راحلون.. باقون في ذاكرتي الباريسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ مغادرتي باريس، إلى الإمارات العزيزة عام ‬2004، وأنا أراقب الأخبار الآتية منها، وخاصة الأدبية، لأنها اختمرت في عقلي ووجداني منذ ثلاثين عاما بأدبائها وثقافتها وفنونهاً. وفي كل مرة، يعتصّر قلبي ألماً، وأنا اقرأ رحيل أحد هؤلاء الكتّاب والأدباء العمالقة الذين أجريت معهم حواراتي التي نُشرت في الصحافة العربية آنذاك. وأسباب هذا التعلق هو أن علاقتي بهم لم تنته بمجرد انتهاء تلك الحوارات، فقد تواصلت معهم على الدوام: منهم من ألفت عنه كتاب حوارات ألن روب غرييه، مثل رائد الرواية الجديدة، بعنوان«الجن والمتاهة»، وسافر معي بصحبة زوجته لزيارة بغداد. ومنهم من زرته في بيته مثل الكاتب أدمون عمران المليح، أيام كان يسكن في شارع راسباي بجوار كل من الراحلين: يوجين يونسكو وجورج شحادة اللذان حاورتهما أيضاً. ومنهم من التقيت به في فندق لوتيسيا مثل الفيلسوف جاك دريدا، والفيلسوف عبد الرحمن بدوي، الذي وجد مأواه في غرفة صغيرة فيه. ومنهم من التقيت به في المهرجانات الثقافية مثل ادوارد غليسان. ومنهم من قابلته في مقهاه المفضلة مثل ألبير قصيري في «دي ماغو»، أو محمود درويش في مقهى سارة بيرنارد، ومنهم من قابلته في دار النشر، مثل الكاتبة المصرية، بالتعبير الفرنسي، أندريه شديد التي رحلت قبل أيام. ومنهم من سكن معي في شقتي لفترة وجيزة مثل الصديق الروائي المغربي باللغة الفرنسية، محمد خير الدين.

ألن روب غرييه، جاك دريدا، البير قصيري، أدمون عمران المليح، يوجين يونسكو، جورج شحادة، أدورا غليسان، محمود درويش، محمد خير الدين وأخيراً أندريه شديد..هؤلاء رحلوا في غضون أعوام وجيزة، وتساقطوا مثل أوراق الأشجار في الخريف الواحد تلو الآخر. رحلوا لكنهم بقوا في ذاكرتي الباريسية.

أتذكر الأوقات التي أمضيتها معهم، رغم قصرها لكنها كانت كثيفة في المعنى والوجود والتأمل، ونحن نتكلم عن عالم الأدب الجميل تحت رعشات آلة التسجيل القديمة، بأشرطتها الملموسة وليس الرقمية الافتراضية، التي ما زلت أحتفظ بها مع كتبي وصوري وأرشيفي في باريس.فأنا شديد التعلق بها لأنها جزء من ذاكرتي، وأتذكرها كل شهر لأنني أسدد عنها مستحقات الإيجار إلى أن يتم نقلها إلى مكان ما أو لا يتم. أتذكر هؤلاء العباقرة، وترتسم أمامي صور وجوههم وتعابيرها، وردود أفعالها، وهم يردون على أسئلتي في البيوت والمقاهي ودور النشر. كنت استمتع بإعادة الاستماع إلى أشرطة تسجيل حواراتهم وكأنني أستمع إلى سمفونية موسيقية، قبل القيام بترجمتها وتقديمها إلى القارئ العربي. كنت أدلف إلى عوالم كتاباتهم، عبر تلك الحوارات التي لا يرغبون فيها على الأغلب. تعلّمت منهم الكثير، وأنا أطرح عليهم الأسئلة تلو الأخرى: التواضع والانشغال بعالم الكتابة، هذا العالم الخالد الذي لا يجدون فيه مكاناً لهم.

ما أثار في نفسي هذه الشجون هو رحيل الروائية المصرية الأصل، أندريه شديد، قبل أيام، التي أعد الراحل يوسف شاهين روايتها «اليوم السادس» والذي أجريت معه حواراً في باريس هو الآخر. وعن هذه الرواية، قالت لي: «كنت في فرنسا عندما انتشر مرض الكوليرا في مصر، وعرفت ما أحدثه هذا المرض بالناس، فذهبت إلى هناك وجمعت العديد من الوثائق.روايتي خيالية رغم أحداثها الواقعية».

ما زلت أتذكر في دار فلاماريون، قولها « نكتشف الأمل في الروايات حيث كنت أقرأ في الخفاء التراجيديات الإغريقية التي كانت ممنوعة علي آنذاك، لكني أحببت قراءتها أكثر من الكتب الأخرى منذ طفولتي». وعبر شخصيتي نفرتيتي وأخناتون، ومن «اليوم السادس» حتى «الآخر»، كان الأمل يتألق في دنيا الرواية.

«لا تزال كلماتها ترّن في أذني» حالتنا تشبه ما أطلق عليه ميلان كونديرا «المنفى الاختياري»، فقد عاشت ورحلت في منفاها ولكن مصر ظلت تنبض في شرايينها حتى آخر أنفاسها.

 

Email