، إنما هي ذاتها التي نصبت نفسها حامية للحقوق والحريات في العالم، وتتنطع بخوض الحروب لفرض الديمقراطية والحرية. فالولايات المتحدة الأميركية تصدر بين سنة وأخرى تقارير حول الحريات الدينية وحقوق الإنسان، تنتقد فيها بشدة دول العالم بأسره، قافزة عن الكارثة التي تلحقها هي بالحرية، وأن تخرج دول مثل الصين وروسيا لتنتقد هذه التقارير، وتفند أساسها، وإن كان في انتقادها أوجه حق كثيرة، وهي الدول التي لا تقيم للحرية داخلها أو في تعاملها مع قضايا الدول الأخرى أي وزن للحرية، فهذا يعني أن الحرية أصبحت حكراً على القوة، وهو ما يحمل تناقضاً ولا منطقاً، فيه من السخرية مثل ما فيه من الشجن، إذ تطلب الحرية في أول مظاهرها التخلص من قيود القوة وما تفرضه بالجبر.

كل ذلك وأكثر، من ممارسات الدول مدعية حماية الحريات، وحتى المنظمات التي توهم بأنها غير حكومية وغير تابعة لدول بعينها، يكرس سبباً عميقاً يوماً بعد يوم لكفر الجميع بالحرية ومفاهيمها المطاطة ومعاييرها التي تكيل بألف مكيال، وتكون طوعاً فقط للقوي من أجل فرض مصالحه.

هذه الممارسات أبشع بكثير من الدكتاتورية والقمع المباشر، لما تتركه في وعي الإنسانية جمعاء من مفاهيم ملوثة حول معانٍ سامية. وعلى هذه القوى التي تدعي صوناً ونشراً للحرية، أن تترك الحرية وشأنها إذا أرادت لها حقاً أن تحيا.

 

Email