الموقف الروسي في الشرق الأوسط

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتميز الإنسان الروسي بقدرته على الصبر إزاء الأحداث والاستعانة بالزمن لتتضح الصورة وخاصة حين تختلط الأشياء وتتساوى الاحتمالات. إنهم يتريثون كثيراً قبل اتخاذهم الموقف. وفي روايته «الحرب والسلام» كتب تولستوي عن هذه الصفة، وهذا ربما يفسر الموقف الروسي إزاء الأحداث في الوطن العربي. كما تفسرها مصالح وطنية روسية أخرى، بسبب عشرات المليارات من الديون.

تريد روسيا الوقت لمعرفة ما سيتم. لكنها عندما تتخذ قراراً فسوف يكون صلباً وحاسماً. تنظر موسكو بعين الشك إلى الثورات العربية، فلم تحدد موقفها حينما كانت الثورتان التونسية والمصرية في أوجهما، كما لا تزال تنتقد عمليات الناتو ضد نظام القذافي.

الثورات العربية فاجأت روسيا كما فاجأت العالم أجمع بسرعة تواتر أحداثها، وانتقالها السريع من منطقة لأخرى دون سابق إنذار. وهنا يلاحظ التجاهل لصانعي القرار في روسيا. حيث البداية كانت في الثورة التونسية إذ كانت الاستعدادات تعم روسيا للاحتفال بالعام الجديد..

ومضى أكثر من أسبوعين عما حدث هناك، دون أدنى ذكر لكلمة مظاهرات على المستوى الإعلامي، حتى جاء خبر رحيل الرئيس التونسي السابق بن علي ليزيد من الموقف الروسي حيرة ودهشة مما حدث وتساؤلات عن أسباب ما حدث، وتخبط واضح على المستوى السياسي.

روسيا ترى الثورات التي عمت بعض الدول العربية على أنها تطورات داخلية، وتعتقد أن هذه الثورات تحدث في بعض الأحيان كتحركات طبيعية نتيجة التطورات الداخلية لهذه الدول. وعلى هذا الأساس فإن موسكو تتعامل معها في إطار عدم الإخلال بالاستقرار السياسي والأمني في المنطقة.

كما تشدد على عدم إخلال هذه الثورات بالالتزامات الداخلية لهذه الدول في علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى بما في ذلك روسيا. كما تؤكد دائماً على عدم تدخل الدول الأخرى في الشؤون الداخلية لهذه الدول إلا عن طريق القرارات الصادرة عن المؤسسات الدولية كمجلس الأمن، وعلى هذا الأساس فإن روسيا تقف موقف المحايد باعتبار أن هذه التطورات هي شأن داخلي لهذه الدول.

ربما لن يحدث ذلك في روسيا، فمن غير المرجح أن يتأثّر الروس بالعرب، الذين يعتبرون أنهم ينتمون إلى ثقافة مختلفة تماماً، فالثورة البرتقالية في أوكرانيا قبل سنوات عدة وقعت بالقرب من روسيا، كما أن الزيادة المفاجئة في أعداد الشباب التي أثارت موجة من الحيوية في الدول العربية ليست واضحة في روسيا. ثمة إحساس بأن ما حدث تم اختباره من قبل.

«بحسب الروس»، ألم يُسقِط الشعب الروسي، في القرن الماضي، النظام الشيوعي، على أمل إنجاز الديمقراطية، والتي فهمها الكثيرون على أنها حرية؟! منذ ذلك الحين، أصبح العديد من الروس أكثر ثراءً وأكثر حذراً إزاء الثورات الجماهيرية التي غالباً ما تُستَهَلُّ بحالة من الفوضى.

من الواضح أن الحكومة الروسية تفهّمت هذا الأمر، ولم تحاول التقليل من أهمية بث التقارير عن الثورات العربية على شاشات التلفزة الروسية، وهو ما يعدّ وسيلة رئيسة للسيطرة السياسية. ومع ذلك، فقد تمّ التركيز على الفوضى التي تخلقها تلك الثورات.

موسكو التي تراقب التوازنات العالمية تجد بعض العزاء في أنه مهما حدث، فإن المواقف الجيوسياسية والسلطة المعنوية لواشنطن في الشرق الأوسط أصيبت بأضرار جسيمة، و من المرجح مستقبلاً أن تكون مصر وتونس أقل ميلاً إلى الغرب، وأكثر محلية، وأعمق جذوراً، وذات نكهة أكثر إسلامية، ولها روابط جديدة مع الصين. وباختصار، من المرجح أن تكون أكثر قبولاً للتعددية القطبية واستشرافاً للمستقبل.

روسيا تنطلق من ضرورة الاستقرار السياسي ومعالجة كافة القضايا لما يسمى مصالح الشعوب العربية. ولكن هذا لا يعني إطلاقاً عدم دعم ما يسمى بالثورات العربية «حسب رأيها». هناك القضايا المعقدة جداً والفصائل السياسية والدول العربية المختلفة ولكن، ليس من المهم دعم القوى الكبرى دون دعم القوى الأخرى. موسكو مع الاستقرار السياسي والوفاق القومي والمصالح الإجمالية وضد التدخل الغربي، هذا هو الموقف الروسي.

Email